انقضت في 13 نيسان الماضي واحد وأربعون سنة منذ اندلاع الحرب الأهلية (1975-1990). هنا عرض لبعض الأدبيات النظرية التي تسهّل قراءة بدايتها أو «حرب السنتين».
1. نخبة الستاتيكو

عام 1958، تدخّلت أميركا بإنزال عسكري دام ستة شهور، لحماية نخبة الاقطاب أو الزعماء، والإبقاء على نظام التقاسم على الأساس الطائفي الذي تعتمده (غندزير، 1997). وقد تسبّبت نخبة الأقطاب السياسيين هذه، «غير المسؤولة اجتماعياً» بإفراغ ريف لبنان من أهله خلال الستينيات. وأفقدت الدولة شرعيتها خلال النصف الأول من السبعينيات، بتخليها عن موجب حماية لبنان وسيادته من العدوان الإسرائيلي، وتخليها عن الحد الأدنى من مسؤوليتها في التصدي للأزمة الاجتماعية المتفاقمة بسبب الغلاء. وقد تحوّل الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان مادة سجال ومزايدة بين أطرافها.
كان إطلاق شرارة الحرب الأهلية في نيسان 1975، «استراتيجية تمويهية» (diversionary strategy) اعتمدتها نخبة الستاتيكو هذه للدفاع عن النظام القائم. لجأ القائمون على الدولة لاعتماد طريقة «تفويض العنف» للقوى من خارج الدولة الممثّلة بالأحزاب المسيحية الموالية لها. هدفت الحرب لتحقيق هدفين معاً هما، مواجهة الوجود المسلّح لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، تنفيذاً لمشروع كيسنجر في ضرب هذه الأخيرة، كجزء من التسوية التي أعدّها للصراع العربي ــ الإسرائيلي، وإنهاء التعبئة ضد النظام السياسي القائم (demobilization).

«الحرب التمويهية»

تهدف الحرب التمويهية إلى افتعال صدام يحرف الأنظار عن الميدان الفعلي للنزاع. أظهر الكاتب جاك ليفي في بحثه حول «النظرية التمويهية للحرب» (diversionary theory of war)، و«اختراع بديل يكون كبش محرقة» (scapegoat hypothesis)، أن الدراسات التاريخية غالباً ما ربطت بين مواجهة نخب بعينها لأزمات داخلية حادة، وبين لجوئها إلى افتعال نزاع مع الخارج (ليفي، 1989). جرى على هذا النحو تفسير الكثير من الحروب خلال القرنين التاسع عشر والعشرين (المصدر نفسه: 263).
عدّد الباحثون متاعب داخلية مختلفة يمكن أن تدفع النخبة إلى اللجوء لافتعال نزاع مع الخارج. أول هذه المتاعب حالة مستديمة من الاحتجاجات (mass protest)، وثانيها عدم استقرار النخبة (elite instability)، وثالثها الحرب على البنى القائمة (structural war) بمعنى عمل المعارضة على قلب نظام الحكم (المصدر نفسه: 276). أشار ليفي إلى دور المشاكل الاقتصادية التي ينجم عنها نزاع اجتماعي ومن ثم صراع سياسي، في الدفع إلى اعتماد استراتيجية تمويهية (المصدر نفسه : 278).
قدمت أعمال الباحث فالير غانيون حول حروب يوغوسلافيا السابقة شرحاً لكيفية لجوء النخب الحاكمة أو النخب التي تريد الحفاظ على الستاتيكو إلى اعتماد «استراتيجيات افتعال للنزاع» (strategies of conflict) للتصدي لحالة التراجع في شرعيتها وللتعبئة المشرَعة ضدها. شكّل افتعال النزاع المسمّى «إثنياً» وسيلتها في نزع التعبئة تلك (غانيون، 2004: 16). لجأت لافتعال نزاع «إثني» لتُظهِر للمنتمين إلى «إثنياتها» أنها تدافع عنهم، ولتنزع الشرعية عن القوى السياسية المعارضة من داخل هذه «الإثنيات» التي كانت تحمل برامج إصلاح للنظام السياسي والاقتصادي القائم. وقد تمكّنت من فرض حالة «تجانس سياسي» (homogenization) داخل هذه الإثنيات، من خلال إسكات المعارضة أو إزالتها، وحالة «تجانس إثني» من خلال عمليات «التطهير» (ethnic cleansing) التي لجأت إليها.
تؤكد سيرورة التهيئة للحرب الأهلية «فرضية كبش المحرقة»، بمعنى عمل نخبة الستاتيكو على افتعال نزاع مع الخارج، هنا الفلسطينيون، لحرف الأنظار عن النزاع الداخلي المتمثّل بالتعبئة المجتمعية ضد النظام السياسي القائم. قرأ الباحث جاغو سالمون الحرب الأهلية اللبنانية بوصفها تعكس عملية «تفويض لممارسة العنف» (delegated violence) اعتمدها القائمون على الدولة، وتولّتها أحزاب وتنظيمات موالية لها (سالمون، 2006). وقد نحّى خطاب التصدي للحضور المسلّح الفلسطيني النقاش حول الإصلاح الداخلي، كما أخرج العنف هذا النقاش من دائرة اهتمام اللبنانيين.

