الأخطاء التي وقعت فيها حكومة ديلما روسيف أثناء معالجتها الأزمة الاقتصادية في البلاد لا تبرّر عزلها بالشكل الذي حصل والذي تجاوز أيّ منطق دستوري، كما أنها لا تعفي الحكم الجديد من المسؤولية عن الحال الذي وصلت إليه البرازيل. فميشال تامر وحزبه (الحركة الديمقراطية) كانا شريكين للرئيسة "المُقالة" طيلة الأعوام الماضية، ولم يبدُر منهما أيّ اعتراض على سياساتها إلا حين بدأت الاحتجاجات التي كانت عامّة وكبيرة فعلاً في التحوّل من حركة شعبية تقودها الطبقة الوسطى إلى ذريعة لاستعادة المواقع التي خسرها اليمين أمام حزب العمال الحاكم.


هذا التحوّل الذي شَهِد انتقال "الاعتراض اليميني" من الشارع إلى المؤسّسات سهّل على الأحزاب التي كانت تأتلف مع الرئيسة وحزبها مغادرة موقعها، ودَفَعها إلى رفع شعارات تتماهى مع مطالب المعارضة اليمينية في عزل الرئيسة واعتبارها مسؤولة عن قضايا فساد وتلاعُب بميزانية الدولة. إذ بعد اتهامها بالفساد أصبح اليمين الذي يعبّر عنه تامر قادراً على التنصّل من مواقعه السابقة، وبعدما كان الرجل متهماً مثله مثل روسيف ورئيس مجلس النواب السابق اداوردو كونيا بقضايا فساد ورشوة غداً الآن من موقعه الجديد "كرئيس مؤقّت" محلّ توافق القوى التي عزلت حزب العمال وأقصت رئيسته عن السلطة.


الأرجحية الشعبية، لمن؟


هذه القوى تعبّر حالياً عن "أكثرية سياسية" موجودة داخل مجلس النواب والحكومة، ولكن حصول التغيير أو "الانقلاب الدستوري" بمعزل عن الإرادة الشعبية الفعلية لا يجعل منها أكثرية حقيقية ويبقيها عند حدود التعبير عن الانقلاب السياسي. وفي الحالة البرازيلية فإن ذلك يعني أن التغييرات التي حصلت من فوق ومن داخل مؤسسات غير مُنتخبة لن تكون بالضرورة مطابقة لما يحصل في المجتمع، حيث الأكثرية هناك لا تزال مُبهمة خلافاً لما تقول "السلطة الانقلابية"، والانقسامات الاجتماعية في ضوء ما حصل تزداد حدّة، وتعبّر عن نفسها يومياً بأشكال مختلفة، ليس أقلّها التظاهر والاحتجاج ضدّ ما حصل. هذا الأمر لن يوفّر للسلطة الجديدة قاعدة اجتماعية مستقرّة وأن أكّد على انتمائها طبقياً إلى الأثرياء والطبقة الوسطى العليا، وسينقل الصراع بينها وبين حزب العمال الذي أصبح في صفوف المعارضة من المؤسّسات إلى الشارع. وهناك، حيث لا توجد ترتيبات تتيح لليمين التلاعب بالتحالفات والأحجام السياسية يتعذّر الاحتكام كما تفعل السلطة حالياً إلى المؤسّسات بصيغتها الراهنة، ويكون القول الفصل غالباً للطبقات الاجتماعية، بحسب ما تراه مناسباً لمصالحها ومكتسباتها الاجتماعية.

في هذا السياق لا يمكن مضاهاة الشعبية التي يتمتّع بها حزب العمال، وحتى حين يخرج من السلطة ويخسر بسبب قضايا الفساد التي لطّخت سمعته بدءاً من قضية "بتروبراس" وانتهاءً باتهام روسيف بالتلاعب بالميزانية فإنه يحافظ على تقدّمه - تحديداً داخل البيئات المهمّشة والوسطى الدنيا - على باقي الأحزاب الأخرى، بما في ذلك حزب تامر نفسه. وهو إذ يفعل يراهن على قدرته بعد الخروج من السلطة على معاودة استقطاب هذه الفئات على قاعدة الحفاظ على مكتسباتها ضدّ الميل المتعاظم لدى السلطة اليمينية إلى انتزاعها منها، بحجة الحدّ من الإنفاق الاجتماعي، وتحويل الأموال بدلاً من ذلك إلى جيوب المستثمرين والاحتكارات وأصحاب رؤوس الأموال.


