حين يتعلّق الأمر بجدوى الكتابة عن سوريا وما يحدث فيها، فإنّ المعيار الأول لذلك هو باتخاذ موقف لا يكون منفصلاً عن الفاعلية السياسية. وهذا يسمح لصاحب الموقف بالحضور الفاعل في قلب أيّ نقاش حول الوضع، وغالباً ما يكون هذا الحضور مصحوباً بالاستعداد لدفع ثمن أيّ كلمة تُقال، أو تُكتب. وبالفعل، دفع العديدون والعديدات ثمن مواقفهم، واضطروا بسبب ذلك إلى الخروج من البلد. فيما بقي آخرون داخله، ليستكملوا مسيرة الاشتباك مع الواقع، ومحاولة «تغييره» من الداخل، عبر ممارسة أنماط متفاوتة من الفاعلية والتأثير.
نقاش الفاعلية
أراد المستقلون الحفاظ على وجودهم داخل سوريا للكتابة منها

ثمّة في الحالتين رغبة حقيقية في فعل شيء لإنقاذ الوضع، وعدم تركه ينهار، أو يذهب نحو التهلكة. ولكن ثمّة فارق أساسي، أيضاً، لا يلحظه الكثيرون، عندما يناقشون مسألة تناول الكُتّاب، أو النشطاء للوضع السوري. فمن خرج بسبب ملاحقة أمنية، أو سياسية، أصبحت الكتابة بالنسبة إليه فعلاً آمناً، وحين يكتب أو يُبدي موقفاً لا يترتب على فعله ذاك، أو كتابته تلك، أيّ أثر لجهة الإضرار به أو بعائلته، فهذا يعني أنّه أصبح خاضعاً لشرط أساسه الانفصال عن الواقع الذي يكتب عنه. ولذلك فإن كتاباته، مهما كانت درجة نقديتها، تظلّ محتفظة بشرطها الذي يبدو بالقياس إلى الداخل وما يحدث فيه خارجياً ومنفصلاً، هذا إذا كانت القدرة على التأثير بالنسبة إليه لا تزال ممكنة. وهي على الأغلب ليست كذلك. في المقابل، تحتفظ الكتابة من الداخل، على الرغم من خضوعها لشرط الخوف من السلطة وأجهزتها الأمنية والعسكرية، بحرارتها وتظلّ مهما خفتت نبرتها النقدية راهنة، وعلى تماسّ مباشر مع الواقع وتحوّلاته، وحتى لو اختار أصحابها بسبب الحذر، أو «الخوف» تناول مواضيع أخرى غير الشأن السوري، فإن ذلك لا يُعدّ تنازلاً منهم، بقدر ما يكون اختياراً لطريقة أخرى، أو منهج آخر في التعبير عن الموقف. هذا لا يعني أنّ ثمة فصلاً قد حدث، بين كتابات الداخل والخارج، كما لا يعني أن كلّ ما يُكتَب في الخارج أصبح بلا أثر. ولكن، بالنظر إلى الكيفية التي حصل فيها الأمر، يتحوّل البقاء في الداخل رغم «الاستحالة»، التي ينطوي عليها، إلى شكل من أشكال المقاومة وعدم الرضوخ، فضلاً عن كونه بالأساس حاجةً لإبقاء الفاعلية السياسية قائمة، وعدم تركها تتلاشى تحت ضغط النزوح الجماعي للكتّاب والمثقفين السوريين.

مسؤولية السلطة/ السلطات

هذا النقاش، لا يتطرّق إلى مسؤولية السلطة عن الأمر، وهي بكلّ تأكيد المسؤول الأول عن حصول هذا التعارض، بين ما يكتب هنا، وما يكتب هناك. فالعملية السياسية، التي ابتلعتها منذ البداية، محوّلةُ إياها إلى «حرب ضدّ المجتمع» (وذلك قبل ظهور التكفيريين، والمجموعات الوهابية المقاتلة) كانت تحتاج إلى وجود بيئة تسمح للمجموعات المختلفة بالحوار، وتقرّب بين وجهات النظر التي لم تكن قد ابتعدت عن بعضها كثيراً. وبدلاً من الاستفادة من وجود الكتاب، والمثقفين، وأصحاب الرأي لحثّهم على خلق هذه البيئة، والدفع باتجاهها أخذت تلاحقهم وتخلق الشرط تلو الآخر لإبعادهم عن المجال العام، وعدم تركهم يتحرّكون إلا في إطار ما تريده هي وتسمح بتواجده.
كان ذلك كفيلاً بتحطيم أيّ إمكانية لإيجاد مسار سياسي داخلي يستطيع احتواء الاحتجاجات وعدم الدفع بها باتجاه ما تريده القوى الخليجية، التي بدأت بالاستفادة من الوضع عبر الزجّ بعملائها وشبكاتها المالية والسياسية في أتون الصراع. بعد ذلك، حصل الانقسام الكبير، وتوزّعت النخبة السورية على طرفي الأزمة، ولم يتبقّ للقلة التي حافظت على استقلاليتها وموقفها المتّسق من الصراع الكثير لتفعله. جلَّ ما كانت تريده بعد انزوائها أن تحتفظ بالقدرة على الكتابة من الداخل، بحيث تبقى على تماسّ مباشر مع الوضع، ولا تفقد الصلة معه، وتتحوّل إلى حالة نوستالجية لا أثر كبيراً لها، كما حصل مع معظم من خرجوا. نقديتها تجاه الوضع الذي تفرّع كثيراً، وأصبح على درجة كبيرة من التعقيد، مرتبطة بوجودها في الداخل، لأنها -إن خرجت تحت تأثير الضغوطات المُمارسة عليها من السلطة أو المسلّحين- ستفقد فاعليتها وقدرتها الرمزية على التأثير. وبالتالي تتحوّل كما تحوّل سواها إلى شكل من أشكال التنظير، الذي يبدو من الخارج نقدياً وعضوياً جداً، في حين أنه يفتقر إلى جوهر «الفكر العضوي»: الربط بين الكتابة والشرط الموضوعي الذي تحدث فيه.
وفي الحالة السورية، فإنّ هذا الشرط، هو المقدرة على التأثير ضمن إطار الممكن، وفي سياق الاستعداد لدفع الثمن مهما كان كبيراً. وحين يتعذّر القيام بذلك، والذي هو بكلّ المقاييس الحدّ الأدنى للالتزام السياسي، يصبح فعل الكتابة مثل عدمه، ويتحقّق للسلطات المتعدّدة، والمتفرّعة التي تحكم البلد ما أرادته منذ البداية: إنهاء الفاعلية السياسية، وجعل الكاتب، أو الناشط عبئاً على نفسه، وعلى الآخرين.
* كاتب سوري