2. ديناميكية العنف داخل الحروب الأهلية

انتقد الباحث ستاتيس كاليفاس الدراسات حول الحروب الأهلية التي حصرت همّها بدراسة الأسباب والنتائج، وأهملت دراسة ديناميكية العنف بحد ذاته، أي كيفية حصوله واستهدافاته، داخل هذه الحروب (كاليفاس، 1999: 244).

العنف لبناء المجموعة المسلّحة

ميّز الباحث روجر بروباكر بين الفئات الإثنية (categories) وبين المجموعات (groups) التي تسمّى على اسمها، وانتقد الخلط بين الاثنين. انتقد اعتبار الفئات الإثنية بكاملها أطرافاً (protagonists) في النزاعات المسمّاة «إثنية»، كأن يقال «المسيحيون ضد المسلمين»، كما كان الأمر في حالة لبنان، ومسارعة الإعلام ووسائل النشر والباحثين إلى وصف النزاعات التي يكونون شاهدين عليها بأنها «إثنية» (بروباكر، 2004: 14). رأى أن النزاعات لا تضع في مواجهة بعضها البعض فئات إثنية بكاملها، بل تنظيمات (organizations) هي مجموعات إرهابية ومنظمات شبه-عسكرية وعصابات مسلّحة وأحزاب سياسية وتجمّعات إثنية وكنائس وصحف ووسائل إعلامية أخرى، إلخ (المصدر نفسه: 15).
تهدف الأطراف التي تلجأ إلى العنف إلى تغيير ولاءات الناس

أظهر جون ميوللر أن الحروب الأهلية ليست عملاً تقوم به جماعات كبيرة هي وهمية غالباً تسمى «إثنيات»، وإنما عمل مجموعات مسلّحين أُعدّوا لهذه المهمة بالذات، يشكلون نسبة لا تذكر من المجتمعات التي يدّعون تمثيلها. كما أن العنف المرتكب، لا يضع الناس العاديين في مواجهة بعضهم البعض بسبب اختلافهم «الإثني»، وإنما يشبه إلى حد كبير الصدامات التي تتواجه فيها عصابات (ميوللر، 2002: 26). وعند ميوللر، لا تعكس النزاعات «الإثنية» الاحتقان «الإثني» المتزايد، بل ضعف وعدم فعالية الحكومات (المصدر نفسه: 2). وأظهر مايكل مان أن وجود عناصر اعتادت الانخراط في «أعمال عنف ضمن مجموعات صغيرة» (small group violence)، وبقيت من دون عقاب (unpunished)، يوفر الأداة للقوى التي تستخدم المنظّمات شبه-العسكرية في العمل السياسي (مان، 2004: 28-29).
تعتمد التنظيمات التي تخوض المواجهات استراتيجيات استفزاز (strategies of provocation) تجاه الأخصام، الهدف منها خلق ردات فعل من النوع ذاته، تُستثمر في تكوين وتصليب المجموعة (strategies of group-making) (بروباكر، 2004: 14). يقصف المسلّحون المناطق المواجِهة عشوائياً، فيرد المسلّحون الذين يواجهونهم بالمثل، فيتحوّل من تولّوا القصف حماةً للمناطق التي يتواجدون فيها.
حلّل لايتن وفيرون بدورهما مجموعة من الأدبيات التي تناولت نزاعات مسمّاة «إثنية»، لإظهار القاسم المشترك بينها. هذا المشترك هو العنف الذي يشرعه المقاولون الإثنيون. يلعب هذا الأخير الدور الرئيسي في بناء «الهوية الإثنية» (لايتن وفيرون، 2000). ويكون تشكيل المجموعات نتيجة للعنف أكثر من كونه سابقاً عليه. هذا ما يؤكده بروباكر أيضاً (بروباكر، 2004: 14).


