لا بد من توجيه كلمة شكر (يفضَّل أن تكون حارة!) لأقطاب «طاولة الحوار» على «تضحيتهم» الجديدة المتمثلة باقتطاع ثلاثة أيام (في أول آب «اللهَّاب» القادم) من وقتهم الثمين جداً، من أجل البحث في شؤون وشجون البلاد والعباد. استدعى ذلك، بالطبع، أن يقدِّم بعض الأقطاب إجازتهم السنوية إلى أواسط شهر تموز القادم (لا بأس من ربطها بعطلة عيد الفطر غير السعيد هذه السنة أيضاً بسبب ما يجري من حروب وقتل ودمار وتشريد وتطرف وقلَّة هيبة ومسؤولية في العالمين العربي والإسلامي). والربط، أي التمديد، شائع ومستحب عموماً وخصوصاً من قبل قسم من الأقطاب الذين أنعم الله عليهم بـ«مرقد عنزة» ويزيد في بلاد الذوات على شواطئ «الريفييرا» الفرنسية وأخواتها. كما قد يستدعي، بالنسبة للبعض الآخر، ممن قد يفتقرون، حتى الآن، إلى امتلاك فيلات ومنتجعات فاخرة في أرقى وأجمل أماكن البذخ و«البطر» في العالم، تأجيل عطلتهم إلى ما بعد «طاولة الحوار» ومتاعبها وقلة إنتاجيتها منذ أن بدأت قبل عشر سنوات وحتى جلستها الأخيرة. فقد حفلت تلك الجلسة بتحذيرات الرئيس نبيه بري الذي ربما ذكَّر الجالسين سعيداً حول الطاولة بأنه «لولا الطائفية لسحبنا المحتجُّون من مخادعنا» في أواخر آب الماضي! معروف أن الرئيس بري كان قد أطلق هذه العبارة بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية إثر تراكم النفايات في الشوارع، قبل سنة، بسبب الصراع على تحاصص صفقات وسرقات الخزينة والبلديات والمواطنين عبر عملية جمع النفايات بأفشل الطرق وأكبر التكاليف والأضرار المالية والبيئية والصحية...يزيد من حجم تضحيات «الأركان» أن جلساتهم غير ممتعة. كلها نكايات، «وحط عالعين»، وتوتر، واتهامات، وتكرار لمواقف ونغمات باتت معروفة من القاصي والداني. ليس هذا فقط بل أن الإزعاج قد يأتي، أحياناً، من الخارج أيضاً. ألم يتعرضوا لبعض المضايقات على يد «سوقة» المحتجين ممن تحركهم أصابع «خبيثة» تحاول أن تستغل الأوضاع للاصطياد في المياه العكرة ما بين هؤلاء الأقطاب. لقد جمع ووحّد الأقطاب، دائماً، رغم خلافاتهم على الحصص والمناصب والنفوذ، الحرص على تكريس وتقديس النظام السياسي اللبناني ذي «الصيغة» العجيبة الفريدة التي تلقى رواجاً منقطع النظير، هذه الأيام، حيث لن يكون من بديل سواها (بعد نجاح نموذها المذهل في العراق!) لإيجاد تسويات ناجعة لما تعانيه معظم دول المنطقة من احتراب وتفكك وانقسام وتطرف ومجازر ودمار وتشريد...
ثم ألا يدرك اللبنانيون أنه بفضل تلك «الصيغة» وحرص «الأقطاب» قد أمكن تجنيب لبنان الكوارث التي تجرع خسائرها ومرارتها سابقاً والتي تضرب معظم دول المنطقة دون رحمة؟ صحيح أن حوادث خطيرة قد وقعت من قبل وقد تقع اليوم أو غداً. لكن البلد آمن بشكل عام، وأحواله مقبولة رغم شلل مؤسساته التشريعية والتنفيذية واستتباع سلطاته القضائية. وبالمناسبة، كيف لهذه السلطة الأخيرة أن تعمل وأن تكون قادرة وفعّالة طالما أنها جزء من «تركيبة» البلد وخلطته السحرية العجيبة. ثم هذا الكم من الملفات التي لا ينتهي أولها حتى يبدأ ثانيها وثالثها ورابعها... هؤلاء القضاة بشر: لا بد أن يراعوا أوضاع البلد وخصوصياته، والفضائح لا تعالج بمزيد من الفضائح... حرصاً على سمعة لبنان وعلى توازناته «الوطنية» وعلى «كرامة» مكوناته، وعلى «قيم» اكتسبها أو كرَّسها اللبنانيون وأهمها «الشطارة»، ومعادلة لا «غالب ولا مغلوب»، و«التفهم والتفاهم»... ثم أن الفضائح، كما يسميها بعض المتفلسفين، تمر سريعاً: خير إن شاء الله! لقد مرَّ الكثير منها في الماضي، والجديد يمكن استيعابه بالأريحية والصبر والحرص على «الشراكة»؛ فالفساد بالسوية عدل في الرعية!
