جاء انعقاد مؤتمر «هرتسليا» الذي يقيمه المركز متعدد التخصصات، هذا العام، في سياق الخطة السنوية التي أقرّها الطاقم العسكري ـ السياسي، الذي يصوغ أهم التقارير الاستراتيجية في كيان العدو الصهيوني. تلك التقارير التي تعتمد عليها النخبة الحاكمة لرسم سياساتها المحلية والإقليمية والدولية. وإذا كان عنوان أول دورة للمؤتمر قد حملت «مؤتمر هرتسليا للمناعة القومية» فإن الدورات اللاحقة ما زالت مسكونة ـ حتى الآن ـ بتحديد شروط تلك المناعة.مستوطنة «هرتسليا» الواقعة على شواطئ البحر المتوسط، شمال مستعمرة «تل أبيب»، تشهد سنوياً منذ عام 2000 انعقاد جلسات المؤتمر، الذي يعود الفضل في إطلاقه للبروفسور/ الجنرال، عوزي آراد، الضابط السابق في جهاز الموساد ورئيس مجلس الأمن القومي السابق، وأحد كبار المستشارين السياسيين لبنيامين نتنياهو. ويحضر المؤتمر حشد من القادة العسكريين والسياسيين، بينهم رئيس الكيان ورئيس وزرائه، وقائد الجيش والأركان وقادة الأجهزة الأمنية والمخابرات، إضافة إلى قادة أحزاب وكتل ائتلافية وعدد من المرشحين الرئيسين للمناصب السياسية القيادية. كما يشارك فيه متقاعدون من مراكز قيادة أمنية/ عسكرية، تفرّغوا في مراكز دراسات وأبحاث تعمل على وضع الخطط النظرية لتقديمها لصناع القرار في الحكومة والمنظمات الصهيونية داخل الكيان وخارجه. هذه الخطط تناقش أفضل الطرق وأنجعها للحفاظ على «أمن الكيان» من «الأخطار التي تتهدده داخلياً وخارجياً».
يعتبر هذا المؤتمر من أهم المؤتمرات التي تُقام، لكونه معنياً بالدرجة الأولى بالشؤون الاستراتيجية التي تشكل أسس السياسة التي تنتهجها حكومات العدو. كما تبرز استثنائية دوره، من خلال المشاركة الفعّالة لوزراء خارجية عدد من الدول، بالإضافة إلى صنّاع الرأي من أجهزة الإعلام والمنظمات غير الحكومية. وقد ظهرت في مؤتمر عام 2003، أول مشاركة عربية (من داخل الجزء المحتل عام 1948)، ليعود عام 2004 ويشهد حضور قيادات من الصف الأول في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير (منهم أمين سر اللجنة التنفيذية السابق، ياسر عبد ربه). أما مؤتمر عام 2007 فقد شارك فيه رئيس وزراء السلطة، سلام فياض، قبل أن تكرّ سبحة الحضور في الأعوام اللاحقة من عدد من الأقطار العربية المطبّعة مع العدو وبعض الفلسطينيين.
في المؤتمر الذي عقد مؤخراً تحت شعار «أمل اسرائيل: رؤيا أم حلم»، في مقر رئيس الكيان، رؤبين ريفلين، ما بين 14-16 حزيران/ يونيو2016، كان الشعار تعبيراً عن «رؤيا» ريفلين، في مؤتمر عام 2015، عندما شدّد على ضرورة التأسيس لـ«هوية إسرائيلية جديدة في دولة إسرائيل اليهودية والديمقراطية»! كانت تلك الرؤيا حاضرة في جلسة الافتتاح ـ خاصة في الكلمة التي ألقاها ريفلين ـ من خلال ما تم طرحه عن تلك الهوية الجامعة المرتكزة على أسس «القبائل الأربع» ـ وفق ما سماها ريفلين ـ التي تستند على «الحريديم والعرب والعلمانيين والصهيونية الدينية» المكونة لذلك التجمع. لهذا، لم تكن تلك التوليفة قادرة على الاستمرار حسب رأي صاحبها، بدون بناء الهوية المشتركة تحت سقف «الدولة»، مع الحفاظ على الهويات الإثنية، انطلاقاً مما يراه، وهو «ضرورة أن يتحمل العرب والحريديم المسؤولية في تقاسم العبء القومي للدولة وضمان المساواة في اسرائيل اليهودية والديمقراطية».
نهج الاستسلام
والتنسيق الأمني هو آلة التفريخ
لكل ذلك العار