العنف لتحقيق «الاحتكار المحلي للعنف»

تهدف الأطراف التي تلجأ إلى العنف إلى تغيير ولاءات الناس وأفضلياتهم وهوياتهم. لذلك يكون المدنيون هم المستهدفون في هذه الحروب (كاليفاس، 2000: 39). فولاء المدنيين لأحد طرفي النزاع، أو التغيير في ولائهم، يحددان نتيجة الصراع. ينتصر أحد الطرفين حين يحقق السيطرة على المدنيين، أي حين يتولى «الاحتكار المحلي للعنف» (local monopoly of violence) (المصدر نفسه: 7-8). تكون الوسائل الإرهابية هي أداة القوى المنخرطة في العنف، للحصول على إذعان المدنيين.
كان هدف العنف الممارس خلال المرحلة الأولى من الحرب، «التخويف» (intimidation) (كاليفاس، 2000: 4). هدف إلى جعل من يكون شاهداً عليه، يخاف بشدة أن يكون هو الآخر ضحية له. وقد حفلت الأشهر الأولى بجرائم كانت تُرتكب في وضح النهار على مرأى ومسمع من الناس. قيل إن من ارتكبوا تلك الجرائم كانوا قد تلقوا تدريبات خاصة لهذه الغاية. كانت تلك الأفعال تلقي الرعب في قلب من يراها أو يسمع بها. هنا العنف هو «إرهاب» يراد به بناء المسلكيات الفردية لجهة الإذعان (compliance) (المصدر نفسه: 3). وهو سيوفر لممارسيه «الاحتكار المحلي للعنف».
توخى المستفيدون من «الاحتكار المحلي للعنف» الضغط على بعضهم البعض، واستدراج وساطات. وكان الهدف من العنف في مرحلة ثانية، «إقفال المناطق» (territorial closure) وإقامة مناطق «متجانسة» سياسياً و«مطهّرة» إثنياً.

العنف الذي «لا يميّز بين ضحاياه»

ميّز الباحث فالنتينو بين حقبتين في كيفية تناول العنف المرتكب ضد المدنيين خلال العقود الماضية. طغت في الأولى فكرة أن العنف بأسوأ أشكاله من قتل جماعي وتطهير، إلخ هو عبثي ومن دون هدف محدّد، وأنه نتيجة أحقاد متراكمة ويقوم به أناس ساديّون، إلخ. (فالنتينو، 2014: 92). بات الباحثون في الحقبة الثانية يُجمِعون على أن هذا العنف وسيلة لتنفيذ استراتيجيات وخطط يتولاها المقاولون السياسيون، أي أنه «استراتيجي» (strategic) (المصدر نفسه: 98).
ميّز الباحث كاليفاس بين العنف الذي «لا يميّز بين ضحاياه» (indiscriminate violence)، وبين ذلك الذي يستهدفهم بشكل انتقائي (selective). في الحالة الأولى، يستهدف العنف كلّ المنتمين إلى «إثنية» أو طائفة بصرف النظر عن مواقف هؤلاء الشخصية (كاليفاس، 2004: 101). أما في الحالة الثانية، فهو يستهدف ضحاياه على قاعدة مواقفهم واصطفافاتهم. يقع ما حصل في لبنان تحت عنوان العنف الذي «لا يميّز بين ضحاياه». قُتل اللبنانيون بالخطف على الحواجز والقنص والقصف العشوائي والسيارات المفخّخة. بلغ عدد القتلى المدنيين خلال الجولات الست لـ«حرب السنتين»، بين 13 نيسان 1975 وأيلول 1976، 40 ألف ضحية (شاموسي، 1978).
رأى كاليفاس أن أغلب ما يشار إليه على أنه عنف «لا يميّز بين ضحاياه» هو في حقيقة الأمر انتقائي، يراد منه خدمة أهداف محدّدة (كاليفاس، 2004: 102). يصيب هذا العنف ضحاياه «بالصدفة» (random violence). وهو لا يكون عقاباً على أمر ارتكبوه. لكن طابعه غير المتوقّع يؤدي إلى نشر خوف شديد يشل أصحابه، ويدفع الناس إلى الاستسلام سياسياً (abdication) (المصدر نفسه: 104).
قدّم الباحث استعراضاً شاملاً للأدبيات التي تناولت العنف «الذي لا يميّز بين ضحاياه»، أكان ذلك في مناسبات الحروب أو الحروب الأهلية، مستخدماً وقائع من تجربة الألمان في الحرب العالمية الثانية والأميركيين في فييتنام والجيوش كما المنظمات شبه-العسكرية في أميركا اللاتينية، إلخ. وأظهر أن مرتكبي هذا العنف يعتمدونه بإصرار مع معرفتهم بأن مردوده عكسي بالنسبة لهم (counterproductive). أعطى في استخلاصاته النظرية سببين جوهريين لاعتماده، أولهما عدم رغبة مرتكبيه في خوض مواجهات مكلفة، كأن يقصف الضباط الأميركيون في فييتنام القرى من دون تمييز بدل الدخول في مواجهات وجهاً لوجه مع الفيتكونغ تكون مكلفة لهم (المصدر نفسه: 132). أما السبب الجوهري الثاني لاعتماده، فهو عدم توفّر حماية من أي نوع للضحايا، أو عدم قدرة هؤلاء على التعويل على أحد لحمايتهم (المصدر نفسه: 134).
ولقد بات للبنانيين حكومة في آخر حزيران 1975، أي بعد شهرين ونصف الشهر من 13 نيسان، تاريخ اندلاع الأحداث. وهي استمرّت في سدّة المسؤولية طيلة «حرب السنتين». كان المساهمون في العنف أعضاء في الحكومة ذاتها. ولعل هذه الأخيرة جسّدت عملية تطبيع مع جرائم استهداف المدنيين، أو كرّست التطبيع مع عمليات قتل المدنيين كأداة في الصراع السياسي القائم.

