يبدو أن الزمن العربي تجاوز بكل حيثياته معنى التخلي عن فلسطين وقضيتها، أو حتى الحديث عن خيانات لزعماء عرب أدت إلى احتلال/ بيع البلاد؛ ما يحدث أكبر من ذلك كله، إنه تحالف عربي ــ إسرائيلي علني وصريح. وواهم من يظن أن إيران هي العدو الأول لهذا التحالف «الإسرائيلي ــ السنيّ»، كما يصر بنيامين نتنياهو على تسميته، بل فلسطين هي العدو الأول له، تحديداً منذ اللحظة الأولى التي رضيت بها دول عربية مقتدرة وكبيرة على وضع اليد بيد المشروع الصهيوني، ما يعني في المقابل محاربة الحق الفلسطيني في كل شيء، في القدس وعودة اللاجئين وتحرير الأرض والأسرى.من كان يتخيل أن تحدث مناورات «رعد الشمال» من دون أن يخفق قلب الإسرائيلي خوفاً، أو حتى قلقاً، في حين أن اليمن تدور فيها حرب زاد عمرها عن السّنة، واستخدم فيها من السلاح ما لم تستخدم إسرائيل في غزة. مشهد اجتماع نحو عشرة زعماء دول عربية وإسلامية في ختام «مسرحية المناورة» من دون أن يهمسوا بهمسة عن فلسطين، لم يحرّك لدى الشعوب العربية أي ساكن، إلى حدّ باتت فيه مقولة أن المشكلة في الأنظمة لا في الشعوب، تهتز من تحتها الأرض.
سقطت مصر، وهيبتها وتاريخ نضالاتها، وانتهى الزمن العثماني، الذي ضاعت فيه فلسطين، بدولة «إسلامية» تعادي النظام المصري القائم، ولكن لا مشكلة لديها في وضع اليد معه لمحاربة إيران، في حين أن إسرائيل، فوق السلام الأردني والمصري معها، والتنسيق التركي، والتطبيع الخليجي... صارت السند والمدد! لو بقيت الخشية العربية من الجيش الإسرائيلي «الذي لا يقهر»، كان ذلك أهون من أن تمتد الأيادي إلى تل أبيب، مع أن كثيرين، ومنهم حزب الله والمقاومة الفلسطينية، أثبتوا لهؤلاء أن إسرائيل وجيشها «أوهن من بيت العنكبوت».
المشكلة ليست في القوة والإمكانات؛ إنما في الإرادة. لذلك كان الاستسلام والرضوخ، سيد الموقف، في الأمس واليوم... والغد. ومع أنه من التحامل على إسرائيل تحميلها المسؤولية عمّا يفعله العرب (الحكام)، وتصمت عنه الشعوب، التي باتت «داعش» و«النصرة» حاضرة في أفكارهما، فلا مشكلة في التحالف، مؤقتاً أو دائماً، مع إسرائيل، مقابل الانتهاء من «الخطر الإيراني» في سوريا واليمن، ثم قد نعود لنعادي إسرائيل!
هي معادلات يرفضها التاريخ والمنطق، ولكن التبجح السعودي الذي قفز من دور المطيع للولايات المتحدة، إلى دور المتمرّد عليها، والقرار بالتحالف مع العدو الإسرائيلي وتنفيذ خطوات مشتركة معه، مغردين خارج السرب ومع تحفظات أميركية، كل هذا يعني أن الزمن تغيّر، من زمن الخيانة تحت الستار، إلى عهد الخيانة الفاضحة، المجمّلة إعلامياً والمدافع عنها لدى قطاعات شعبية واسعة! قد يُفهم من سياق التاريخ الإسلامي أن تنتج جماعات متطرفة ومتشددة تقتل على أصغر تهمة، ولكن أن يصار إلى التحالف، أو الصمت، عن كيان يحتل فلسطين ويمعن يومياً في انتهاك حرمات المقدسات والناس، تعجز كل السياقات الموضوعية عن أن تشرحه.
إن كل ذلك يتطلب موقفاً، صرخة، تسجل في سماء الفضاء السايبيري أو الإنترنت، أو الكتب، لعلها تصل إلى الأجيال اللاحقة، التي ينتظرها مستقبل أسود في حال استمر هذا الواقع. إن الموقف يقول:
1- قضية فلسطين ليست على الإطلاق على جدول أعمال الزعماء العرب واهتماماتهم، بل إنهم لا ينظرون إليها كقضية تستحق منهم أن يفعلوا لها شيئاً؛ إنهم رضوا عن قناعة تامة بأن تبقى فلسطين بيد الصهاينة، ومكاناً لحلمهم الزائف، وذهبوا في المقابل لمحاربة من يحارب إسرائيل.
