لم تعد رواية «عائد إلى حيفا» للروائي الشهيد غسان كنفاني مجرد نص سرديّ إبداعيّ استقى أحداثه من وقائع كثيرة للاقتلاع الفلسطيني، بل اكتسب اليوم روحاً ومعنى آخر في مفهوم العودة. شابان من بلدة يطا في الخليل، يقرران العودة إلى فلسطين على طريقتهما. أبناء العم مخامرة، خالد ومحمد يعودان برشاشي «فالكون» حتى الشهادة.هنا خالد لا ينتظر خلدون في عائد إلى حيفا، بل يعيد ومحمد كل أسماء القرى والمدن إلى بهائها في ثلاث دقائق هزت تل أبيب. ثلاث دقائق جعلت من رئيس كيان الاحتلال، رؤوبين ريفلين، على متن طائرته القادمة من موسكو، يستعمل هاتف الطائرة مرات عدة وهو يتواصل مع «الكابنيت» المصغر. تحط الطائرة الرئاسية بعد لقاء مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وعلى عجل يصل إلى تل أبيب، ليلتقي مع أعضاء «الكابنيت» الأمني المصغر. يستعرض قائد الشرطة روني الشيخ، تفاصيل العملية واقتراحاته الأمنية، ويعرض وزير الأمن الداخلي جلعاد أردان، تصوراته للمرحلة المقبلة، فيما يعيد رئيس «الشاباك» نداف أرغمان، ذات الاقتراحات.
في لقاء «الكابنيت»، لم تُجدِ كل تهديدات وزير الأمن أفيغدور ليبرمان، السابقة، بعدم التساهل مع الانتفاضة، ومنع الفوضى والضرب بيد من حديد. فالضربة الحديدية على مقربة من وزارته كانت التحدي الأول للوزير، الذي يستعرض عبر الصحافة الإسرائيلية أن قدومه للحكومة جاء بعدما فشل سلفه موشيه يعلون، في مواجهة «الإرهاب»، فضلاً عن أن القوة الجاذبة للمستوطنين إلى حزب «إسرائيل بيتنا» هي التي أملت التحالفات الجديدة.
سبعة أشهر مضت على اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، وإن خبت أحياناً، إلا أنها أرّقت الحكومة الصهيونية التي أطلقت مئات التحذيرات من أنها لن تتهاون في قمعها. واستخدمت كل الوسائل المتاحة من عزل وحصار وهدم منازل، والقتل عن مسافة صفر، إلى سياسة العقوبات الجماعية التي امتهنها الاحتلال، عبر إلغاء 83 ألف تصريح دخول إلى أراضي الـ48. ومع تطور أساليب المواجهة الفلسطينية، سيفتح كيان الاغتصاب نيرانه بكل الاتجاهات. أولى هذه النيران كانت باتجاه السلطة في رام الله، التي لم يكن كافياً تصريحها على لسان رئيسها أنها تدين العملية، فمنفذا العملية وصلا من مناطقها. ما يشير إلى تهاون وعدم قدرة على ضبط الأمن. هذه الرسائل أطلقها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير أمنه ليبرمان، وهي أولى الإشارات إلى أن التنسيق الأمني هو الأجدر بالبحث وليس قضايا الدولتين، مهما كانت التعديلات العربية.

قراءات صهيونية قاصرة

جاء الرد سريعاً، فقد حوصرت يطا، وضُيّق الخناق على أهلها، ورميت كل أوراق التنسيق في وجه قادة الأجهزة الأمنية الفلسطينية. فيما تنافس وزراء الحكومة الصهيونية في التصريحات. ليبرمان قال إنه لن يكتفي بالأقوال، وكذلك وزير التربية نفتالي بينيت، دعا إلى الطرد والإبعاد، وتبارز غيرهم في أقسى العقوبات الرادعة.
من الطبيعي أن يتسابق قادة الاحتلال إلى استعراض القوة في ظل ما تشهده الساحة الحزبية من تنافس على إظهار أن أي تفاوض مع السلطة هو مزيد من مضيعة للوقت، وهذا ما أكد عليه نفتالي بينت بعد العملية البطولية، إذ اعتبر أن أي حديث عن دولتين أو مبادرة دولية هو مضيعة للوقت، وهو ما دفع ليبرمان إلى التهديد بأنه لن يسمح بتكرار هذه العمليات. بازار المزايدات ينبع من كون ليبرمان، قد تعاطى بغير سياساته السابقه، حين ثمّن المبادرة العربية عام 2002، واعتبر أنها يمكن أن تشكل حجر الزاوية في التوصل إلى اتفاقات قادمة، متناغماً مع نتنياهو الذي أثنى على تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في مبادرته حول عودة التفاوض وفي جوهر دعوته «مبادرة السلام العربية» ـ مؤتمر قمة بيروت 2002.