العنف كعمل «أوغاد»

رأت أدبيات أخرى أن أفعال المنخرطين في العنف تحصل لأن قياداتهم تكون غير قادرة على لجم الارتكابات، أو غير راغبة بذلك. وفي دراسة همفريز ووينستين الميدانية، أن التنظيمات التي لا بنية تنظيمية جدية لها، والتي لا تستطيع ضبط عناصرها، هي التي تكون مسؤولة عن أكبر الجرائم والارتكابات ضد المدنيين (همفريز ووينستين، 2010: 444).
يمكن من جهة أخرى، أن يكون انعدام التنظيم استراتيجية متعمّدة من قبل القائمين على هذه التنظيمات. يمكن اعتبار أن شكل التعبئة «من تحت إلى فوق» لمتطوعين، يعفي المسؤولين من مسؤولية ضبط المسلحين. كما أن «تقديس» التعبئة العفوية الآتية من الجمهور الشعبي هو أحد مشتركات الأحزاب التي تعوّل على المنظمات شبه-العسكرية كأداة عمل سياسي.
أظهرت الدراسات أن الحروب التي أتت بعد الحرب الأهلية اللبنانية، من يوغوسلافيا السابقة إلى رواندا وليبيريا وأفغانستان وأندونيسيا والشيشان، وغيرها كثير، كانت من الفئة التي تخوضها مجموعات إجرامية (criminal warfare)، وتتناقض مع الحروب التي تخوضها جيوش تقليدية، ويخضع القائمون بها لأنظمة وقواعد (disciplined warfare). خاض هذه الحروب أوغاد (thugs) تهمّهم منفعتهم الشخصية ويتحاشون خوض المواجهات الجدية لأنهم يرون الموت في المعارك فكرة عبثية (ميوللر، 2002: 4). وهي أظهرت دور أجهزة المخابرات في تعبئة وإدارة المجموعات الإجرامية، التي يكون هدفها الرئيسي النهب. أكد ميوللر أن الانتماء «الإثني» هو مهم للتنظيم، لكنه ليس وراء قوة دوافع المنخرطين في العنف، بل النهب (المصدر نفسه: 25). فسرعان ما تحوّل الخاضعون لهذه المجموعات، ممن يتشاركون وإياهم الانتماء «الإثني» إلى ضحايا لهم. وأظهرت دراسة ويليام رينو للجماعات المسلّحة في أفريقيا هي الأخرى أن التنظيمات التي لا تجمع عناصرها سوى دوافع خاصة، أي تحقيق منافع مادية كانت الأكثر إجراماً بحق المدنيّين (رينو، 2009).
وفي قراءة جوناتان راندال للحرب، أن المقاتلين مثّلوا أقل من 10% من ضحاياها (راندال، 1983: 151). كان المدنيّون اللبنانيون ضحية، نتيجة تخلّي الدولة عن حمايتهم، ونتيجة استهداف المسلّحين لهم، بديلاً عن خوض المواجهات المباشرة.


