في المنشورات العلمية والاقتصادية، يجري الحديث باستمرار عن تقنيات جديدة صاعدة، قد تكون تطبيقاتها العملية محدودة أو غير ظاهرةٍ اليوم، ولكن من المؤكّد انّها سوف تطبع عالم المستقبل و"تخلخل" العديد من الصناعات وأنماط الاستهلاك والانتاج. تكنولوجيا النانو والذكاء الاصطناعي في أجياله الجديدة، والبعض يضيف الحوسبة الكمية، أمثلةٌ على ذلك. ومثلما كانت الالكترونيات الدقيقة وشرائح السيليكون والحوسبة، في السبعينيات، تمثّل "سلع المستقبل"، فإنّ هذا الإهتمام يسبغ اليوم على عددٍ من التطبيقات توشك على دخول الأسواق وإحداث تغيير نوعيٍّ فيها.السيارات التي تقود نفسها من أقرب هذه التقنيات الى عالم الواقع، وهناك عدّة مشاريع تجاريّة تخطّت عتبة التجارب والإختبار، ويتوقّع الخبراء أن تدخل السّوق بين عامي 2025 و2030، وأن تصير السيارة الذاتية القيادة بعدها مشهداً اعتيادياً في الحياة اليوميّة. هنا يجب أن نميّز بين القيادة الاوتوماتيكيّة "الجزئية"، كالسيارات التي تركن نفسها بنفسها، أو تلك التي تقود بشكلٍ ذاتي على الطرقات السريعة (عبر مزيج من الرادار والكاميرات، وهذه الخاصية أصبحت موجودة اليوم في عددٍ من النماذج الحديثة لعدّة شركات)، وبين المثال الذي تسعى اليه شركات كـ"غوغل" وغيرها، ألا وهي السيّارة "المستقلّة" بالكامل، حيث قد لا يوجد أساساً مقودٌ وإمكانية للتسيير البشري، وتقوم السيارة وبرنامجها ومجسّاتها، حصراً، بكامل مهام السائق.
المسألة، وأهمّيّتها الاقتصادية، لا تقتصر على فكرة "إراحة" السائق من القيادة، أو خفض معدّل الحوادث، بل هي في أنّ السيارة الذاتية القيادة سوف تفرز مفهوماً جديداً بالكامل للنقل والمواصلات، وقد تغيّر شكل المدينة وتهمّش صناعات وشركات عمرها أكثر من قرن. الى جانب أن الكمبيوتر هو سائقٌ أفضل بكثير من الإنسان ــــ لا يسهو ولا يغفو ولا يتهوّر ولا يتكلّم على الهاتف أثناء القيادة ــــ فإن السيارات الذكية "تتكلّم" الى بعضها وتتواصل، وتوجّه سيرها جماعياً وتعقلنه بطريقةٍ تخفّف الازدحام، وتختار السرعة المثلى لكلّ جزءٍ من الطريق، وتوزّع بعضها على مسارب مختلفة. أهمّ من ذلك، بوجود السيارة الذكية، قد لا تكون هناك حاجة لملكية السيارات بشكلٍ فرديّ بعد اليوم (والسيارة سلعةٌ "غير اقتصادية" البتة، وإن كانت ضرورية، فهي تكلّف الكثير ولا تستخدمها الا لنزرٍ يسير من اليوم وتحتاج الى تغييرها بشكلٍ دوري). في المستقبل القريب، قد تكون علاقتك بـ"سيارتك" على شكل "اشتراك"، أو خدمة توصيل، تطلبها حين تحتاجها فحسب، وتنصرف السيارة لوحدها، بعد ذلك، الى خدمة زبائن آخرين (ما يمنع حالة التشارك الكاملة هذه، اليوم، هي الحاجة الدائمة الى سائقٍ بشري في السيارة). هذا يعني أن عدد السيارات التي تسير في المدينة سيتقلص بشكلٍ دراماتيكيّ، وتنتفي الحاجة الى مساحات كبيرة لركن ملايين السيارات الهامدة، وقد تصبح الشوارع أقلّ اتساعاً، ونستعيد قسماًَ منها لصالح الأرصفة وطرق المشاة…
الّا أنّ هذا المستقبل، يقول تقرير لـ"بلومبرغ"، يعني ايضاً أنّ مبيعات السيارات ستنخفض، وأن الشركات الصانعة الكبرى، حتى لو استمرّت في عصر السيارة الذكية، قد تصبح مجرّد "مزوّدٍ" هامشي للهيكل والمحرّك، فيما القيمة الحقيقية للسيارة تكمن في التكنولوجيا وجملة البرامج التي توجّهها، وستحصد هذه القيمة المضافة شركات التصميم كـ"غوغل" وغيرها (للمقارنة، نُشر تحقيقٌ منذ سنوات يفيد بأن أكثر من ثلثيّ ثمن الـ"آيباد" الذي يشتريه المستهلك يذهب مقابلاً لـ"التصميم والتسويق"، ويعود الى شركة "آبل"، فيما كلفة صناعة الجهاز نفسه، وثمن قطعه وتجميعها، وبدل اليد العاملة، لا تشكّل كلّها مجتمعة أكثر من ثلث السّعر).
