وقفت جحافل الجيش الأحمر على مشارف نهر الألب تتطلع بتهيّب إلى مدينة درسدن لؤلؤة ألمانيا الباقية بعدما دمرت غارات الحلفاء معظم مدنها. لم يكن الجيش الأحمر ينقصه شيء حتى يستولي على المدينة، ففي عام 1945 في أواخر الحرب العالمية الثانية كان الجيش الأحمر أعظم جيش بري على وجه الأرض. لم تكن درسدن مدينة عادية، فهي العاصمة الملكية للساكسونيين الذين حولوها إلى واحدة من أجمل مدن أوروبا حتى لقّبت بـ»علبة الجواهر» لجمال عمارتها. كانت درسدن أو «فلورانس الألب» لكونها عاصمة ثقافية وفنية مدينة وادعة خارج الحرب، وفيها احتمى مئات آلاف اللاجئين الألمان من المدن المدمرة.
لكن الثالث عشر من شباط من ذلك العام سيغيّر كل شيء، يومها انقضَت من السماء أكثر من سبع مئة قاذفة إنكليزية وخمس مئة قاذفة أميركية ملقية 2500 طن من المتفجرات و1500 طن من القنابل الحارقة على القلب التاريخي لدرسدن. وعلى مدى يومين كاملين تواصلت الغارات على المدينة التي ترجع أبنيتها الخشبية إلى القرون الوسطى. كل شيء صمم في الغارات لكي تكون الإبادة كاملة: استهدفت أطقم الأغاثة، قطعت طرق الهروب، والأسوأ كان الحريق الذي صمم بعناية ليتحول إلى عاصفة نارية حوّلت قلب المدينة التاريخي إلى كتلة لهب هائلة. وصلت الحرارة في قلب العاصفة إلى أكثر من 1500 درجة، ذاب الكبار ليصبحوا بحجم أطفال صغار، كما يروي أحد الناجين القلة. حتى اليوم، لم يعرف بعد العدد الحقيقي للضحايا، التقديرات تختلف ما بين 25 ألف ومئتي ألف، والصعوبة تكمن في ذوبان الجثث وفي أن أغلب الضحايا هم من النازحين.
■ ■ ■
ليس الهائل في محرقة درسدن عدد القتلى المدنيين ولا عواصف النيران، فقد سقط مثلهم في قصف ستالينغراد وطوكيو وهامبورغ، بل الهائل في ما حدث هو العبثية. على عكس المجازر الأخرى التي كانت لها أهداف سياسية أو عسكرية، لم يكن لتدمير درسدن أي هدف يذكر. فألمانيا كانت قد خسرت الحرب منذ وقت طويل، منذ أن فشلت دبابات فون مايشتن في فك الحصار عن الجيش الألماني السادس المحاصر في ستالينغراد ليُترك لمصيره المحتوم، كل ما بقي من قتال لم يكن إلا طقوس الهزيمة المشرفة.
2500 طن من المتفجرات
و1500 طن من القنابل الحارقة
ألقيت على درسدن

عندما سئل الجنرال الإنكليزي آرثير هاريس قائد طيران الحلفاء عما يمكن أن يحققه هذا القصف، أجاب بأنه «يقصر الحرب»، علماً بأن القصف استهدف المناطق السكنية حصراً ولم يطل المناطق الصناعية حول درسدن. ثم أكمل هاريس بأنه يعتبر أن «كل ما بقي من مدن ألمانيا لا يساوي عظام جندي إنكليزي واحد». أما وزير الطيران الإنكليزي كولن جريرزون، فكان أكثر دبلوماسية: «هذه الغارة أسهمت في تدمير معنويات الألمان». ولكن ترى، كم يختلف هذا التبرير عمّا استعمله بن لادن، مثلاً، لتبرير هجوم مركز التجارة العالمي، علماً بأن أميركا عندما تعرضت للهجوم لم تكن مهزومة كما حال ألمانيا. وحتى اليوم تصر أميركا وبريطانيا على أن هجوم درسدن كان مبرراً ومفيداً لأنه «قصر أمد الحرب وساعد في حفظ أرواح جنودنا».
