عاش كلوفيس مقصود القرن العشرين بكل جوارحه. عاش الحياة العربيّة بزخمها، بحلوها وبمرّها، وكان مشاركاً في صنعِها وفي رسم معالمِها الفكريّة والسياسيّة والحزبيّة. وشارك في الصحافة العربيّة، واللبنانيّة والمصريّة والإماراتيّة. وكان هدفه من كل ذلك تكريس القوميّة العربيّة بالفعل لا بالانتماء فقط. هذا ما شرحه في كتابه «أزمة اليسار العربي» (الصادر في عام ١٩٦٠ وليس بعد الانفصال كما كتب هو في «من زوايا الذاكرة»، ص. ٩١).
\وهو ميّز في الكتاب بين مدلوليْن للقوميّة العربيّة، مدلول الهويّة ومدلول حركي. عاش مقصود القوميّة العربيّة في المدلوليْن المتلازميْن معاً، لا بل هو وسّع من ساحة العروبة للتلاقح مع «العالم ثالثيّة»، أو «الجنوب»، كما في اسم المركز الذي أسّسه في الجامعة الأميركيّة في واشنطن.

كلوفيس مقصود كان يمكن له أن يصبح قياديّاً في الحركة القوميّة العربيّة المعاصرة، وكان يمكن له أن يصبح زعيماً سياسيّاً (بدأ حياته كتائبيّاً لكنه لم يذكر ذلك في مذكّراته، وقد ذكرها الخبير التركي، كمال كربات، في كتابه عن الفكر السياسي والاجتماعي الحديث في الشرق الأوسط). لم تكن تنقصه الحماسة أو العاطفة أو الثقافة أو الابتكار اللفظي، لكنه لم يتمتّع بالكاريزما كما أنه خطب بلغة لم تكن تقرّبه من الجيل العربي الجديد (ولا حتّى في مرحلة سابقة من اليوم). هو مثّل الفكرة القوميّة في ذروتها، لكن في خطابها المبالغ والمفرط والغارق في الوعود العاطفيّة. لم تكن له صفات قياديّة وإن كانت كتاباته ذات صبغة قياديّة (زوجته هالة سلام مقصود، تمتّعت بصفات قياديّة مميّزة وكانت مِن أفضل مَن مرّ على قيادة المنظمّات العربيّة في واشنطن، وهي مثّلت نموذجاً فريداً في المبدئيّة في حقبة تولّيها لقيادة «الجمعيّة العربيّة الأميركيّة لمكافحة التمييز»). مشكلة مقصود أنه كان يكتب لقيادات الحركة القوميّة العربيّة، لا لجمهورها، وهذا ما أضعف من دور له كان يمكن أن يكون بارزاً. كانت لكتاباته تأثيرٌ على المرحلة الناصريّة، وطلب عبد الناصر لقاءه بسبب كتاباته آنذاك.
تستطيع أن تختلف مع خيارات سياسيّة وصياغات بيانيّة لكلوفيس، وتستطيع ان تختلف مع وصفه لمراحل في السياسيّة العربيّة المعاصرة لكنك لا تستطيع إلّا وأن تسجّل له ثباته القومي العربي المبدئي في زمن تنعدم فيه المبدئيّة، وفي زمن -في القرن الواحد والعشرين - يغيّر فيه بعض الكتاب والمثقّفين قناعاتهم السياسيّة والأيديولوجيّة بين ليلة وضحاها، مما يتوافق مع سياسات هذا النظام أو ذاك. وبعض الكتّاب يغيّر مبادئه حسب أهواء الجريدة التي يكتب فيها. بقي هو على قوميّته وعلى تبنّيه للقضيّة الفلسطينيّة من دون أن يؤثّر ذلك في ابتعاده عن الانقسامات في الساحة الفلسطينيّة. كان قريباً جدّاً من ياسر عرفات، لكنه حافظ على علاقة وديّة مع جورج حبش وأثنى على حركة «حماس» عند انطلاقتها. لكن مقصود تغيّر في العقد الماضي أو قبله بقليل. كنّا نقرأ له بعض مقالاته ولا نتبيّن فيها الرجل الذي نعرفه ونحادثه في جلسات خاصّة.