العديد من الكلمات التي طرحت في المؤتمر أشارت إلى حزمة الأخطار التي تعصف بالفكرة الوجودية للكيان، خاصة مايتعلق بالتطوير الهائل في قدرات المقاومة (حزب الله في لبنان)، والنقص الكبير في استعدادات الوضع الداخلي لامتصاص رشقات الصواريخ الأولى التي ستضرب تجمعات العدو، والاجتياح شبه المؤكد لأراضي الجليل المحتلة. كما أن بعض المتحدثين رأى في حالة الانفراج (التطبيع) التي تتم سراً وعلانية ما بين بعض «العواصم العربية السنية» وحكومة العدو، إشارة ذات دلالة بالغة على دور الأسرة الحاكمة في الرياض وتوابعها في عدة أقطار عربية، لحرف بوصلة الصراع إلى جهة أخرى تخدم المخططات الإمبريالية والصهيونية.
كلمة رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، هرتسي هاليفي، سلّطت الضوء على وضع الكيان: «من جانب الوضع تحسن. فنحن أقوى من الجهات المحيطة بنا، ومع ذلك فإننا نعيش في بيئة معقدة، وبكلمة واحدة الوضع «تحسقد»، أي تحسن لكنه تعقد. حزب الله قوي ولكنه لن يجازف بمعركة جديدة». أما كلمة أبرز الضيوف، هنري كيسنجر، فقد حملت شحنة كبيرة من التشاؤم: «أنا مذعور إزاء مستقبل إسرائيل واليهود… في المدى المنظور إسرائيل هي الأقوى في المنطقة، لكنها ستواجه تحديات كبيرة على المدى البعيد، إلى جانب وجود فرص جديدة مع بعض الدول العربية التي تتعاون حالياً معها في بعض الجوانب الخاصة». واللافت في المؤتمر، كان كلمات وحضور، دور الأجهزة العسكرية والأمنية للعدو في العمل المباشر داخل منظومة القوى المسلحة التي تخوض معارك واسعة مع الجيش العربي السوري، وهذا ما تأكد بحضور «ممثل عن الفصائل المسلحة العاملة في جبهة الجنوب السوري» (عصام زيتون).

مشاركة العبيد... شهود الزور

جاءت مشاركة العرب واضحة من خلال حضور سفراء مصر والأردن، وأعضاء كنيست العدو ومدير مركز أبحاث في الدوحة... كذلك حضر عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ووزير العمل في حكومة سابقة للسلطة، وأمين عام أحد جناحي «جبهة النضال الشعبي الفلسطيني»، أحمد مجدلاني. الكلمة التي ألقاها مجدلاني، جاءت «ركيكة وضعيفة» كما وصفتها صحافة العدو، بل كانت التعبير الأوضح عن «دونية» المُستَعمَرْ تجاه المُستَعمِر، وفق تعبير فرانز فانون. وهذا ما نلاحظه في الفقرة التالية: عندما تلقيت الدعوة للمشاركة بأعمال مؤتمر هرتسليا السادس عشر، والمنعقد ما بين 14-16 من شهر حزيران الحالي، لم أتردد للحظة عن المشاركة لإلقاء كلمة أخاطب فيها هذا الجمع من أكاديميين وساسة ومفكرين، انطلاقاً من قناعتي بأن من يبحث عن السلام العادل والشامل يجب أن يذهب إليه ولو كان في آخر العالم...»، هكذا لافُض فوه، لم يخاطبهم ـ مع التأكيد على رفض المشاركة حتى لو تضمنت الكلمة أكثر المواقف وطنية وثورية ـ كغزاة وفاشيين يحتلون أرض الوطن، بل كتجمعات للسلام ما زالت تعيش على وهم فكرة التأسيس والوجود! جاء يبحث عن السلام مع قتلة أبناء شعبه، ودماء مئات الشهداء خلال الأشهر الأخيرة، وعذابات الجرحى والأسرى والعائلات التي تحرق وتُهدم بيوتها وتُدمّر أشجار زيتونها، لم تمرّ بذاكرته. في ذات الوقت الذي تسعى فيه العديد من القوى المناضلة في العالم لتشديد المقاطعة على الكيان، يحضر العبيد وليمة السادة، كخدم وكضرورات للمشهد الذي يؤكد دونيتهم.
مؤتمر هذا العام، ليس الأول الذي يشارك فيه أعضاء من اللجنة التفيذية ـ فاقدة الشرعية القانونية ـ لمنظمة التحرير الفلسطينية. لكن الأسئلة التي يجب أن يطرح: هل هذه هي منظمة التحرير؟ ماذا بقي من ميثاقها؟ وما علاقة هذا الإطار الشكلي الذي يُستدعى «ختماً» لتمهر فيه كل اتفاقيات الاستسلام والذل؟ ماذا تبقى من شعار تأسيس المنظمة (وحدة وطنية ـ تعبئة قومية ـ تحرير)؟ هل للفصائل المشاركة بهذا الهيكل الشكلي المُستخدم من سلطة الحكم الإداري الذاتي المحدود، لتمرير التنازلات وارتكاب الخطايا، أن نسمع إجابتها؟
تغيّرت الوجوه الفلسطينية التي حضرت عدداً من مؤتمرات هرتسليا، لكن نهج الاستسلام والتنسيق الأمني المقدس والتبعية لجبهة الأعداء ـ مهما اختلفت الأسماء ـ هو آلة التفريخ لكل ذلك العار.
* كاتب فلسطيني