تتابعت ردود الفعل الشاجبة للنقد الذي وجّهه ملتزمون بحملة المقاطعة الاقتصاديّة والثقافيّة والأكاديميّة للكاتب أمين معلوف جرّاء قبوله بإجراء مقابلة مع محطّة إسرائيليّة. وقد سيقت في ردود الفعل أسباب مختلفة لهذا الشجب جديرة بالردّ عليها. صحيح أنّ أمين معلوف يحمل الجنسيّة الفرنسيّة وبهذه الصفة هو لم يخالف قوانين فرنسا، ولكنّ حملة المقاطعة هي أساساً دعوة فلسطينيّة إلى العالم أجمع كي يقاطع إسرائيل للضغط عليها سعياً لإحقاق الحقوق الفلسطينيّة؛ ولربّما أكثر وجوه المقاطعة رمزيّةً هو المطران ديزموند توتو الذي عاش باللحم والعظم نظام الفصل العنصريّ الجنوب أفريقي. إذاً الحجّة بأنّ أمين معلوف فرنسي لا معنى لها ضمن هذا الواقع.
وصحيح أنّ الكاتب حرّ في ما يراه ويفعله، ولكنّ حركة المقاطعة تسعى أن تقنع بالحجّة والمنطق أنّ خيارات أمين معلوف اليوم، وخيارات غيره، هي مسيئة للقضيّة الفلسطينيّة المحقّة، وأنّها بالتالي غير أخلاقيّة، لأنّها تعطي غطاءً ثقافيّاً للنظام الاسرائيليّ العنصريّ. إنّ مجرّد القبول بالجلوس في مقابلة ثقافيّة، أو الاشتراك بمهرجان غنائيّ، هو إعلان قبول للآخر في نظامه وموقفه من هذا النظام، الآخر ليس هو فقط الشخص وإنّما المؤسّسة القابعة خلف الشخص، والنظام القابع خلف المؤسّسة. وفي حالتنا النظام الكامن في الخلفيّة هو نظام احتلال ينشئ نظاماً عنصريّاً، ما يزال يقتل ويشرّد ويدمّر ويحتلّ ويعذّب ولا يحاكم قتلة الفلسطينيّين في صفوفه إلاّ محاكمة صوريّة. فكيف يمكن لمثقّف القبول بالتعامل مع هذا النظام القائم على رفض الآخر وسحقه؟ عندما أرفض النظام الذي يسحق الآخر-الفلسطينيّ، لا أكون في حالة رفض للآخر الإنسانيّ، وإنّما في حالة رفض لما هو غير إنسانيّ عند الآخر.
وأمّا الحجّة القائلة بأنّ المقابلة هي مجرّد حوار ثقافي لم يطرح فيه معلوف رأياً بالقضيّة الفلسطينيّة، فهي حجّة تزيد من إدانة معلوف، ذلك أنّه في مقابلته غيّب تماماً الواقع الفلسطينيّ، واقع الضحيّة، وتغييب الواقع هو موقف سياسيّ. معلوف قَبِلَ أن يقيم حواراً مع جهة إسرائيليّة في غياب تام للقضيّة الإنسانيّة للشعب الفلسطينيّ، أي في غياب تامّ لأيّ نقد لنظام جرائميّ يسحق شعباً آخر بأكمله.
الذين يعتبرون أنفسهم منضمّون معنويّاً إلى حركة المقاطعة يحقّ لهم أن ينتقدوا معلوف (وغيره)، ليس لأنّه قانونيّاً مطالبٌ بشيء، وإنّما لأنّه أخلاقيّاً مطالب بالكثير بوصفه إنساناً ومثقّفاً، والمثقّف له وزن أخلاقيّ يمكن أن يستخدمه لإعلاء شأن مطالب إنسانيّة كما أنّه يمكن أن يستخدمه لسحق قضيّة إنسانيّة وتغييبها عن النقاش. موقف المثقّفون مهمّ، ولهذا يستميت النظام-الجريمة الاسرائيليّ في جذب المثقّفين والأكاديميّين إلى المشاركة في نشاطات اسرائيليّة، إذ هو يجمّل بوجودهم الثقافي قبح جريمته، ويستر بوجوههم وجهه الوحشيّ.