ما لفتني في كلوفيس مقصود منذ أن عرفته في مدينة واشنطن في الثمانينيّات، في سنوات الدراسة الجامعيّة، تواضعه الجم. لفتني فيه انه كان يتعامل مع الجميع بالتساوي. يلقى منه الطالب العربي الاهتمام نفسه الذي يلقاه منه الديبلوماسي العربي والغربي. لا بل على العكس، كنتُ أرى فيه شغفه بالتواصل مع الطلاب العرب بصورة خاصّة وكانت رسالته في القوميّة العربيّة لا تتغيّر بتغيّر الأزمان. كان رحب الصدر يتقبّل النقد، لا بل تقبّل السخرية وشارك فيها. كان مستمعاً جيّداً بالرغم ما عُرف عنه من استفاضة وإطالة في الحديث والخطابة (نسي نفسه ذات مرّة في الصف فبقي يحاضر بعد انتهاء وقت الحصّة بـ٤٥ دقيقة، كما روى). كلوفيس كان يهتم بصدق بآراء الآخرين ويستفسر عنها، بقدر ما كان يحب أن يشاطرهم آراءه، وإن خفّ هذا الحبّ عنده على مرّ السنين. عرفته عن كثب في عام ١٩٩٣ عندما دعيتُ معه ومع محسن العيني (السفير اليمني السابق في واشنطن) من قِبل طه جابر العلواني الذي أراد فتح حوار بين علمانيّين وإسلاميّين (وكان للأمانة أكثر صبراً منّي بكثير في هذا الحوار). لم يجد حرجاً في الحوار، وكان يُبشّر بالإسلام أفضل من تبشير الإسلاميّين وبعض المسلمين.
كان في الثلاثينيّات

من عمره عندما سمعبه عبد الناصر
برز كلوفيس مقصود على الساحة القوميّة العربيّة مبكّراً. كان في الثلاثينيّات من عمره عندما سمع به عبد الناصر. لعل مرحلة الخمسينيات والستينيات قبل النكبة كانت عصره الذهبي. كم كانت الأحلام كبيرة والطموحات عظيمة في تلك السنوات. لكنها لم تخل من المرارة: الانفصال والمؤامرات الغربيّة والإسرائيليّة لم تتوقّف للحظة. والحماسة القومية العربية التي ولّدت كوارث وويلات حزب البعث العربي الاشتراكي ومؤامراته وانقلاباته ومجازره، لم تكن مقرونة بالتنبّه لمخاطر تجليّات في القوميّة العربيّة برزت في مصر وفي العراق وحتى في مصر. كيف أن المرحلة الناصريّة تلتها مباشرة المرحلة الساداتيّة، والذي اختار أنور السادات لخلافة عبد الناصر لم يكن إلا عبد الناصر نفسه. عاش كلوفيس تلك المرحلة وكان ثابتاً في مواقفه منها، مرافقاً لقياداتها، عاملاً على التوفيق بين الأعداء: الناصريّين والبعثيّين.

روى قصّته مع الحزب التقدّمي الاشتراكي وكيف تركه مبكّراً عندما وقف كمال جنبلاط على الحياد (هو وريمون إدّة وبيار الجميّل) في مرحلة العدوان الثلاثي على مصر، واعتبر أن تأميم قناة السويس كانت مغامرة. كان وليد جنبلاط يلحّ على كلوفيس في السنوات الأخيرة - كما روى لنا - كي يروي على الملأ أمام حضور من الحزب قصّة استقالته وكان هو يتجنّب فعل ذلك. إلى أن سأله مرّة في حفل عام أن يفعل ذلك، فتجنّب مرّة أخرى. وما ان عاد كلوفيس إلى مقعده، همس له جنبلاط سائلاً. فأخبره كلوفيس السبب، فأجابه جنبلاط: آه، كان الوالد يمرّ حينها في مرحلة انعزاليّة. (لكن كلوفيس أغفل في روايته لنا وفي «من زوايا الذاكرة» سبباً آخر لهجره الحزب، وهو رواه في محاضرة في جامعة شيكاغو في مؤتمر عن لبنان في عام ١٩٦٣ (راجع مقالة كلوفيس عن «لبنان والقوميّة العربيّة» في كتاب ليونارد بايندر «السياسة في لبنان» الصادر في عام ١٩٦٦). وفي تلك الرواية يبرز جانب آخر عن إحباط مقصود ونفوره من تجربته في الحزب التقدّمي الاشتراكي إذ ينسب الأمر إلى طائفيّة الحزب وجمهوره وطائفيّة زعامة كمال جنبلاط.