مرة أخرى قَلبت عملية الخليل الطاولة. عام كامل من الاتصالات والجولات المكوكية للإدارة الفرنسية لهندسة مبادرتها، والاستدارات مع المبادرة العربية 2002، وإطلاق الرئيس المصري لمبادرته حول اعادة عملية التفاوض، كلها سحقت في 3 دقائق في تل أبيب. لم ينتظر الفلسطينيون طويلاً ليردوا عليها، ودون غرف عمليات وجنرالات، كان قرار خالد ومحمد أن الرد في قلب تل أبيب. ولم يسمعا إلى نصائح السلطة عن فوائد السلام، وضرورة المواجهة السلمية بالورود.
السلطة في رام الله أول المتضررين، فهي التي أكدت في رسائلها إلى الحكومة الصهيونية أنها تقبض على زمام الأمور وأبلغت كل المبعوثين الأوروبيين أنها تواصل حصار كل فعل يخل بالأمن. ومع أن نتنياهو كان يرد برسائل أبلغ ويهدد السلطة بحلّها في حال توسعت الانتفاضة، لم تنقطع جلسات التنسيق اليومية التي أعرب فيها رئيس جهاز الأمن ماجد فرج، عن جدية الملاحقات وإحباط أكثر من 200 عملية، ناهيك عن التفاخر بعمليات تفتيش الحقائب المدرسية كما عبّر رئيس السلطة.
تتصاعد حرب التصريحات الصهيونية للضرب بيد من حديد، وطمأنة التجمع الصهيوني كي يعود لحياته الطبيعية، فهذا «حادث لن يتكرر» على حد تعبير رئيس الشرطة روني الشيخ. لكن، هل ما حصل كان حادثاً عابراً كما تروج الأجهزة الأمنية الصهيونية؟
يبدو أن القراءات الصهيونية ستظل قاصرة، رغم كل الإمكانات التي تمتلكها، ورغم الحصار والجدار وأجهزة الكشف. فعملية الخليل حققت خرقاً كبيراً في المنظومة الأمنية، حيث قدِم خالد ومحمد من الضفة. وهذا يعيد إلى الأذهان العمليات البطولية التي شهدتها فترة التسعينيات وبداية 2000، قبل أن يشتدّ ساعد السلطة في التنسيق الأمني. كما يدخل إلى المشهد تصنيع الرشاشات يدوياً والاعتماد محلياً على ذلك... وهذا سيضع الاحتلال في دائرة التخبط، مهما حاصر ومنع أي تسريب للأسلحة.
كذلك، أن تقع العملية مقابل مركز أمني له دلالات كبيرة ومؤثرة، فهذا يؤشر إلى أن اختراقات أخطر قد تحدث، ومجرد تكرارها يعني أن المنظومة الأمنية أصبحت في حالة تهتك.
قد تشهد المرحلة المقبلة مزيداً من الحصار، وهذا أصلاً يتواصل، لكن المتوقع أن حكومة الاحتلال سترفع من مستوى علاقاتها مع بعض النظام الرسمي العربي للدفع نحو إنهاء الحق الفلسطيني، وستتلقف مبادرة السعودية، مع تعديلات قد تُحقق ما يتوافق مع طموحات سلطة رام الله التي تستجدي التفاوض مع الاحتلال.
مع عودة روح العمليات البطولية في قلب فلسطين المحتلة، سيحمل الشارع الفلسطيني المزيد من المفاجآت للاحتلال الذي اعتقد قادته أنهم أطفؤوا لهيب الانتفاضة، ويمكن أن يفكر في نقل ساحات النار الى غزة. أما الضفة والقدس فهما تحت النار اليومية، والقتل يتواصل بشكل يومي على مرأى من الكاميرات لمجرد أنك فلسطيني. لم يعد لدى الشعب الفلسطيني ما يخسره، وقد جرب كل ما يمكن تجريبه، وهو محاصر بين أجهزة تنسّق أمنياً وتدعي أن التنسيق للقضايا الإدارية الذي لا نرى منه إلا بطاقات «V.I.P» كما يقول محمد الحسين من سكان يطا ـ الخليل.
القدس تهوّد... والنار تلتهمها كل يوم. بيع أراض بمساهمة إماراتية، ونظام عربي يفتح عواصمه للإرهابي ليبرمان، وحرب تشن على من يقف مع فلسطين... لم يبق أمام الفلسطيني إلا السكين ورشاش «الفالكون». ليبرمان لن يستطع أن يمنع القادم، فكل أسلافه فشلوا في قتل فكرة المقاومة. خالد ومحمد مخامرة يعودان إلى فلسطين لكن هذه المرة برشاشات فالكون... وسيعود أبناء شعب المقاومة حتى يُقتَلع آخر مستوطن من فلسطين... كل فلسطين.
* كاتب وإعلامي فلسطيني