الغبن والخوف والكراهية والسعار كمشاعر فردية

في الصورة التي رسمها روجر بيترسن للعالم ليس ثمة سوى جماعات «إثنية» نادراً ما تتناغم وغالباً ما تتقاتل. جعل الباحث للمشاعر الفردية الدور الأساس في تفسير النزاعات المسمّاة «إثنية» (بيترسن، 2001). وهي ثلاث: الغبن والخوف والكراهية. أضاف إليها الغضب أو السعار (rage)، الذي هو شعور يقود إلى تصرفات غير عقلانية. المقصود بالغبن (resentment) الشعور بعدم الرضى، أو بالامتهان الذي يعيشه الفرد، بسبب الموقع الذي تحتلّه الجماعة التي ينتمي إليها، في الجماعة الوطنية. وهو ينعكس عنفاً، بمجرّد سقوط العوائق التي تمنع الثأر أو الانتقام من الآخر الذي اعتُبِر متسبباً به. أما الخوف (fear)، فهو خوف الجماعات التي تتواجه وتتعايش، الواحدة من الأخرى. وهو يدفعها للتحضّر للمواجهة، ويعطي دوراً رئيسياً للنخب داخلها التي ترفع لواء الدفاع عنها. يلعب خوف الجماعات من بعضها البعض بالنسبة الى بيترسن، دوراً كارثياً حين تسقط السلطة المركزية أو تضعف قوتها، لأن الجماعات لا تعود قادرة على أن تعوّل عليها لحماية نفسها. أما الكراهية (hatred)، فهي المشاعر السلبية التي تمتلكها جماعات معيّنة داخل مجتمعات بعينها، تجاه جماعات أخرى، وتكون لها أسس عزّزتها أو راكمتها ظروف تاريخية معيّنة. يكفي في هذه الحالة أن تنشأ ظروف بعينها تجعل الآخر المكروه هدفاً متاحاً، لكي يصبح عرضة لممارسة العدوانية تجاهه.
أما حالة الغضب أو السعار التي يصفها بيترسن، فهي ذروة لا يعود صاحبها قادراً إلا على التعدّي على غيره بفعل تأثيرها. وهو استخدم نظرية الإحباط – العدوانية (frustration-aggression hypothesis) في تفسيرها (بركويتز، 1989). يعرض الكاتب حالة الإحباط المتراكم (cumulative frustration)، التي تنجم عن تراكم في المدى الطويل لهذه المشاعر. ويمكن أن يلجأ من يحمل هذه المشاعر لممارسة العدوانية تجاه غيره بعد أن يكون قد انتهى دور من تسبّبوا له بالإحباط. أما من يتم الاعتداء عليهم، فليسوا بالضرورة من تسببوا بالإحباط. ما يجعلهم هدفاً هو شعور المعتدي بأنه قادر على الاعتداء عليهم. لم تحتفظ ذاكرة اللبنانيين بشيء بقدر احتفاظها بما يذكّر بسعار المسلحين. كانت حياتهم اليومية على مدى 15 عاماً رهينة هذا السعار.
اتهم بيترسن الفئات «الإثنية» بكاملها بتقاسم المشاعر التي وصفها. في حين أنها مشاعر ينبغي حصرها بأفراد أو مجموعات معبأة أيديولوجياً.
اندفع الكل خلال «حرب السنتين» وبعدها لقراءة كتاب «بسيكولوجية الجماهير في الأنظمة الفاشية» للكاتب الإلماني ويلهلم رايش، الذي يعكس القراءات الطبقية للتجربة النازية، ويقول كلاماً كثيراً عن «البرجوازية الصغيرة» لا طائل تحته، يعمي قلوب قرائه.