كان كلوفيس راوياً مسليّاً للتاريخ العربي المعاصر، وكان يضحكنا في روايات شيّقة عن حرب السنتيْن إذ انه كان يحضر اجتماعات قياديّة للحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة. وكانت تلك الروايات تختلف عن الشائع أو المتعارف عليه. كانت الاجتماعات مثلاً تشهد عتاباً مستمرّاً من كمال جنبلاط على ياسر عرفات بسبب شحّ المساعدات العسكريّة، وكان عرفات يتملّص من الإجابة دائماً، ويتقن اختلاق الأعذار التي كان جنبلاط يسخر منها فيما بعد. (يروي مقصود في كتابه قصّة عرفات مع أبو دبّاح (ص. ٢٥٢)، لكن سماع القصّة من كلوفيس لها وقع مختلف، وكم كنا نقهقه عند سماعها منه خصوصاً وهو يقلّد عرفات بلهجته المصريّة). وعرف مقصود شخصيّات العالم العربي السياسيّة والحزبيّة والثقافيّة على مرّ العقود، وكان يحرص على التواصل مع الجدد والقدماء في السياسة.

ما أشهده على شخصيّة مقصود أنه خلافاً للكثير من المثقّفين العرب في الغرب، لم يشعر يوماً بحرج في التعبير عن رفضه للتواصل مع إسرائيليّين. لم يكن يخجل من مجاهرته في موقفه الحازم ضد الاحتلال الصهيوني. كان من المبكّرين الذين تواصلوا مع اليهود الأميركيّين المعارضين للصهيونيّة (مثل ألفرد ليلينثال وإلمر برغر)، وكان يميّز بين موقفه الصارم ضد الصهيونيّة وبين موقفه القومي العلماني الرافض للتمييز على أساس الدين أو العرق أو الإثنيّة. ويُسجَّل له أيضاً أنه لم يتحوّل - مثل قومي عربي سابق آخر، أي الأخضر الابراهيمي - إلى أداة طيّعة بيد السياسة والحروب الأميركيّة.
وكان له طريقة في الخطاب باللغة الإنكليزيّة تثير السخرية من الشباب العربي في أميركا، إذ انه كان ينقل عبارات عن العربيّة بالإنكليزيّة من دون ملاحظة فارق المعنى في الترجمة: كانت يستعين بثراء مفرادته الإنكليزيّة لنقل الصياغة العربيّة إلى الإنكليزيّة. أذكر كيف وجد طريقه لاستعمال مُتكرّر لـ«لا بَل» بالإنكليزيّة. وأذكر ذات مرّة عندما تحدّث عن «النزيف العربي»، مما أثار تساؤلات في صفوف الحضور في جامعة جورجتاون عن طبيعة هذا المرض العضال الذي يعاني العالم العربي منه، إلى أن تطوّع بعض العرب في الحضور لشرح التعبيرات المجازيّة العربيّة. لم يكن يهادن في التعبير عن دعم المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي. وأذكر أنه خصوصاً في التسعينيات، عندما كان الشباب اليساري العربي في أميركا ينظر بعين الريبة إلى تجربة حزب الله كحزب ديني غير تقدّمي، كان هو وإدوار سعيد يتحدّثان إلينا عن الأهميّة التاريخيّة لتجربة حزب الله في مقارعة العدوّ. لم يجدا تناقضاً بين علمانيّتهما المحضة وبين دعم نسق مقاومة فعّال ضد العدوّ الإسرائيلي.