ممارسة الرقابة على اللصوص


حين اندلعت الاحتجاجات ضد حكومة ديلما روسيف في عام 2012 اعتراضاً على رفع أسعار المواصلات العامة لم يكن ثمّة حزب يقود الاحتجاجات، وكانت المعارضة لا تزال أقلّية داخل المجتمع والمؤسسات المُنتخبة معاً. ولكن مع تطوّر الاعتراض وتحوّله بالتوازي مع انكشاف قضية "بتروبراس" إلى حالة عامّة لدى فئات متنوعة من الطبقة الوسطى فإن القيادة أصبحت حاجة لدى أحزاب اليمين التي رأت في الحركة الجماهيرية سبيلاً للعودة إلى السلطة. في هذه المرحلة تغيّرت بنية الاحتجاجات نفسها وأصبحت تُقاد من جانب فئات لا تريد تصحيح أوضاعها الاجتماعية التي اختلّت بأداء السلطة بقدر ما تريد استخدام موقع السلطة لاستعادة ما خسرته لمصلحة التوزيع الاجتماعي الذي قام به حزب العمال. وقد عبّرت عن هذا الفهم الرئيسة "المُقالة" روسيف في حديثها الأخير إلى قناة RT الناطقة بالاسبانية، حيث قالت في معرض إشارتها إلى الفئات الطبقية والاجتماعية المسؤولة عن إقالتها: "إن طبقة الأثرياء البرازيلية القديمة لم تستطع قبول حصول أفقر فئات المواطنين على الخدمات التي لم تستطع أبداً الحصول عليها في عهد الحكومات الأخرى والتي حصلت عليها في السنوات الأخيرة فقط". وحين تشير روسيف إلى ذلك فإنها تقصد بالتحديد الصراع الاجتماعي الذي خاضته تلك الطبقات عبر الاحتجاجات لتعديل موازين القوى مع السلطة اليسارية واستعادة المواقع التي خسرتها قواها على مراحل في الاقتراع الشعبي. والحال أنّ حصول هذا "التعديل" في الشارع قبل انتقاله مُعدّلاً إلى المؤسّسات - التي أشارت روسيف في حديثها إلى خضوعها لمنطق الدستور الذي لا يبيح إقالة الرئيس كما حصل - يعني أنه بالإمكان تصحيح ما حدث انطلاقاً من الشارع أيضاً، وبأرجحية واضحة لليسار الذي يحظى بدعم قطاعات كبيرة منه. لكن هذا الخيار بحاجة إلى إنضاج والى شروط تسمح بمعاودة الاحتجاج على قاعدة أوسع تماماً مثلما فعلت قوى اليمين حينما استفادت من أخطاء حزب العمال وإدارته الأمنية لأزمة الاحتجاجات ضد رفع أسعار المواصلات وإقامة مونديال الكرة وقضية بتروبراس و... الخ. الوضع السياسي أصلاً لا يسمح بالتعويل على خيار الشارع، أقلّه حالياً، ولذلك يبدو حزب العمال "تحت قيادة لولا دا سيلفا" العائد بقوّة إلى صفوف الحزب وكأنه يتريّث إلى حين حصول تراكمات في إدارة السلطة تتيح له العودة إلى خيار الشارع من موقع أقوى، وبأدوات يستطيع من خلالها التأثير في المشهد على قاعدة الرقابة الشعبية وعدم ترك السلطة تنهب كما تشاء. عن ذلك، يقول لولا: "سنتنحى جانباً، لكن عيننا لن تغفو أبداً، وسنظل حماة هذه الأرض ومياهها التي تعوم على ثروات من النفط كافية لإسعاد أجيالنا، وهي الأسباب التي حوربنا من أجلها، وهي التي سيحاولون نهبها في الأيام القادمة". قبل أن يضيف صابّاً جام غضبه على السلطة، ومختزلاً في كلمتين معنى الصراع من موقع اليسار مع طبقة الأثرياء وأصحاب الرساميل: "سننام وأعيننا مفتوحة، فحراسة البلد واجب، وخصوصاً حين يتقلّد اللصوص السلطة فيه".

* كاتب سوري