دور الأيديولوجيا

أعادت الباحثة ليا بالسلز الاعتبار للدوافع السياسية وللتعبئة الأيديولوجية كسببين للحرب الأهلية، في معرض دراستها للحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939) التي تواجه فيها الجمهوريون، أو «اليسار»، مع الجنرال فرنكو وأنصاره، أو «اليمين». كانت الدوافع السياسية والأيديولوجية السبب الأول للحروب الأهلية في كتابات الجيل الأول من الباحثين في شأنها، ومنهم كلاوزفيتز وكارل شميدت. أهملت كتابات الجيل الثاني من الباحثين، التي سبقت الإشارة إلى البعض منها، هذه الدوافع كسبب. انطلقت من تمييز ماو تسي تونغ بين السياسة والحرب وقوله إن الأخيرة ولو كانت متابعة لأهداف سياسية بوسائل أخرى، فإن لها خصائص محدّدة يجب بحثها على حدة (بالسلز، 2010: 292). مثّلت دراسات كاليفاس نموذجاً لهذه الكتابات.
صنّفت الباحثة بالسلز الحرب الأهلية الإسبانية في فئة الحروب الأهلية التقليدية (conventional civil wars) التي لها خصائص مختلفة عن حروب الغوار (guerilla wars) (المصدر نفسه: 292). في الحروب الأهلية التقليدية تكون هناك جبهات ومواقع ثابتة ترسم حدود مناطق سيطرة المسلّحين. ينطوي التمييز بين الفئتين على علاقة مختلفة في كل من الحالتين بين المسلّحين والمدنيين. في حركات الغوار، يكون العنف ضد المدنيين وليد التنافس على احتلال أراضٍ جديدة. أما في الحروب الأهلية التقليدية، فيتعرّض المدنيّون لعنف مباشر أكبر بما لا يقاس على يد المسلّحين. يرتفع هذا العنف بمقدار ما تمثّل المعارضة في المناطق الخلفية التي يسيطر عليها المسلّحون تهديداً أكبر لهم (المصدر نفسه: 296).

العنف الطائفي

يمكن أن يوظّف المقاولون السياسيون لتعبئة الجمهور، القاسم المشترك العرقي أو الديني أو اللغوي أو الجهوي أو القبلي أو أية عناصر أخرى توفّر هوية مختلفة وأساساً للتضامن. يضع الباحثون كل أشكال التعبئة هذه تحت عنوان واحد هو «تسييس الإثنية» (politicized ethnicity). تكون أهداف التعبئة، أو «القضية» (stake) المعلنة لتبرير النزاع، الصراع على الحكم أو لتقاسم الموارد الاقتصادية أو الضغط من أجل فرض احترام رموز الجماعة أو لضمان شروط إعادة إنتاج الثقافة الخاصة بها (بروباكر، 2015: 2).
عرض بروباكر موقفين متعارضين حول دور الدين في النزاعات السياسية والعنف السياسي. يرى أصحاب الموقف الأول أن الانتماء الديني ليس أكثر أهمية من القواسم المشتركة الأخرى التي جرت الإشارة إليها، لجهة دوره في بناء الهوية وتوفير أسس للتضامن. أي ليس ثمة نزاعات «دينية» إلا بوصفها شكلاً يتخذه «تسييس الإثنية» (المصدر نفسه: 4).
هناك بالمقابل، القائلون بأن الاختلاف في الجوهر بين الأديان هو مصدر الاختلاف والنزاع أحياناً، وأن ذلك أمر حتمي لا يحتمل الشك. رأى بروباكر من جهته أن الدين يصبح مصدراً بحد ذاته للتعبئة والنزاع، حين يؤسس لمطالبات ترمي إلى إحداث تغيير في الجوهر في الحياة العامة (substantive regulation of public life) (المصدر نفسه: 5). المقصود بذلك، البرامج الأصولية التي تتناول الأمور العائلية كمنع حق الإجهاض والتعليم الديني والفصل بين الجنسين في المدارس، إلخ في الغرب. وتتناول تطبيق الشريعة في البلدان الإسلامية.
كان هدف العنف الممارس خلال المرحلة الأولى من الحرب، «التخويف»

