خمس سنوات مضت في مسار الأزمة السورية. بات من الممكن الوقوف على جملة من الخلاصات المترتبة على آثارها، بل واستنتاج حقائق حاكمة على استفهام الواقع، واستشراف المستقبل.
1- تبدّل الرياح الدولية: بينما بلغت الرياح الدولية ذروتها - في بداية الطريق - لجهة نزع كامل المشروعية والإطاحة بالحكم في سوريا، وفق ديباجة أحادية النظرة قدمتها الولايات المتحدة وبعض أنظمة الإقليم، وجيّر لها أغلب الإعلام العربي، والعالمي، بشكلٍ غير مسبوق في التاريخ الحديث، بهدف تعزيزها وتكريسها، نجد اليوم أن هذه الرياح تسير باتجاه جديد مختلف.


فبدءاً من الشارع السوري، وصولاً إلى الرأي العام العالمي، غدا الجميع أكثر فهماً للأزمة وطبيعتها، وأدوار مختلف القوى فيها، السلبي منه والإيجابي. وبذلك أصبح المشهد أقّل لبساً وأكثر وضوحاً لهم. هذا التحوّل كان أهّم ما ينتظر محور المقاومة جلاءه، وفي أي سياق نفسّر الأزمة السورية؟

2- الإرهاب: الإرهاب كأيديولوجيا لم يتجاوز حدود سوريا الجغرافية فحسب، بل تجاوز المدى القاري. وثبُت سقوط كل المزاعم التي تحدثت عن توافر آليات الضبط والحّد التي تحول دون ذلك، والرهان على استخدامها لحظة ما يراد.

3- النزوح: شرّع الضغط على الحكومة السورية _تحت عناوين حقوقية وإنسانيّة_ سابقة ركوب البحار لكّل من يعاني الظروف الاقتصادية الصعبة، من أي بلد كان. لم يقتصر الأمر على نازحي الحرب في سوريا فقط، فظهرت هشاشة الإجراءات للحؤول دون ذلك. كما انكشف ادعاء الحقوقيين الغربيين. وبدت مخاطر هذا النزوح على الداخل الأوروبي لجهة التهديد الجيو-ثقافي، والذي سيخّلفه مع ما أعاده من نقاش عميق في طبيعة بنية المجتمعات في الغرب، ومدى ترسّخ المنظومة القيمية فيها على ضوء القوانين المعتمدة، والمدعاة من حكوماتهم.

4- المشروعيات والأولويات: قبيل سنوات كانت المشروعية تتأتى دولياً، لأيٍّ كان، بمقدار العداء لإيران ومحور المقاومة، باعتباره محور الشر. هكذا تم تبرير أفعال "جبهة النصرة"، و"القاعدة"، وحتى "داعش"، في سوريا آنذاك. اليوم لم يعد الأمر كذلك. فإيران اليوم جزءٌ من الحل لا المشكلة. بدأت مشروعيات المعارضات بالخفوت تدريجياً، بعد أدائها الظاهر، وفشلها في بلوغ المراد. فلم تعد المشروعية غّب الطلب، لمجرد قتالها الحكم في سوريا. إذاً دخلنا مرحلة تغيّر بنسب المشروعية بين الحكم والمعارضات في سوريا بل والمنطقة.



هل لا تزال سوريا الأولوية عند كل الدول ومركز الاهتمام الأوّل؟

ودخل الجميع حيّز تصنيف جديد من زاوية الرأي العالمي، كما بعض المؤسسات الدولية، ولو كارهاً. ويسير النظام عملياً لتعزيز مشروعيته تباعاً، إن بفعلية وواقعية حضوره الداخلي، أو فاعلية أداء الحكومة واستمرار مؤسساتها والمرافق العامة، فضلاً عن دخوله مفاوضات "جنيف" بعد تغييب في المؤتمر الأوّل (كانت رسالة "جنيف 1" حينها سلّم في السياسة أوراقك وإلّا!). اذاً مسألة المشروعيات بدأت تتبدّل. الكلام في المشروعيات انسحب _إلى الأولويات_ فهل لا تزال سوريا الأولوية عند كل الدول ومركز الاهتمام الأوّل؟ فهل الدول الغربية، والأوروبية خاصة، تتشاطر نفس النظرة والأجندة وتعتمد سلم الأولويات نفسه؟ أم بدأت الأولويات تتزاحم بين أفريقيا المقابلة لأوروبا على بحيرة المتوسط، وحالة الفشل التي تعيشها أغلب دولها، وفي مقدمتهم ليبيا. وفي سوريا، لا يبدو أفق تحقيق ما منّوا أنفسهم به ممكناً، لا سيما مع تدخّل الاتحاد الروسي. كذلك تغيّر خطاب أميركا وحلفائها الإقليميين، من دعوى المواجهة بالإرهاب (استثماره) إلى مواجهة الإرهاب (قتاله) لتحقيق الغايات السياسية أو تعزيزها.