2 - التجارب السابقة والحالية تثبت أن زعماء العرب يتعاملون مع إسرائيل كدولة صديقة وجارة.
العدو المركزي في نظر
كل هذه التحالفات والقمم هو
«العدو الإيراني»

3 - العدو المركزي في نظر كل هذه التحالفات والقمم هو «العدو الإيراني الفارسي الشيعي»، وهو العدو الوحيد الذي يستحق أن يجيّشوا الجيوش لأجله، ويشتروا السلاح بمئات المليارات استعداداً لمواجهته، مع أن التاريخ يشهد كيف كانت علاقتهم بإيران حينما كانت صديقة لواشنطن.
4 - السبب الحقيقي وراء جعل إيران العدو المركزي للعرب هو محاربتها إسرائيل، ودعمها حركات التحرر والمقاومة في فلسطين ولبنان، وأثيرت حروب في دول عدة وأغرقت فيها أطراف كانت تحارب إسرائيل من أجل تشويه صورتها ووضعها في موضع المجرمين، وكل ذلك بتمويل وبتحريض عربي واضح وواسع.
5 - تلك الدول كانت تقيم أفضل علاقات مع إيران قبل ان تعادي إسرائيل، وقبل أن تحول سفارة الأخيرة إلى سفارة لفلسطين التي لم تكن لها سلطة ولا دولة آنذاك. ولم تكن القضية الشيعية - السنية (المذهبية) ترد في اعتبارات العرب قبل ذلك، وإنما ضخموها في وقت لاحق.
6 - إن العمل العربي على تأمين وحماية إسرائيل، ومواجهة أي دولة أو شعب أو حزب يسعى إلى القضاء على الصهيونية، هو إعلان عداء وحرب على فلسطين. كل الحروب العربية، التي بدأت منذ الثورة الإسلامية في إيران، من حرب صدام حسين على الجمهورية الإسلامية، وصولاً إلى الحرب على سوريا واليمن، لم تكن إلا إسناداً لإسرائيل والولايات المتحدة، ومعاداةً لفلسطين وتنكراً لشعبها.
7 - لم يثق الفلسطينيون منذ البداية بالأنظمة العربية ولكن بعض قياداتهم خاضوا غمار التجربة مع أنظمة كثيرة، فانتهى بهم الأمر إلى الحرب أو الموت، أو الانقياد وراء المشروع العربي، إلى حد باتت فيه القيادة الفلسطينية الحالية بغالبيتها تساند العرب في حروبهم على شعوب المنطقة، فيما لا يتلقى أبناء الشتات سوى صنوف التنكر والحرمان لدى تلك الدول.
أخيراً، إنه في الوقت الذي يهرول فيه النظام العربي إلى الصهاينة، فيما تصرّ إيران على عدائها لإسرائيل ودعمها لفلسطين، برغم كل التشويش الجاري، لا يمكن لنا بالعقل وبالدين وبالجغرافيا وبالتاريخ وبحكم المقاومة، أن نصمت على هذا التحالف العربي الخائن، وأن نرخي يدنا من يد إيران، أو أي طرف يؤمن بعدالة قضيتنا ويدعم حقنا بالمقاومة.
إننا لسنا في ظرف يخوّلنا إعلان العداء للأنظمة العربية، ولكننا في كل لحظة أحق بأن نقول للخائن منهم إنه خائن، لنا ولقضيتنا ولأرضنا ولديننا. ورأينا ما وصلت إليه منظمة التحرير الفلسطينية عندما اعتمدت على الانظمة العربية بل صارت جزءاً منها، وكيف جروها إلى التوقيع على اتفاقية من اخطر الاتفاقيات في تاريخ الشعوب (أوسلو) تنازلت فيها عن أكثر من 80%... حتى الجزء المتبقي بقي مصيره مجهولاً ولا نزال نذبح فيه.
في المقابل، أثبتت التجربة في لبنان مثلاً، كيف قاد تحالف قوى المقاومة إلى تحرير الأرض، وجعل المقاومة خطّاً رادعاً يراد تدميره اليوم. واجبنا أن نذكر، كما نشدد على أننا لا نخاف من التهديدات التي يطلقها بعض الموتورين، وفي نفس الوقت أن لا ننجر وراء بعض الإغراءات، التي لا تنتج أبداً أي واقع مستقر.

* رئيس جمعية «الباقيات الصالحات» في غزة