... وجرت الانتخابات البلدية والاختيارية في موعدها، حتى أن فرعية جزين فكّ أسرها بعد أن تأخرت 16 شهراً. لم تنفع تعبئة بعض الصحافيين والمحللين والسياسيين في التسويق لإمرار تمديد آخر، يشمل هذه المرة البلديات والمخاتير بالحجج نفسها التي استخدمت لإمرار التمديدين في 2013 و2014.


ها قد مرت ثلاث مراحل من الانتخابات ويبقى يوم واحد يفصلنا عن انتهاء العملية الانتخابية لعام 2016، في ظل نقص في التشريع يفتح الباب على مصراعيه أمام استنسابية السلطة السياسية، ممثلة بوزارة الداخلية والبلديات. والنقص الأساسي هو غياب قانون انتخابي خاص بالانتخابات البلدية والاختيارية، والاعتماد على أحكام قانون الانتخابات النيابية المرعي الإجراء أي القانون 25\2008، بحسب ما جاء في المادة 16 من المرسوم الاشتراعي 118\1977. والقانون المذكور وضع في عام 2008 كنتيجة مباشرة لاتفاق الدوحة وللتوافق السياسي الذي أفتى بضرورة إجراء الانتخابات النيابية لعام 2009 بروحية مختلفة عن تلك التي أجريت فيها أربع عمليات انتخابية في زمن الجمهورية الثانية، أو أقله هكذا أريد لهذا القانون أن يكون. ركز القانون على الانتخابات النيابية ولم يلحظ أي فصول أو أحكام خاصة بالانتخابات البلدية والاختيارية. وفي عام 2010، أحال مجلس الوزراء مشروع قانون للانتخابات البلدية (رفعه وزير الداخلية والبلديات آنذاك زياد بارود) إلى البرلمان، إلا أنه علق في مكان ما بين اللجان المشتركة والهيئة العامة، وبقيت الانتخابات البلدية والاختيارية مضطرة إلى استعارة قانون الانتخابات النيابية، حتى لو لم يكن مناسباً لخصوصيتها في معظم الأحيان.

وتالياً، ما زالت الانتخابات البلدية والاختيارية – الرابعة في الجمهورية الثانية والثانية في مرحلة ما بعد الوصاية - تجري من دون هيئة إشراف على الحملات الانتخابية، وبالتالي غياب أي تحديد لسقف الإنفاق الانتخابي وعدم اتباع آليات تنظيم للإعلام والإعلان الانتخابيين بحجة أن انتخاب 1027 بلدية وما لا يقل عن 2800 مختار يترتب عنها ترشح نحو 40 ألف شخص، وبالتالي هذا العدد من المرشحين غير قابل للمراقبة. مرة أخرى، يخسر المبدأ ويربح الاستسهال.

وفي غياب هيئة إشراف دائمة ومستقلة على الانتخابات، ما زالت وزارة الداخلية والبلديات هي الجهة المسؤولة عن إدارة العملية الانتخابية والإعداد لها. وعلى الرغم من هذا النقص القانوني، كان من الممكن أن تبادر الوزارة إلى إصدار مراسيم تطبيقية وتعاميم وقرارات إجرائية تراعي روحية النص القانوني وتحفظ البعض من المبادئ العامة لديموقراطية الانتخابات في محاولة للتعويض عن الخلل الحاصل، ولكن وزارة الداخلية قررت خلاف ذلك. ويبدو أن الوزارة هي أول من صدق كذبة التمديد ولم تقم بالحد الأدنى من التحضيرات لإجراء الانتخابات، كما تشير نسبة المخالفات التي رصدتها الجمعية اللبنانية من أجل ديموقراطية الانتخابات في مواكبتها لأيام الاقتراع، ولا سيما تلك المتعلقة بسوء أداء هيئات القلم. وبدا جلياً – ولم تنكره الوزارة في ما بعد – أن رؤساء ورئيسات الأقلام لم يخضعوا للتدريبات اللازمة لتهيئتهم للقيام بمهماتهم بالحد الأدنى من المهنية والاحتراف. نتج من ضعف أداء هيئات القلم فوضى في فرز الأصوات في لجان القيد، خاصة في بيروت والبقاع وبعلبك الهرمل وصور، وتأخير فاضح في إعلان نتائج الانتخابات، ما انعكس ضرباً لصدقية العملية الانتخابية، وقضى على ما بقي من ثقة لدى الرأي العام اللبناني تجاه أداء السلطة السياسية. كذلك لم تتشدد الوزارة في تطبيق المادة 84 من القانون لجهة حماية مراكز الاقتراع ومنع الترويج الانتخابي فيها، على الرغم من أنها كانت قد أصدرت تعميماً في هذا الشأن (رقم 19\إم\2016) بتاريخ 27 نيسان 2016 يقضي بـ"منع أي نشاط انتخابي أو دعائي ضمن المركز".