5- بين أميركا والسعوديّة: كشفت بل ساعدت الأزمة السورية في تظهير درجة تمايز وجهات النظر بين أميركا والسعودية للمسألة السورية، وملفات أخرى في المنطقة. فحالة الشك، التي أصبحت سمة للعلاقة، على أثر تراجع أميركا عن حرب سوريا، وما أعقبها من توقيع التفاهم النووي مع إيران، أظهرت التغيّر «الطارئ» على مسار العلاقة، التي عرفت بالعميقة والاستراتيجية تاريخياً. قضية «الشك» التي تتعدى حكومة وإدارة أوباما إلى أميركا الدولة ورؤيتها للمنطقة، وانسحاب ذلك على عموم الرأي العام الغربي. إذ نذكّر أنّ أوّل من رفع صوت الاستنكار والنقد لعلاقة الدول الغربية مع المملكة، كانت بعض البرلمانات في أوروبا وبرلمان الاتحاد الأوروبي، كما الكونغرس الأميركي لا الحكومات. ناهيك عمّا تحمله تصريحات بعض المرشحين الرئاسيين في الولايات المتحدة من هجوم على المملكة السعودية، كجزء من أدوات استقطاب الرأي العام الشعبي في حملاتهم الانتخابية.

6- التغيير الرئاسي في أميركا: يبدو الرهان على حكومة جديدة في أميركا، بسياسة مختلفة تجاه الأزمة في سوريا، رهاناً على سراب. ويصل إلى حدّ المقامرة من بعض دول الإقليم. فالسياسة الأميركية مع أوباما، ليست إلا تعبيراً دقيقاً عن واقع أميركا، ووضعها العالمي، ورؤية مؤسساتها للمنطقة ودرجة الانغماس فيها. وإن أي إدارة جديدة لن تحظى إلا ببعض هوامش الحركة ليس أكثر. وأن تجربة بوش الابن، الذي يمنّي بعض العرب أنفسهم بعودتها إلى الحكم أشبه بالسراب، فبوش نفسه لم يكن إلا استثناء في مسار السياسة الأميركية نحو المنطقة منذ السبعينيات، إن لم نقل من قبل.

7- إلزاميّة الحل السياسي: يعتبر الحل السياسي قصري، ولا خيار آخر. وأي قفز فوق ذلك، للإطاحة بهذه الحقيقة، لن يعني إلّا حرباً إقليمية أو قاريّة. أقصى ما يُمكن أن تفعله المعارضات هو تحسين لأوراق - التفاوض على الطاولة -، ولا شيء آخر. أما سياسة المراوحة والمماطلة، لما بعد الانتخابات الأميركية، لن تغيّر بالميزان شيئاً. روسيا لا تمنع منح محور المقاومة فرصة إضافية لوقف إطلاق نار شامل، بالتنسيق مع الأميركي، للشروع بحّل سياسي جاد وفق أجندة محدّدة. وإلا فالأشهر القادمة قد تحمل رصيداً إضافياً لحكم حلفائها! لذلك سيكون كل فعل من تركيا والسعودية، ومن خلفهم أميركا، لتسليح المعارضات نوعياً وكمياً ما هو إلا دعوة لمزيد من النزف والدماء. ولن يكون له أي مردود سياسي. لأنه سيكون، عملياً، أقرب لفعل «خارج زمانه»، إلا إذا تحدثنا عن تدخل تركي مباشر في الأزمة حينها كلام آخر... ولا يظّن عاقلاً أنّ تركيا ستنحو لذلك دون مظلّة دولية، أو قرار أممي، أو بالحّد الأدنى تفاهم روسي_ أميركي واضح. فتركيا، اليوم، الأكثر تضررّاً في الأزمة، ليس لفشلها في رهاناتها الخارجية فحسب، بل لبلوغ الأزمة داخلها بقوة، وتشظّي التهديدات الأمنية والسياسية في أكثر من اتجاه. ما يعني أنّ أي مغامرة غير محسوبة، بدقّة عالية، ستجعل من تجربة "حزب العدالة والتنمية" آخر تجربة حكم إسلامي في تركيا.

