يمطرنا شهر أيار، كل سنة، بعدد من المناسبات المهمة: المُحزِنْ منها كثير، والمُفرح بينها قليل ونادر. قبل مئة سنة، في 17 أيار من عام 1916 تمَّ إقرار اتفاقية «سايكس بيكو» من قبل بريطانيا وفرنسا. وهي اتفاقية أعقبت وكرست أفول الاستعمار العثماني التركي، وحلول النفوذين البريطاني والفرنسي وريثين له في السيطرة على الشرقين الأدنى والأوسط. سيطرة هذين استمرت حاسمة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، لتحل محلها تباعاً، الهيمنة الأميركية المستمرة، بهذه الطريقة أو تلك، حتى يومنا هذا. لطالما نُظِرَ من قِبل الوحدويين والقوميين العرب خصوصاً، إلى هذه الاتفاقية بوصفها أداة لتفتيت العالم العربي وتقسيمه، دون أن تقترن النقمة المريرة على هذه الاتفاقية بتبنّي بديل واقعي لمعالجة التفتيت وما نجم عنه، ولمقاربة مسائل التنمية والاستقلال والسيادة والحريات السياسية وحقوق الإنسان، وكذلك قضايا الأقليات العرقية وتملك وإدارة الثروة الوطنية، إلى مسائل العلاقات بين الكيانات السياسية التي نالت استقلالها السياسي، خصوصاً بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها قبيل منتصف القرن الماضي. وعد «بلفور» (عام 1917) الذي وُصف دائماً بـ«المشؤوم»، وضع حداً سريعاً لأوهام وعود دولة عربية موحدة، حيث انكشف تآمر الاستعمارين البريطاني والفرنسي من جهة، وغياب مقومات نشوء دولة عربية واحدة، من جهة ثانية. الأخطر كان في التمهيد لقيام دولة الاغتصاب الصهيوني في فلسطين التي في أيار جديد من عام (15 منه 1948) كانت ولادتها السرطانية مكرسةً باعتراف دولي، تواطأ عليه الجميع، بعد أن بدَّل الاتحاد السوفياتي موقفه تحت تأثير صهيوني داخلي وخارجي.لا يمكن عزل أيار سايكس – بيكو عام 1916، عن أيار النكبة الفلسطينية عام 1948، ومن ثمَّ عن «جاره» وشقيقة حزيران «النكسة» العربية عام 1967. كذلك فإنه في امتداد ذلك، انبثقت اتفاقية 17 أيار اللبناني كمشروع «نكبة» جديدة، هو الآخر، لتحويل لبنان إلى محمية إسرائيلية تشكّل، في الوقت عينه، مقدمةً ملموسةً ومباشرةً لتصفية شاملة للقضية الفلسطينية ولحقوق شعبها، ولإحكام القبضة على المنطقة وإقامة «شرق أوسط جديد» «بشر» به «الثعلب» الصهيوني شيمون بيريز عبر نسخة مبكِّرة وصافية «يتكامل» فيها «العقل» والقوة الإسرائيليان مع الثروة والضعف العربيين (وهي معادلة استعادها «المحافظون الجدد» في «الجار» الآخر لأيار، أي في غزو العراق واحتلال عاصمته بغداد في نيسان من عام 2003!).
لكن أيار لم يحمل النكبات والنكسات والهزائم فحسب. هو أيضاً «نوَّار» في التسمية الأخرى له والتي هي أكثر احتشاماً وبهاءً! يحيل هذا المحتوى النقيض، فوراً، إلى الخامس والعشرين من الشهر نفسه من عام 2000، حين اضطُرّت القوات الصهيونية التي غزت لبنان قبل ثماني عشرة سنة في عام 1982، إلى الانسحاب من لبنان ذليلة وعاجزة حتى عن إخطار عملائها بيوم الهروب الكبير الذي دُبر ونُفِّذ في ليلٍ بهيم!
تسابق الصهاينة في الانتخابات البرلمانية، التي حصلت قبل أشهر من ذلك التاريخ، على إطلاق الوعود بالانسحاب من لبنان بعد أن تعاظمت خسائر جيشهم إلى درجة لا تُطاق. رئيس الوزراء إيهود باراك، الذي كان «الأجرأ» في إطلاق وعود الانسحاب، كان الأسرع في التنفيذ: لكن هذه المرة بصورة مقلوبة عما حصل في أوائل سبعينيات القرن الماضي حين تنكر وهاجم، على رأس كوماندوس إسرائيلي، في بيروت، منازل قادة فلسطينيين ونجح في اغتيالهم. ها هو بعد حوالى ربع قرن يغادر دون أن يتمكن قادته وجنوده من تدبُّر أمر انسحاب عادي، مخلفاً وراءه تركة «محزرة» من العملاء الخائبين والحلفاء المذهولين والأعتدة والمواقع والمقار، وعلى نحو مذل لم يعرفه في كل تاريخ الصراع العربي الصهيوني.