■ ■ ■
ترى لماذا هذه القسوة على دولة مهزومة وممزقة؟ لماذا لا يستشعر الإنكليز بأي شفقة على أنسبائهم المدنيين الألمان؟ أسئلة لا يسألها إلا اثنان: مثالي ساذج أو شرقي مؤمن بالأخلاق كما يعرِّفها المفهوم الشرقي الديني الذي يراها قيمة مطلقة بذاتها ولا تتغير بالسياق. أما في المفهوم الغربي للأخلاق، فان الإجابة عن السؤال: لماذا القسوة على دولة مهزومة؟ فهي موجودة في السؤال: لأنها مهزومة. لأن المهزوم لا عدالة له ويستحق القسوة، وأمامه خياران: إما الموت أو العبودية على حسب جدلية العبد والسيد التي فسّر بها هيغل تطور المجتمع والتاريخ.
ولكن لماذا إضاعة الوقود والذخائر، كما تساءل تشرشل؟ أو لماذا «العنترية» على الضعفاء؟ قد يسأل واحد منا. وفي الواقع، إن عنترة نفسه أجاب، فلما سئل كيف تعنترت يا عنترة قال: «كنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشجاع، فأثني عليه، فأقتله». وهو بالضبط ما حاول أن يقوم به الجنرال هاريس الذي كان يريد أن يرسل رسالة قوة إلى الجيش الأحمر القوي فضرب الضعفاء في درسدن ضربة هائلة. صحيح أنه لم يطر لها قلب القوي الأحمر الذي خبر ويلات أعظم، ولكن بالنسبة إلى الإنكليز لا بأس من المحاولة لأن لا شيء يخسرونه. بريطانيا، أعرق الديمقراطيات الغربية، لم تعتذر حتى اليوم وما زالت تصر على أن ما حدث في درسدن مبرر. المطلع على الأداء الاخلاقي الغربي تصيبه الحيرة حول أنه كيف يمكن الغرب، بعد أداء كهذا، أن يستمر بادعاء التفوق الأخلاقي وبأن يستعمل هذا التفوق كأداة من أقوى أدوات الصراع. ولعله إذا أردنا أن نفهم نظام الأخلاق الغربي، فلا بد من الرجوع إلى نيتشه الذي هو في دراسة الأخلاق ما كان ميكيافللي في السياسة. ففي كتابه «جينالوجيا الأخلاق» وهو تحقيق في الجذور التاريخية لمفهوم الأخلاق الغربي، يميز نيتشه ما بين أخلاق السيد (أو القوي) وأخلاق العبد (الضعيف). بالنسبة إلى القوي، الجيد والسيئ هما ما هو جيد وسيئ له. أما العمل النبيل، فهو ما يقوم به النبيل القوي وليس النبيل نبيلاً لأنه يقوم بالعمل النبيل. أما أخلاق العبد بالنسبة إلى نيتشه، فهي النظام الأخلاقي الديني الذي أنشأته طبقة الكهنة اليهودية -المسيحية في مواجهة النبلاء الرومان. ويعرف هذا النظام الأخلاقي الجيد بما هو مثل الكهنة، والسيئ هو ما لا يشبههم. وبغض النظر عن آراء نيتشه المثيرة للجدل، فإن أهم ما قدمه هو وصفه العبقري لكيفية تحويل النظام الأخلاقي إلى سلاح فعال في صراع أدى إلى هزيمة الإمبراطورية الرومانية عبر ما سمّاه «انتقام الضعفاء».