يبدو المشهد أقل من التوقعات،

إن لم نقل مخيّباً للآمال


وفي ذلك مخالفة تفتح الباب للكثير من المخالفات المرتبطة بها، التي تؤثر مباشرةً بسلامة العملية الانتخابية ونزاهتها وديموقراطيتها، وتؤثر أيضاً بمزاج الناخبين ونية المشاركة وتحديد الخيارات، ولا سيما في ما تحدثه من أعمال عنف ناتجة من خلافات المندوبين والماكينات الانتخابية، إضافة إلى تسهيل الضغط على الناخبين. أما الصمت الانتخابي الذي نصت عليه المادة 73 من القانون، فعلى الأرجح أنه سقط سهواً من حسابات الوزارة ولم يصدر أي تعميم أو قرار أو بيان من شأنه تذكير وسائل الإعلام والمرشحين بضرورة التزام القانون.

وبعد. أن نقول إن الانتخابات ديموقراطية يعني ثلاث أفكار أساسية:

1- أن الإطار القانوني الذي تجري على أساسه الانتخابات يضمن حق التمثيل الصحيح لكافة شرائح المجتمع، ولا يؤدي إلى أي إقصاء مباشر أو غير مباشر لأي فئة أو طرف. نتوقف هنا عند استمرار اعتماد النظام الأكثري وغياب الكوتا النسائية وعدم خفض سن الاقتراع، بشكل خاص.

2- أن إدارة العملية الانتخابية تضمن تكافؤ الفرص بين المرشحين لجهة الإنفاق الانتخابي والإعلام والإعلان الانتخابيين بشكل خاص وأن تكون المنافسة ضمن الأطر القانونية بعيداً عن الابتزاز الحزبي أو المذهبي أو الطائفي أو الفئوي أو العائلي؛ لا بد من التوقف هنا عند عدم تشكيل هيئة إشراف على الحملة الانتخابية، وتالياً عدم تحديد أي سقف للإنفاق الانتخابي وغياب المراقبة على الإعلام والإعلان، ونذكر أيضاً عدم التزام مهل سحب الترشيحات، ما يعرض المرشحين للكثير من الضغوطات.

3- أن العملية الانتخابية سليمة شكلاً ومضموناً تسمح للناخبين بالاقتراع بحرية وبسرية تامتين دون أن يتعرضوا لأي ضغط أو ابتزاز أو تهديد أو ترغيب، سواء مباشر أو غير مباشر، أو حتى سوء إدارة قد يعرض صوتهم للضياع أو التلف عن قصد أو عن غير قصد. ولا بد أن نذكر هنا عملية الاستحصال على الأصوات مقابل بدل، سواء أكان ذلك من خلال مبلغ مالي أو خدمة أو وعد بالتوظيف أو علاج في مستشفى أو منحة تعليمية. ونذكر أيضاً أن لبنان هو البلد الوحيد الذي لم يعتمد بعد أوراق الاقتراع المطبوعة سلفاً التي تشكل إحدى الضمانات الأساسية لسرية الاقتراع.