«نوَّار» الانتصار صنعه قرار تاريخي بالمقاومة اتخذه يساريو الحركة «الوطنية اللبنانية» (الشيوعيون والناصريون والقوميون). ساهم في صنعه أيضاً مناضلو الثورة الفلسطينية الذين نهضوا لاستئناف الكفاح بعد مغادرة قوات هذه الثورة لبنان، في الشهر التاسع من عام 1982. صنع هذا القرار أيضاً مقاومون لبنانيون ولدوا من رحم المعاناة التي سببها العدوان والاحتلال الصهيونيان المدعومان من قبل واشنطن والقوات الأطلسية التي دخلت لبنان لإضفاء الشرعية الدولية على العدوان وللمساهمة في فرض سلطة خاضعة له ومنفِّذة لأوامره وأوامر حماته الأطلسيين. هؤلاء المقاومون الذين استلهموا وقفات تضحية وبطولة من الموروث الديني التاريخي، أضافوا الكثير في مسائل التعبئة والتصميم والثبات والكفاءة والتضحية والبطولة. وقد شاءت تطورات دولية وأخرى إقليمية ومحلية موازية، أن يجري حصر المقاومة بهم وأن يقع عليهم، بذلك، العبء الأساسي في المراحل المتأخرة من القتال ضد العدو (خصوصاً في التسعينيات من القرن الماضي)، ما أهّلهم لإشغال موقع مميَّز في تاريخ المقاومة اللبنانية استكمالاً للدور المبادر والشجاع والفعَّال الذي مارسه من وقع عليهم عبء المراحل الأولى قبل وأثناء انطلاق العدوان الصهيوني – الأطلسي عام 1982، أي أطراف جبهة المقاومة الوطنية.
من دروس المقاومة في مواجهة المعتدي الصهيوني أن قطاعات واسعة من الشعب اللبناني، انخرطت فيها دون حسابات فئوية. كل تلك الأطراف وظفت كل ما لديها، من إمكانياتها في الداخل وتحالفاتها في الخارج، في سبيل مواجهة العدو وفرض الانسحاب المذل وغير المشروط عليه. كانت المقاومة في خدمة قضية عامة لا قضايا خاصة. كان هذا هو سر النجاح ومفتاح الانتصار!
... لكن أيار عاد قبل سنتين من بوابة العجز الذي ما زال يدفع ثمنه اللبنانيون من مصالحهم واستقرارهم وتقدم بلدهم على المستويات كافة. إنه العجز الذي يولِّده ويراكمه باستمرار النظام السياسي اللبناني المرتكز على مبدأ المحاصصة وفق تقاسم ذي طابع طوائفي ومذهبي يُراد له أن يكون، أيضاً، أنموذجاً يحتذى لإدارة العلاقات والنزاعات في العالم العربي المنكوب الآن، في كل الشهور والفصول، بالحروب والقتل والدمار والتدخل الأجنبي والتطرف والتكفير والفتنة المذهبية...
ما بين المقاومة والاستسلام، وما بين الانتصار شبه الوحيد والهزائم الكثيرة، تطرح أسئلة كثيرة، وتثار تساؤلات أكثر: لماذا يحصل ما يحصل الآن في منطقتنا التي يضربها إعصار لا يتوقف من القتل والدمار والتطرف والعبثية والهجرة والخسارة والفساد والكوارث المفتوحة على الأخطر والأفدح؟ لماذا يقع «عبء» مهمة التدمير على أبناء هذه البلاد يلحقون بأنفسهم ما تجاوز أكثر تمنيات أعدائهم تطلباً أو جموحاً؟... ألا يتسابق الصهاينة الآن على التباري في التطرف بحيث لم تعد مطامعهم تقتصر على كل فلسطين وحقوق شعبها، بل هي تمتد إلى الجولان وكل المنطقة سعياً من أجل بناء شرق أوسط جديد، كسيح ومفكك، تكون إسرائيل محوره وقائدته دون منافس؟!
بين «نوَّار» الانتصار و«أيار» الهزائم تلوح معالم مهمة وطنية وقومية تحررية كبرى بات من الضروري بلورتها في مشروع جديد يستلهم توحيد طاقات شعبنا الذي أثبت أنه قادر على انتزاع الانتصار إذا اتخذ القرار المناسب ووفر له سبل النجاح الضرورية.
* كاتب وسياسي لبناني