يرى البعض فائدة من مخاطبة العدوّ في وسائله الإعلاميّة من أجل بلوغ جمهور لا يمكن أن نبلغه بدونها. هذه النقطة لا تنطبق على أمين معلوف لأنّه لم يتكلّم بالقضيّة الفلسطينيّة او بالجرائم الاسرائيليّة، ولكنّها تنطبق على الروائيّ المناصر للقضيّة الفلسطينيّة الياس خوري الذي وافق بالتحدّث منذ سنوات مع صحيفة "هآرتز". النقطة مهمّة لأنّها جذّابة، إذ تضع نفسها في سياق النضال ضدّ العدوّ بمخاطبة جمهوره. طبعاً يمكننا الجدل بأنّ مقابلة مع صحيفة لن تحدث هذا الأثر العظيم في جمهور اسرائيليّ يعيش في بحر من الإعلام العنصريّ، وبحر من الأخبار ذات الاتّجاه الواحد، ولكن يمكن بالمقابل الجدل بأنّه رغم ذلك فالمحاولة واجبة، وبأنّه مع الوقت، ومن خرق (مفترض) إلى خرق، يمكن المساهمة بإحداث تغيير في الرأي العام الإسرائيليّ. ردّنا هنا لن يركّز على مدى الخرق الممكن وفاعليّته، فالنقاش المحصور بهذا المنطق يغيّب عنّا الصورة الأوسع. الصورة الأوسع هي أنّه إن أراد صحافيّ اسرائيليّ أن يعرف أكثر رأياً فذّاً مثقّفاً عن الوضع الفلسطينيّ، وأن يستقصي نظامه العنصريّ وأثره الفادح على الفلسطينيّين، وأن يتبيّن آلام هؤلاء، ورأيهم في كيفيّة الخروج من انعدام الحرّية نحو التحرّر، ومن نظام الفصل العنصريّ إلى نظام إنسانيّ، ألا يستطيع أن يجد مثقّفاً فلسطينيّاً من مناطق الـ٤٨ أو مناطق الـ٦٧ للتحدّث إليه؟ ألم يوجد، وما يزال يوجد، نوّاب فلسطينيّون يمكن لوسائل الإعلام الاسرائيلية ان تصغي إليهم وتنقل آراءهم وتفرد لهم وسائل الإعلام لنقل وجهة نظر الضحيّة مباشرةً من الضحيّة نفسها؟ ألسنا نضع أنفسنا أوصياء على الشعب الفلسطينيّ بتنصيب أنفسنا مثقّفين شارحين لقضيّة هذا الشعب على الداخل الاسرائيليّ، بواسطة التعامل المباشر مع وسائل الإعلام الاسرائيليّة، بينما الفلسطينيّون المثقّفون والعاملون في الحقل العام والنقابات هم الذين أطلقوا حملة المقاطعة العالميّة؟ أليس في ذلك "أبويّة" في غير محلّها، تماماً لأنّها تنصّب نفسها متحدّثة للداخل الاسرائيليّ بواسطة وسائل إعلامه، نيابة عن الفلسطينيّين الذين لا يعانون من أيّ نقص في المدى الثقافيّ من قياديّين ومجابهين؟
موقع المثقّف العربيّ يمكن في الدفاع عن القضيّة الفلسطينيّة

إن أراد المثقّف العربي دعم الفلسطينيّين عليه بالتجاوب مع طلبهم بالمقاطعة. موقع المثقّف العربيّ يمكن في الدفاع عن القضيّة الفلسطينيّة في البلاد التي يقيم فيها، وفي فضح وحشيّة النظام الاسرائيليّ حيث هو، وفي نقد أيّ خطاب فلسطينيّ مؤسساتيّ متهاون، كما وفي نقد أيّ انحراف للنضال الفلسطينيّ. المثقّف العربي يمكنه أن يقوم بهذا الدور حيث يحيا، أكان ذلك في بلاد العالم غير العربيّة أم في البلاد العربيّة التي ما تزال تحتاج إلى ثقافة نضال لأسباب عديدة منها الاختراقات التي أحدثتها في وعينا ليس فقط إسرائيل، وإنّما أيضاً الأنظمة العربيّة القمعيّة، اختراقات أوصلت مجموعات كبيرة من المواطنين إلى الانسحاب التام في الشأن العام، والخضوع للقوّة، وعدم النضال. إنّ أقوى خطاب للمثقّف من خلال وسائل الإعلام الاسرائيليّة، وأوسعه أثراً للرأي العام الاسرائيليّ، يكمن تماماً في المقاطعة، لأنّ هذه الأخيرة تثير ردود فعل واسعة شاجبة داخل الرأي العام، وتقلق الطبقة الحاكمة والمجتمع ولهذا يُفرَدُ لها مساحة إعلاميّة يمكن أن يصل من خلالها وجهة النظر الفلسطينيّة. ليس من أمضى من سلاح المقاطعة إعلاميّاً لأنّه يطرح الإشكاليّة بوضوح ويوجع العدوّ في وجوده، ويهزّ صورته عن ذاته. مقاطعة المثقّف إن كانت مقرونة ببيان شرح أسبابها يمكنها أن تكون خطاباً مباشراً للرأي العام الاسرائيليّ بواسطة وسائل إعلامه، خطاباً له وقعٌ أكبر من مقابلة وحوار.