تختلف مع مقصود في بعض مواقفه، أو في تمنّعه عن المجاهرة بحقيقة مواقفه. كان مثلاً متكتّماً في العلن عن الجهر بمواقفه المعارضة لأنظمة الخليج. كان ناصريّاً بالمعنى الحقيقي المنبثق عن صراع عبد الناصر مع أنظمة الخليج في الخمسينيات والستينيات وليس بالمعنى الذي يفهمه عبد الرحيم مراد حيث ينبع تعريف القوميّة العربيّة من مصالح الـ«بزنس». لكن كلوفيس لم يكن يعبّر في العلن عن تلك المواقف. وكنتُ كلّما أسأله عن ذلك يحيلني إلى استقالته الشهيرة من الجامعة العربيّة في عام ١٩٩٠ لأنه رفض الضغط الخليجي كي يتبنّى في الأمم المتحدة قراراً بدعم الحرب الأميركيّة على العراق. كان الأمر بالنسبة له بديهيّاً لكنه لم يُعلن ذلك بصريح العبارة مرّة واحدة. وفي كتابه الأخير، «من زوايا الذاكرة»، تستّر على الأمر ورواه بعجالة في نصف صفحة (ص. ٣٣٧). إن استقالة مقصود من الجامعة العربيّة، بعد ان مرّر بندر بن سلطان على السفارات العربيّة أمر الحرب الأميركيّة، كان من الأمور التي كان مقصود يزهو بها، وعن حق. لم يكن في وارده أن يقبل بتشريع حرب غربيّة - عربيّة على بلد عربي. كانت هذه عنده من بديهيّات انتمائه القومي. لكن مقصود يقول في كتابه المذكور: «قيل لي قبل ذلك: نرجوك لا تتكلّم بالحل العربي» (ص. ٣٣٧). لكنه لا يذكر لنا مَن الذي قال له ذلك، ولماذا تستّر على الذين قالوا له ذلك (يُستشف من الكلام أن بندر هو الذي قال له ذلك) خصوصاً أن التستّر يساهم في التعمية على مؤامرة من أفظع المؤامرات المعاصرة التي تعرّض لها عالمنا العربي.
لكن كلوفيس كان رجل تناقضات. كان صارماً في انتمائه القومي العربي (في الهويّة والحركيّة)، لكنه عمل لسنوات في جريدة «النهار» التي تخصّصت في الهجوم والتجنّي على الفكر والممارسة القوميّة العربيّة، وروّجت بابتذال لفكر الانعزاليّة اللبنانيّة. كان يفسّر لنا دوره في «النهار» بالتذكير بصداقته مع غسّان تويني. كان مُنظّراً مُبكّراً لدور الجامعة العربيّة، لكنه أحجم عن نقدها بعد أن قتلتها أنظمة الخليج والنظام المصري «الكامب ديفيدي». لم نقرأ له (ولا حتّى في مذكّراته) نقداً لقرار قتل الجامعة العربيّة، لا بل إن عمرو موسى (الذي ساهم في تسخير الجامعة للنظام السعودي ولحسني مبارك) كتب له مقدّمة باهتة لـ«من زوايا الذاكرة». كان موالياً ومُخلصاً لجمال عبد الناصر، لكنه تمنّع عن نقد أعدائه الذين ما توقّفوا للحظة عن هجائه وعن تشويه مواقفه. كان يُفرط في المديح أمام الحكّام الخليجيّين (وله صولات وجولات في مهرجان الجنادريّة) فيما كان يُحجم عن النقد ضد الأنظمة التي خانت وحاربت تلك المبادئ التي ناضل من أجلها طيلة حياته (حتى السبعينيات). أذكر انني فوجئت عندما قرأت مذكّراته أن اجد إشارة إلى «تبرع (الملك عبدالله بن عبد العزيز) بمبلغ سخي» (ص. ٤١٥) لكرسي باسم هالة سلام مقصود في جامعة جورجتاون. سبب المفاجأة ان مقصود قصّ عليّ بالتفصيل (في بيت الصديق زياد الحافظ، وبحثّ من الصديق كمال خلف الطويل) خبر سفره إلى الخليج يومذاك وكيف مرّ في السعوديّة لكنه لم يلتقِ الملك، ثم كان في البحرين وتلقّى دعوة من الملك السعودي الذي أرسل له طائرة خاصّة لتأتي به إلى المملكة، ثم قصّ علينا خبر الحديث بينهما وكيف ان الملك بالكاد تفوّه بكلمة. وسألته انا: وهل تبرّع لكَ بمبلغ؟ فقال: لا، لم يتبرّع.