عام 2013، حين كانت سيارات "غوغل" الذكية قد قادت نفسها بنفسها لأكثر من نصف مليون ميل، وأصبح أحد مهندسي الشركة يستخدمها يوميّاً للإنتقال من منزله في مدينة بيركلي الى عمله في "غوغل" على بعد سبعين كيلومتراً، نشرت مجلة "نيويوركر" تحقيقاً طويلاً عن التقنية وجذورها وروّادها الأساسيين. خلاصة التحقيق هي أنّ "السيارة الذكية" موجودةٌ كمفهومٍ منذ ثلاثينيات القرن العشرين، وقد كان السعي اليها مستمرّاً، كما أن "أجزاء" من هذه التقنية تدخل السيارات بانتظام منذ السبعينيات (كأنظمة التحكم الاوتوماتيكي بالسرعة)، وتوجد منذ التسعينيات سيارة في المانيا تقدر على تتبّع خطوط الطريق وقد سارت لوحدها من المانيا الى الدانمارك. ما استجدّ اليوم، بحسب المجلّة، هو أن المهندسين هم في عصرٍ قد "نضجت" فيه كل التقنيات اللازمة لتحقيق السيارة الذكية، من الحواسب القوية الخفيفة الى المجسّات، كالرادارات واللايزر والكاميرات، التي كانت باهظة الثمن أو غير عملية في الماضي القريب، وهي اليوم متوافرة بأسعارٍ متهاودة (جهاز اللايزر الذي يمسح المنطقة حول السيارة، تقول "بلومبرغ"، سعره حالياً 50 الف دولار، ولكن نسخته الجديدة ستكون بثمانية آلاف، وبدلاً من أن يكون بحجم عبوة غازٍ على سقف السيارة، تمكنت "غوغل" من تصغيره الى درجة دمج عناصره في الهيكل).
يروي تحقيق "نيويوركر" تفاصيل مثيرة عن تاريخ "السيارة الذكية" والتحديات التقنية التي اكتنفت المشروع (من السهل تسليم 98% من عملية القيادة الى الحاسوب، تقول المجلّة، المشكلة التي أعاقت المهندسين هي في الـ2% المتبقية: كيف تميّز كيساً عن غرضٍ صلب، أو شجيرةٍ عن حائط، أو حيوان يعبر الطريق عن انسان؟). ولكن جانباً أساسياً من المسألة لا يتمّ المرور عليه الّا لماماً في التقارير التفاؤلية للصحافة. "السيارة الذكية" ــــ كالانترنت وشاشة اللمس والحاسوب المحمول ــــ هي أساساً مشروع عسكريّ، وما سرّع عملية انتاج السيارة في اميركا كان هدفاً وضعه الجيش، عام 1995، بأن تصبح ثلث عرباته القتالية "ذاتية القيادة" بحلول العام 2015. لم يحقّق الجيش هدفه، ولكن التمويل الذي استثمر في الأبحاث، والمشاريع المشتركة مع القطاع الخاص، أوصلت التقنية الى مرحلة الاكتمال. أهمّ حدثٍ في تاريخ السيارة الذكية، تقول "نيويوركر"، كان مسابقة "داربا" (وهي ذراع أبحاث للجيش الأميركي، تختص بتطوير الأسلحة المستقبلية) التي أعلنت، عام 2004، عن وهب مليون دولار كجائزة للفريق العلمي الذي تفوز سيارته الذاتية القيادة بسباقٍ مسافته 200 كيلومتر في كاليفورنيا ــــ في السنة الأولى للمسابقة، لم يجتز أحدٌ خط النهاية، وقد سارت السيارة الفائزة أكثر قليلاً من عشرة كيلومترات قبل أن تنحرف عن الطريق؛ أما في السنة التي بعدها، فقد اجتازته خمس سيارات.