بعدما تراجعت حدّة النقاشات حول الأزمة بين اليونان وترويكا الدائنين أعاد مشروع القانون الذي أعدّته الحكومة اليونانية استكمالاً لإجراءات التقشّف تسليط الضوء على طبيعة التنازلات التي قُدّمت في سياق التراجع عن الوعود السابقة. فالحكومة بعد كلّ ما قدمته من تنازلات للدائنين لم تعد تملك مشروعاً غير الاستمرار في المسار الحالي، وبعد أن تراجع حجم تمثيلها الشعبي لمصلحة كتلة ائتلافية من اليسار واليمين -لا تُعرَف لها هوية سياسية واضحة- أصبحت خاضعة لحيثية هذا الائتلاف أكثر منها لمصالح الطبقات التي تمثّلها والتي كان آخر قياس جدّي لها في تموز من العام الماضي حين جرى الاستفتاء الشهير على القبول بشروط الدائنين من عدمه. في هذه الفترة طرأت على الواقع اليوناني تغييرات كثيرة ووجدت الحكومة نفسها أمام أولويات لم تكن تتوقّعها (مثل التعامل مع قضية اللاجئين مثلاً)، ولكن صلب الأزمة بقي كما هو، حيث لم تتحقق أيٌّ من الوعود التي من أجلها تراجعت الحكومة عن رفضها لشروط الدائنين... وبالتالي بقيت ظروف الاحتجاج قائمة في انتظار ما ستُقدِم عليه الحكومة.
توسّع دائرة الرفض

قبل طرح القانون على التصويت في البرلمان كانت البلاد قد دخلت إضراباً عاماً لمدة ثلاثة أيام احتجاجاً على إجراءات التقشّف الجديدة التي تريد الحكومة إقرارها. وقد تسبّب الإضراب في شلّ حركة النقل العام بالإضافة إلى إبطائه العمل في مؤسّسات القطاع العام والإعلام. والملفت أنّ التأييد له لم يقتصر هذه المرّة على النقابات والقطاعات الشعبية المتضرّرة من سياسات الحكومة بل امتدّ ليشمل الأحزاب التي أيّدت تسيبراس في مسعاه العام الماضي للالتفاف حول الإرادة الشعبية التي عبر عنها الاستفتاء. إذ بالإضافة إلى الحزب الشيوعي الذي ينتمي بالأساس إلى "كتلة الرفض" صدرت تصريحات عن زعيمة حزب "باسوك" فيفي غونيماتا تعبّر فيها عن رفضها الإجراءات الجديدة، معتبرةً إياها "تدميراً لنظام المعاشات". ثمّ أردَفَت معلّقة على التصويت بالإيجاب على مشروع القانون:
لم تعد الحكومة تملك مشروعاً غير تقديم التنازلات للدائنين

"إنّ من صوتوا بالموافقة قدّموا الكثير من الوعود للمحتجين في الميادين العامة منذ خمس سنوات، والآن أصبحوا خائفين من ترك مناصبهم". هذا الموقف لم يؤثّر على الكتلة التصويتية الموالية التي رجّحت اعتماد القانون ولكنه أضاف إلى رصيد المعارضة البرلمانية التي توسّعت دوائرها لتشمل كتلتي "باسوك" والمنشقّين عن "سيريزا". وفي حال اعتماد المزيد من الإجراءات التقشّفية التي يبدو أنها لن تتوقّف قريباً فإنّ الكتلة التمثيلية التي يحظى بها تسيبراس ستستمرّ في التقلّص (حالياً تقتصر على نواب سيريزا وأنيل اليميني). ومع تقلّصها ستتزايد فرص المعارضة في تشكيل كتلة ضغط على الحكومة لمنعها من تقديم المزيد من التنازلات للدائنين. يدعمها في ذلك سخط شعبي كبير لم يقتصر على فعل الإضراب فحسب بل تعدّاه إلى حصول احتجاجات ضدّ الشرطة أودت بحياة ثلاثة أشخاص ذهبوا ضحيةً للاشتباك، وهذا يعني أنّ السخط الاجتماعي قد وصل إلى أقصاه وبدأ يهدّد بانتشار العنف داخل المجتمع. أمرٌ كهذا سيُحدِث في حال تزايُدِه استقطاباً داخل المجتمع، وسيحرّك قطاعات (وخصوصاً في الطبقة الوسطى التي استجابت أجزاءٌ كبيرة منها لدعاية الحكومة ووعودها بتحقيق الاستقرار) كانت تعوّل حتى وقتٍ قريب على ادعاءات تسيبراس بالخروج من الأزمة بمجرّد الموافقة على شروط الدائنين. والحال أنّ بنود القانون الجديد كفيلة وحدها بتحريك هؤلاء من دون الحاجة إلى بذل جهود لاستقطابهم، حيث يتضّح من متابعة بنوده انه يستهدف بالدرجة الأولى أفراد الطبقة الوسطى التي تُعتبَر المتضرّر الأول من إقراره وتمريره داخل البرلمان.