لم تكن له صفات قياديّة وإن كانت كتاباته ذات صبغة قياديّة


لكن لمقصود مآثر لا تنسى في ثلاثة صعد على الأقل: الأوّل في مجال انفتاح القوميّة العربيّة على العالم الثالث، والثاني في تحديد الموقف النظري والعملي لليسار القومي العربي من الشيوعيّة، والثالث في مجال العمل الإعلامي الدؤوب ضد الصهيونيّة وللتعريف بالقضيّة الفلسطينيّة في الولايات المتحدة الأميركيّة. ساهم في إخراج الفكر القومي العربي من قوقعته البعثيّة وغير البعثيّة عبر ربط حركة التحرّر القومي العربي بحركات التحرّر في الدول الآسيويّة والأفريقيّة (عمل بطرس غالي، الناصري في العهد الناصري والساداتي في العهد الساداتي والمباركي في العهد المباركي، على توطيد علاقة الديبلوماسيّة العربيّة في العهد الناصري مع الدول الأفريقيّة، راجع كتابه بعد النكسة «أزمة الديبلوماسيّة العربيّة»). وعمل مقصود لسنوات في الهند على توطيد أواصر الصداقة والتضامن بين القوميّة العربيّة وبين حزب المؤتمر (وغيره من الأحزاب) في الهند، وهذا ساهم في تشكيل وعي قومي عربي جديد، وقد يكون أثّر على ديبلوماسيّة عبد الناصر (وأصدر مقصود في سنواته في الهند كتيّباً بالإنكليزيّة عن «عدم الانحياز»). وفي كتابه عرّف بمفهومه «الحياد الإيجابي» —الذي استعاره من نهرو - والذي أصبح ركناً في السياسة الناصريّة التي كانت في بداياتها تخشى الربط بالمعسكر الشيوعي. وفي كتاب «أزمة اليسار العربي» حرر كلوفيس اليسار القومي العربي من «عقدة» الشيوعيّة وميّز بين تيارات مختلفة من الشيوعيّة، وقد يكون أثّر هنا أيضاً على الموقف الناصري من الشيوعيّة. وكان الكتاب رائداً في رؤية إنسانيّة للماركسيّة وتحريرها، في الموقف القومي النقدي، من دوغما التعميمات اللينينيّة والستالينيّة. وكانت رؤية مقصود ديمقراطيّة مُبكرّة.
أما الصعيد الثالث، فقد عمل بلا كلل على مرّ عقود طويلة، منذ سنوات دراسته في أميركا، إلى مقارعة الخطاب الصهيوني الأميركي لكن بالحجّة وليس بالبكاء والنحيب على عادة بعض المتحدّثين العرب في أميركا حتى الستينيات. كان سبّاقاً في هذا المضمار، وسبق ظهور فايز صايغ وهشام شرابي، وإدوار سعيد فيما بعد. لكن الأهم في عمل مقصود في أميركا أنه لم يكن يؤمن ان الطريق إلى تغيير الرأي العام الأميركي يكمن (كما رأى ديبلوماسيّو أنظمة الخليج) في التقرّب والتحالف مع اللوبي الإسرائيلي، ولم يؤمن (على طريقة ياسر عرفات) بالتعويل على الإدارة الأميركيّة الحاكمة. بل دعا ونادى إلى عمل على مستوى العلاقة المباشرة مع الشعب الأميركي وقواه اليساريّة وحركات الأقليّات على أنواعها. هذا النوع من العمل كان كلوفيس سبّاقاً إليه وأثّر فيما بعد على عمل «المنظمّة العربيّة الأميركيّة لمكافحة التمييز» (قبل شرائها مثل كل التنظيمات العربيّة والإسلاميّة في واشنطن من قبل طغاة الخليج في عام ١٩٩٠). لم يكن يميّز في قبول الدعوات، وكان يسارع إلى تبلية الدعوات التي تأتيه من حركات السود اللاتينيّين، والتي أهملها العمل العربي الديبلوماسي في واشنطن. لكنه لم يكن يعتبر ان العمل التعبوي يكفي لوحده من دون رفده بأعمال مقاومة عربيّة. وقلّة تعرف أن كلوفيس لعب دوراً مهماً في تأسيس «مركز الدراسات العربيّة المعاصرة» في جامعة جورجتاون، كأوّل مركز اكاديمي أميركي مُتحرّر من النظرة الاستشرافية في دراسة الشرق الأوسط.