■ ■ ■
التلاعب بالقواعد الأخلاقية ينتج منه سلاح بكل المعايير، سلاح يسمح بالعزل والشيطنة والنبذ من ثم الخنق والإضعاف. الغرب اليوم يجيد بنحو ممتاز استعمال هذا السلاح، فهو يستعمل الأخلاق الدينية مع العدو القوي، ولكنه عندما يكون منتصراً يُظهر حقيقة أخلاقه الجاهلية الرومانية، أخلاق السيد في تعامله مع العبد. ولكن كيف يمكن القواعد الأخلاقية أن تخدم طرفاً دون آخر وهي من حيث المبدأ شاملة الانطباق ويجب أن تحكم الجميع بالتساوي؟ الجواب هو بصناعة الصورة والإدراك أو صناعة الشرير. فالشرير هو ذاك الذي لا يشبهنا ويجب أن نفرح لآلامه، بينما الطيب هو الذي يشبهنا. لا يختلف الأمر كثيراً عمّا تفعله هوليوود في أفلامها، فعندما يحرك البطل الأميركي رشاشه، فإن الأشرار سيتساقطون بسرعة، بلا دماء ولا نزف وحتى جثثهم تختفي حتى لا تشوه المشهد، وعلينا أن نفرح كلما سقط أكثر. أما البطل الأميركي، فإنه عندما يصاب، يستلقي ويتأوه ببطء، فيتوقف الكون ولا يموت قبل أن يطلب من رفيقه أن يوصل لأطفاله ولزوجته كم يحبهم وسط دموع وصرخات رفيقه الذي يحضنه. إنه مثلنا إنسان له عائلة ومشاعر، وأما الذين قتلهم، فهم «الآخرون»، مجرد أرقام لا أهل لهم ولا عائلات... لعلها فقاسة أنتجتهم.
وطبعاً من الخطأ أن نفترض أن الجيد هو الأميركي بالعرق أو الجنسية، بل الأميركي هو من مأساته تفيد المصالح الأميركية. فراشيل كوري الناشطة التي سحقتها جرافات الاحتلال الإسرائيلي، كانت أميركية شقراء، لكنها ماتت بسرعة دون صور، وعُدّ الأمر حادثاً عابراً. أما ندى الإيرانية، فقد استعمرت صورها الشاشات الأميركية أثناء أحداث الانتخابات الإيرانية حتى دخلت مأساتها كل بيت. وإذا كنت من متابعي CNN، فإن «مالالا» الفتاة الباكستانية التي أطلق الطالبان عليها النار منذ أشهر ستصبح جزءاً من عائلتك، وستعرف أخبارها أكثر من أخبار طفلتك، وسترتفع حرارتك كلما ارتفعت حرارتها (اختارتها مجلة «تايم» في المرتبة الثانية بعد أوباما كشخصية عام 2012).
■ ■ ■
اللعبة الإعلامية القديمة ليست أداة الغرب الوحيدة لاستعمال التلاعب الأخلاقي في صراعاته واستراتجياته. فأخيراً بدأ الغرب يستعمل سلاح المحاكم التي ينشئها لاستهداف أعدائه. لا يشعر الغرب بأي إحراج من هذا الاستعمال المكشوف ولا باستعداده للمساومة على هذه المحاكم عندما يُدفع الثمن المناسب. والصفقة deal أساسية في صلب الشخصية الأميركية وحتى في المجال القانوني. حيث من الشائع أن تعطى الحصانة لمجرم مدان في سبيل مصلحة أكبر، لأن العدالة بالمفهوم الأميركي هي لزيادة المنفعة، والأمر الجيد هو الأمر الأكثر نفعاً، لا أكثر. الخوف كل الخوف هو عندما تدخل العدالة الأميركية إلى نسيج مجتمعنا الشرقي فتختلط المفاهيم، ما بين المفهوم الشرقي للعدالة كقيمة مطلقة والمفهوم الغربي النفعي. فعندما تدين محكمة غربية طرفاً ما عندما لا يدفع الثمن المناسب، هل ستفهم عقولنا الشرقية اللعبة الغربية أم أن عقل داحس والغبراء هو الذي سيسيطر؟
* أستاذ جامعي