فحوى القانون

ينصّ مشروع القانون الذي نال موافقة الائتلاف الحكومي في البرلمان وأصبح نافذاً على خفض المعاشات التقاعدية لذوي الرواتب العليا ودمج صناديق الضمان المتعدّدة وزيادة اشتراكات الضمان والرسوم وضرائب الدخل على ذوي الرواتب المتوسّطة والمرتفعة. والمشكلة هنا ليست في القانون بحدّ ذاته رغم انعكاساته المُحتمَلة على نمط حياة الطبقة الوسطى في اليونان بقدر ما هي في ارتباطه بالشروط التي يضعها الدائنون للموافقة على إعطاء الحكومة دفعةً جديدة من القروض. فالقانون يتضمّن بالإضافة إلى البنود المذكورة أعلاه اعتماد "آلية تصحيح تلقائية" في حال حصول خلل في الموازنة. والمقصود بالخلل هنا عدم قدرة الحكومة بعد إقرار القانون على تحقيق فائض أوّلي في الموازنة يصل إلى 3,5 % من إجمالي الناتج المحلّي. وهذا يعني انه في حال عدم الوصول إلى هذه النسبة فإن "الآلية التلقائية" الموضوعة في القانون ستُفعَّل، بما يضمن حصول الدائنين على شروطهم. وعن هذه الشروط تقول الصحيفة المالية اليونانية: "في حال جاءت الموازنة مختلفة عن الأهداف التي وضعها الدائنون للعامين 2017 و2018، فعلى وزير المالية اليوناني تفعيل هذه الآلية التي يجب أن تحدد خلال مدة شهر قيمة تخفيض النفقات الضرورية، والتي ستكون عبر خفض الرواتب ورواتب التقاعد أو زيادة الضرائب". الجدل الذي أثارته الآلية اشتَعَل عبر مواقع التواصل الاجتماعي ودفع بالحكومة إلى توضيح موقفها عبر القول بأنه لن تكون ثمة حاجة لاعتماد الآلية، ولكن الضرر الذي أحدثه اعتمادها كان قد وقع، ولم يعد مجدياً النفي طالما أن التراجع عنها لم يحصل، وبقي في إطار النفي الصُوَري. كلّ ذلك انعكس على حجم "التأييد الشعبي" لقرار البرلمان، فاعتماد القانون حصل بالتعارض مع الإرادة الشعبية التي رأت في إقراره إذعاناً لابتزاز الدائنين الذين يرهنون حصول الحكومة على القروض بتحقيقها فائضاً مالياً على حساب الأكثرية الشعبية التي ستُؤخَذ هذه الأموال من جيوبها، بعد كلّ ما دفعته سابقاً.

خاتمة

حين يُسأل وزراء في الحكومة عن ذلك يجيبون بأنّ البلاد لم تعد تحتمل، وانّ إجراءً كهذا سيساعد في جذب المستثمرين واستعادة ثقة الأسواق بالاقتصاد اليوناني، بينما المنطق الاقتصادي البسيط يقول بأنّ الأسواق لا تتحرّك عبر تحصيل الفوائض من اقتطاعات عائدة إلى الطبقة الوسطى، وإلا لكانت أزمة الركود في العالم كلها قد حُلّت. والحقيقة أنّ الأموال التي ستأتي إلى الحكومة اليونانية في حال صَدَق الدائنون بوعودهم لن تذهب لتوسيع السوق وتحقيق فوائض تستفيد منها الطبقتان الوسطى والفقيرة، بل ستُوَظّف كلها لخدمة الدين -الخارجي- الذي تضاعف مرّات بعد الاقتراض من الترويكا (صندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية والمصرف المركزي الأوروبي)، وفي حال تم تسديده فإنّ الباقي من الأموال لن يكون كافياً لإيفاء الدين الداخلي وسداد مستحقّات البنوك اليونانية على الدولة. هكذا، لن يتبقَّى للطبقات الاجتماعية التي تحتجّ وتتظاهر الآن اعتراضاً على استكمال رهن أموالها ومكتسباتها للخارج إلا الفتات. وما تقوله الحكومة على لسان وزير ماليتها عن ضرورة "استكمال الإصلاح" نظراً الى العجز الكبير الحاصل في صناديق التقاعد لا يعدو كونه حلقة في مسلسل التنازلات التي بدأها تسيبراس وتتحمّل الحكومة بتركيبتها الحالية المسؤولية الكاملة عن استمرارها. وفي حال حصلت الاستجابة للضغط الشعبي وعُلّق تنفيذ القانون المثير للجدل فإن الأمور لن تُحلّ، وستبقى رهناً بالتوقّف عن تقديم التنازلات للدائنين. وهنا أيضاً ثمّة مشكلة لها علاقة ببرامج الأحزاب التي تبدأ "راديكالية" وما أن تصل إلى السلطة حتى تتغيّر وتبدأ بالتصالح مع الاستابلشمنت المحلّي والأوروبي. من هنا فإنّ "الحلّ" لن يكون سهلاً، وسيتطلّب من اليونانيين دفع أثمان باهظة تُضاف إلى ما دفعوه سابقاً، ويستحقون بسببه تحديداً خيارات أفضل من "سيريزا" وشركاه.
* كاتب سوري