في العقد الأخير من عمره، عانى مقصود مِن ما أسماه صديق واشنطوني له من «عوارض خَلجَنة متأخّرة»، إذ انه اعتنق نموذجاً مُنفِّراً من قوميّة متماشية مع السياسة السعوديّة. حتى أنه في كتابه الأخير أقحم في موقع منه، وبصورة خارجة عن سياق الكتاب، ملاحظة عن حزب الله بعد عدوان تمّوز، وسخر من إعلان الحزب لـ«النصر الإلهي» لأن الحزب لم يهزم إسرائيل، حسب قوله (ص. ٤٤٥). لكن المقطع لفتني لثلاثة أسباب: ١) متى كان كلوفيس صاحب الخطب المُفرطة في المبالغة والتعظيم وفي تحويل هزائم حقيقيّة للعرب إلى انتصارات يُدقّق في الكلام خصوصاً بعد حرب كانت أبرع مواجهة في قتال العدوّ منذ احتلال فلسطين في عام ١٩٤٨.
٢) السبب الثاني أنّ كلوفيس كان يُقنعنا بعظمة وأهميّة وضرورة دعم حزب الله في حقبة صبحي الطفيلي عندما كنتُ مثل الكثيرين من اليساريّين العرب في أميركا نأخذ على الحزب ليس فقط عقيدته الدينيّة، بل أيضاً حملة الاغتيالات ضد خيرة من الشيوعيّين في الثمانينيات (والتي ينسبها الحزب إلى «امل» وتنسبها «أمل» إلى الحزب، ما يستدعي تحقيقاً جديّاً فيها لأن دماء الشيوعيّين ليست أرخص من دماء الإسلاميّين). كان كلوفيس آنذاك، وقبل تبلور حركة مقاومة متطوّرة في حقبة حسن نصرالله، يستفيض في أهميّة مقاومة الحزب التاريخيّة.
٣) السبب الثالث أنه اعتبر خطبة «النصر الإلهي» عودة «إلى اللغة الطائفيّة الضيّقة» للحزب فقط لأن نصرالله انتقد الحكّام العرب الذين ناصروا العدوّ علناً (مثل آل سعود ومبارك). وكيف أن لغة صبحي الطفيلي الطائفيّة الصارخة في حقبة الدعوة للجمهوريّة الإسلاميّة في لبنان لم تزعجه آنذاك؟ لكن هذه التناقضات هي التي اصطُلح على تسميتها بـ«الكلفسة» (والمصطلح لبس كلوفيس عندما زار عرفات مصر في عام ١٩٨٣ وسُئِل كلوفيس إذا كانت الزيارة تلك تخالف قرار الجامعة العربيّة في مقاطعة مصر وردّ بالقول الشهير: «هو لم يخالف قرارات المقاطعة لكنه لم يلتزم بها»).
سعى مقصود كي يعيش ويموت في عصر التحرير لا في يوم النكبة. لكن الرجل الذي عاش النكبة بسنواتها الطوال مات في ذكراها. كان يفضّل لو أنه مات في يوم تحرير فلسطين.
(ملاحظة: لم يرد في المراثي عن كلوفيس أنّ له ابنة اسمها ليزيت مونديلو وحفيد، وهي من زواج سبق زواجه من هالة سلام. وقد لازمته في فترات مرضه، ولها التعازي ولابنها أيضاً).
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)