ولتكون ديموقراطية، على العملية الانتخابية أيضاً أن تكون شاملةً تضمن حق الاقتراع لكافة الناخبين، ولا سيما الأشخاص ذوو الاحتياجات الخاصة والمسنون والمرضى من خلال تسهيل وصولهم إلى مراكز الاقتراع دون أن يتعرضوا لإهانة حملهم على الأدراج، مع ما يتضمن ذلك من خطر على حياتهم وحياة من يتبرع ليحملهم. ولندع الانتخابات وقوانينها جانباً، ولنتذكر أن هناك قانوناً يحمل الرقم 220\2000 صدر منذ 16 عاماً وتحدث عن حقوق الأشخاص المعوقين. وقد نص هذا القانون أيضاً على ضرورة تأهيل المرافق العامة والمدارس الخاصة والرسمية وجميع الأبنية والمنشآت العامة والخاصة المعدة للاستعمال العام لاستقبال ذوي الاحتياجات الخاصة. ولنتذكر أيضاً أن الحكومة اللبنانية قد وقّعت الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة في عام 2007 ولم يُصدَّق عليها حتى الساعة. وما زالت الأكثرية الساحقة من مراكز الاقتراع، وهي في معظمها مدارس رسمية أو خاصة أو دور عبادة، غير مؤهلة لاستقبال الناخبين والناخبات ذوي الاحتياجات الخاصة. ما زال العمل جارياً لفهم أسباب هذا التقاعس، وتبدو هذه المهمة شبه مستحيلة.

باختصار، إن جوهر ديموقراطية الانتخابات أن يؤخذ بالخيارات الحرة لمعظم الناخبين – وذلك يضمنه النظام الانتخابي المتبع. وفي التفسير الدقيق لما تعنيه ديموقراطية الانتخابات أن تكون إدارة العملية الانتخابية مؤتمنة على هذه الأصوات، أي أن تلتزم أبسط قواعد المهنية والاحتراف في الإعداد للعملية الانتخابية، بما في ذلك الاقتراع والفرز. هي بالأساس احترام لرغبة الناس في من يريدون أن يمثلهم وضمان حقهم في الاختيار، بسرية وبحرية، من خلال عملية انتخابية سليمة ودورية. هكذا، وبمنتهى البساطة.

ولكن مشاهدات الجمعية لمجريات أيام الاقتراع وما سبقها من خطاب سياسي وما رافقها من أجواء عامة ليست مطابقة لمعايير النزاهة والديموقراطية. يبدو المشهد أقل من التوقعات، إن لم نقل مخيباً للآمال. على الأرجح، إن الوزارة ركزت على ما اعتبرته "إنجاز" إجراء الانتخابات في موعدها، ولم تأبه لعدد "الإنجازات" المطلوبة لإجراء هذه الانتخابات بالشكل الصحيح. وُصفت انتخابات "الغفلة" هذه بالعرس الديموقراطي مراراً، على الرغم من تخطي عدد المخالفات فيها ألفي مخالفة (حتى الآن)، والمحاسبة ليست على القدر المطلوب. ستنعكس نتائج الانتخابات هذه – مع ما تخللها من مخالفات للقانون وانتهاكات للمبادئ العامة – على حياة أكثر من 5 ملايين لبناني مقيم وعدد من اللاجئين على امتداد الوطن ولمدة 6 سنوات. هذا "العرس" لم يكن على ما يرام؛ ولئلا تحمل وزارة الداخلية والبلديات عبء "عرس" آخر مخيب للآمال، فلتشكل الهيئة المستقلة الدائمة للإشراف على الانتخابات قبل انتخابات 2017، ولتضطلع، وحدها، بتنظيم العمليات الانتخابية كافة، علها ترتقي تلك الأفراح الوطنية إلى المستوى المطلوب.

* الأمينة العامة للجمعية اللبنانية من أجل ديموقراطية الانتخابات – LADE