ثم أين يجد المحتجون مناخاً كالمناخ الأريحي والمنفتح القائم في البلاد. صحيح أن بعض القمع كان قاسياً، لكن لم يبق أحد في السجن. بعض الإصابات والإعاقات قد يقع أضعاف أضعافها في حوادث السير وإطلاق النار في المناسبات السخيفة وغير الوطنية التي ينشط فيها الرصاص الأعمى. لا بد من الاحتفاء والترحيب بالقادة حين يطلُّون أو يحققون النجاحات والانتصارات. أما ابتذال الابتهاج إلى مستوى إطلاق الرصاص في مناسبات متواضعة وفردية وعائلية فهذا مسؤولية المواطن لا المسؤول، وعلى الدولة أن تتعامل مع ذلك بمنتهى الشدّة والحزم منعاً للتمادي وقمعاً للإخلال بالانتظام العام.
ثم، أيضاً، ماذا يريد المحتجون؟ كل واحد منهم يغني على ليلاه. يتسابقون على الصورة وحب الظهور ومخاطبة الجمهور ولو كان من بضعة أشخاص. صحيح أن أعدادهم كانت مقلقة، لكن أخطاءهم خير من يساعد «الأقطاب» على عدم المضي في تحركاتهم حتى تحقيق أهدافها. يبدأون بالآلاف، وربما أكثر، ثم تتراجع أعدادهم إلى ما لا يتجاوز أصابع اليدين. أما أحزاب التغيير المزعوم والمزعومة، فهي خير حليف: بضعفها وتشتتها وتبعية معظمها لأطراف السلطة في تحالفي 8 و14 آذار... صحيح أن هذين التشكيلين الآذاريين قد ضعُفا وأصابهما شيء من التصدع والانهيار، لكن ما يجمعهما يبقى كبيراً. وهما، في اجتماعهما، قادران، بسهولة، على احتواء أي حركة احتجاج بالترهيب والترغيب أحياناً، وبالتجاهل، في أكثر الأحيان، خصوصاً إذا كانت هذه الحركة غير منظمة وغير قادرة على مواصلة عملية احتجاج طويلة الأمد، أي فعّالة وضاغطة.
ومع ذلك، يقول حكماء الأقطاب وأصحاب الخبرة فيهم: الحذر واجب. قد يصبح المحكومون غير قادرين على العيش في ظل الوضع المتردي الراهن. ذلك يُحيل إلى معادلة قائد الثورة البولشفية لينين. لكن لينين اشترط أيضاً أن يكون الحاكمون غير قادرين على ممارسة الحكم أيضاً. والحال ليس كذلك في لبنان، اولاً، بسبب ضعف وتشتت المعارضة المنظمة، ثُم بسبب قدرة الحكام، رغم الشلل والضحالة والتضليل، على استلال وتفعيل سلاح العصبيات الطائفية والمذهبية لإعادة الأكثرية المغرَّر بها من المواطنين إلى مواقعها «الطبيعية»: أي إلى موقع القطيع التابع وغير القادر على اكتساب حريته والتعبير عنها بشكل مستقل.
لهذه الأسباب وسواها، يواصل الأقطاب الحاكمون ضغطهم على مصالح الناس وأعصابهم وكرامتهم دون خشية كبيرة من انفجار كبير قريب. لكن هذا الرهان قد لا يكون صائباً إذا تمكن المحتجُّون والمتضررون، وهم أكثرية اللبنانيين، من تنظيم أمور احتجاجهم ونقمتهم بطريقة فعَّالة ومثابرة وهادفة. من أجل ذلك يجب على الجهات ذات التجربة، أحزاباً وأفراداً، وكذلك على الفئات الواسعة المدنية والشابة التي بادرت غلى التحرك أو شاركت فيه، أن تراجع أساليبها وعلاقاتها بما يوحِّد الجهود والصفوف في وجه قوى لا تتوحد إلا ضد مصالح أكثرية اللبنانيين ولو تصارعت، بضراوة، على الحصص والنهب والتبعية.
* كاتب وسياسي لبناني