8- التقارب السعودي _ الإسرائيلي: التقارب العلني بكل ما يحمله من مخاطر مركبّة، على العرب والرياض ذاتها، يفيد أنّ الأخيرة دخلت مرحلة متقدّمة، وبأعمق مما نظّن مع إسرائيل. كيف إذا أضفنا كلام الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، الأخير عن ما أسماه «الفرصة»، ومدّ اليد مجدداً لإسرائيل. هذا إن دلّ على شيء فإنه يدل على أن الرياض في مرحلة إخفاق استراتيجي، بعد نكسة «الثقة» مع الأميركي تدفعها للسعي إلى بناء منظومة أمن استراتيجي في المنطقة، بظهير إسرائيلي وسند مصري. كل هذا يعني أن السعودية بالعمق تعاني من أزمة، ولو أظهرت للعلن غير ذلك.

9- حزب الله: الانتقال إلى مرحلة جديدة من المواجهة مع حزب الله في لبنان، من تشخيصه أنه العدو الاستراتيجي إلى العدو «المركزي»، وما يعنيه ذلك من حاجة أميركية _ إسرائيلية _ سعودية لاستهدافه بتركيز في الرؤية الأميركية الساعية لإنجاز توازن كلاسيكي في المنطقة، أو لترميمه بين السعودية وإسرائيل، وربما تركيا من جهة وبين إيران ومحور المقاومة من جهة أخرى بحسب الأميركي. وبهذا السياق، يمكننا أن نقرأ تزايد حضور أميركا وحلفائها البريطانيين في العراق والخليج _ اليمن _ كما الضغط الأميركي على السعودية لوقف حرب اليمن.

بالنسبة لهم، ثبت أن حزب الله أكبر مما حاولوا وسمه به، في الدعاية بأنه «أداة» لغرض التقليل من شأنه. إنه فعلاً نموذجاً متعدّد الأبعاد (لا الدولاتي)، يحمل جاذبية عابرة، ويقود إحدى قاطرتي الدفع في الواقع العربي النقيضة للنظام السعودي.

عوداً على بدء، اليوم، نستطيع القول، وبعد جملة الحقائق البيّنة والواضحة، إن المنطق والعقل ولغة المصالح فضلاً عن معنى حدود القوة والرغبة الشعبية العارمة للخروج من الأزمة في الشارع العربي والسوري، خصوصاً تحتم الحل السياسي كحل قسري لا بديل له على الساحة السورية. ونستطيع القول إن محور المقاومة نجح في صّد الهجوم الدولي على سوريا، وموقعها في محور المقاومة، رغم الصعوبات والكلفة. وثبّت قواعد الدفاع انعكس حضوراً بارزاً على طاولة التفاوض القاري. واستعاد اليوم زمام المبادرة بمعناها الواسع. منجزاً كل ذلك - حتى الآن - وفق سياسة «المدافعة» فحسب، والتصدي بأسلوب الدفاع على الأراضي السورية، والعراقية، واليمنية، ملتزماً الرهان على ضرورة ولزوم الحل السياسي. ولكن عندما يقطع هذا المحور أنه استحال الحل السياسي في سوريا، وليس من أفق لهذا النزف، حتماً سيغير النهج المتّبع للمنطقة بأسرها، وربما يذهب أبعد من ذلك بأن يلعب بالقواعد نفسها لا فقط من خلال القواعد أو من تحتها.

نعم، اللحظة هي لحظة انتقال شامل في المنطقة بأسرها، وليس في سورية فحسب. هناك صفحة طويت بصّد الهجوم العالمي على سوريا، ومنها على بقية مناطق الصراع... وفتحت صفحة جديدة لم تكتب كّل أسطرها بعد، وقد تأخذ بعض الوقت. لكن المؤكّد فيها أنّها ستكون لصالح مقاومة الأمّة، ونهضتها، ومواجهة مستبدّيها الفعليين، وأعدائها الحقيقيين.

* باحث لبناني