بالإضافة إلى ما تقدّم، فإنّ موضوع المقاطعة ساخن بالنسبة إلى أيّ إنسان لبنانيّ يعتقد بالفعل، بجميع كيانه (وليس بالكلام) أنّه معنيّ بالعدالة وحقوق الإنسان. فإسرائيل تسعى إلى الحرب واحتلّت أجزاء واسعة من لبنان وارتكبت الفظائع ومارست التعذيب ولم تزل تقتحم أجواءه وتتجسّس وتتآمر عليه، وبالتالي فإنّ إسرائيل ليست "مجرّد" نظام تمييز عنصريّ سافل ومنحطّ في مقاييس الأخلاقيّة والإنسانيّة، ولكن هي بلد عدوّ. أين سمعنا في كتب التاريخ عن فرنسيّين مقاومين يجرون مقابلات في الصحف النازيّة حول الثقافة والفنون؟ أين سمعنا عن أميركيّ في الحرب العالميّة الثانيّة يجري مقابلات صحافيّة في التلفزيون اليابانيّ عن كتابه الأخير ورؤيته لعالم جميل يعيش فيه الناس معاً؟ وإن كان ذلك قد حدث فكيف كان الضمير الشعبيّ الأميركيّ أو الفرنسيّ سيحكم على ذلك المثقّف المرموق؟
أخيراً هناك من يتساءل لماذا لا نقاطع بلداناً بأكملها تدعم إسرائيل، ولماذا لا نقاطع بلاداً قامت على سحق شعب آخر في غابر التاريخ؟ وعلى هذا نجيب، إنّ موقف المقاطعة هو موقف الممكن. فمثلاً، يمكن لغير الخاضعين للاحتلال أن يقاطعوا بضائع اسرائيليّة، بينما لا يمكن لفلسطينيّ يعيش تحت الاحتلال أن يقاطع شركة مياه أو اتّصالات أو بضائع اسرائيليّة وإلا انقطع عن أسباب بقائه على قيد الحياة. وبالتالي موقف المقارنة المطلقة بين حالة وحالة، وبين ما تفعله مجموعة من الناس وما تفعله مجموعة أخرى، هي مقارنة تُقارِب المقاطعة من ناحية فكريةّ محضة، أي لا تضع المقاطعة في سياق الواقع. الواقع الذي تحيا فيه مجموعة من البشر قد يختلف عن واقع مجموعة أخرى، إحداهما قد تتمكّن من المقاطعة أكثر من الأخرى، ولكن ما ينبغي أن يكون جامعنا أخلاقيّاً هو موقف المقاطعة. كلّ إنسان مسؤول أمام ضميره عن المقاطعة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وذلك يقتضي نوعاً من التقشّف، من الصوم عن جمالات وطيّبات من أجل هدف أسمى: حرّية شعب بكامله.
الفلسطينيّون سألونا، سألوا كلّ إنسان، وكلّ الناس، أن يساعدوهم على التحرّر من الجلاّد. الموضوع ليس مسألة نقاش وحوار لمثقّف في صحيفة اسرائيليّة، الموضوع ليس أقلّ من محاصرة النظام الاسرائيليّ للضغط على الشعب الذي يستفيد من ذاك النظام، من أجل المساهمة في إحداث تغيير في موازين القوى لصالح العدالة والحرّية للشعب الفلسطينيّ ولشعوب المنطقة. جواب كلّ واحد منّا، هو جواب أمام ضميره الشخصيّ وأمام شعبه، وعند من يؤمن هو جواب سيقدّمه يوماً ما أمام إلهٍ يرفض الظلم، ويسألنا أن نرفعه، ويدعم جهودنا، بطرقه الخاصّة، لرفعه، ولا شكّ أنّنا لرافعوه.

*أستاذ جامعي