لم تكن «القضية» دينية بالمعنى الذي جرت الإشارة إليه، في مطلع الحرب الأهلية اللبنانية. اعتمد المنخرطون في العنف تعبئة اتخذت الانتماء الطائفي أساساً للانتماء الوطني. ركّز جون أنتليس على حضور الوشائج «الإثنية»، بما هي مشترك يميّز فئات عن غيرها، ويعطي الفرد شعوراً بالانتماء، وأنه لا ينفع في شيء تجاهلها (أنتليس، 1981: 230). انتقد حاملي المواقف والأيديولوجيات التي تنتقص من دورها. أشار إلى تعمّق الخلاف مع نشوء لبنان الكبير، حول طبيعة الهوية الوطنية. أظهر غبن المسلمين السنّة في الإطار الوطني الجديد الذي هو لبنان الكبير. وأظهر أن قسماً من النخبة السياسية المسيحية أو المارونية، استند في الهوية الوطنية التي اقترحها للبنان إلى فكرتي الفينيقية ولبنان كملجأ للمسيحيين، مضافاً إليها فكرة المتوسّطية، وكان معادياً للقومية العربية ومتوجّساً من الإسلام (المصدر نفسه: 235). وعند المؤرّخ كمال الصليبي، أن القوى الموالية للدولة فشلت في تسويق صيغة مقبولة لدى الجميع للهوية الوطنية، بسبب ارتكازها إلى فكرتي الفينيقية ولبنان – الملجأ بالتحديد، ومعاداتها للقومية العربية (الصليبي، 1981: 224؛ 1989: 78). أوضح أنتليس أن معاداة القومية العربية كانت خياراً متعمّداً لدى هذه القوى (أنتليس، 1973: 159). وأظهر أن «المواقف المسبقة تجاه المسلمين» عادت بقوة لدى هذه القوى والتنظيمات خلال النصف الأول من السبعينيات، بسبب الوجود المسلّح الفلسطيني. وهي لم تعد معنيّة بالدفاع عن النظام التعددي القائم بل أصبح هدفها التقسيم، بمعنى «خلق جيب ماروني صافٍ» (أنتليس، 1981: 240) وهي انطلقت في ما ذهبت إليه من جهل فادح للقيمة الهائلة التي مثّلتها تجربة لبنان التاريخي، منذ فخر الدين على وجه الخصوص.
ما سمّاه بروباكر «تسييساً للإثنية»، سمّته الباحثة ماري كالدور «سياسة الهوية» (identity politics). أقامت الباحثة تعارضاً بين «السياسة على قاعدة الأفكار» (politics of ideas) التي تتوجّه إلى «قلوب وعقول» الناس، وتطمح إلى جمعهم حول أفكار ورؤى تتناول مستقبلهم المشترك، وبين «سياسات الهوية» التي تفرزهم تحت «يافطات» مختلفة، ولا تفتأ تنظر إلى الماضي لتستمد منه ما يسمح بشحنهم بـ«الخوف والكراهية». وهي تستمد دعمهم من خلال وضعهم في شروط من عدم الأمان (insecurity) الكامل (كالدور، 1999: 77 و81). أظهرت الباحثة استحالة تحقيق استقرار سياسي من خلال الركون إلى المقاولين الذين يعتمدون «سياسة الهوية»، وذلك لحاجة هؤلاء الدائمة لافتعال النزاع وتجديده للحفاظ على «شرعيتهم» (المصدر نفسه: 110).

3. دور الخارج

أظهر ليفي أن فهم العلاقة بين النزاع الداخلي والنزاع الخارجي يتطلّب إظهار العلاقة السببية بينهما، وأن هذه العلاقة تنطوي أحياناً على تحويل للنزاع الداخلي إلى نزاع مع الخارج (externalization of internal conflict) كما في حالة «فرضية كبش المحرقة»، وأحياناً أخرى على نقل نزاع خارجي إلى الداخل (internalization of external conflict) كما في حالة الحرب التي تؤدي كلفتها إلى إشعال ثورة داخلية (ليفي، 1989: 267).
لكن «إيجاد بديل يكون كبش محرقة» ليس سوى أحد أشكال تحويل نزاع داخلي إلى نزاع مع الخارج، وهو لا يختصرها كلّها. أي أن البلد الذي تنتشر الفوضى فيه، قد يعطي مبرّراً أو حجة أو فرصة لتدخل الخارج لتوجيه التحوّلات السياسية فيه. يتحوّل النزاع الداخلي في هذه الحالة أيضاً إلى نزاع مع الخارج. رأى ليفي أن لبنان جسّد حالة من هذا النوع (المصدر نفسه: 270). يصح ما قاله في تفسير التدخّل الإقليمي الذي حصل بعد اندلاع الحرب اللبنانية. لكنه لا يصح في فهم ديناميكية تحويل النزاع الداخلي إلى صراع مع الخارج من خلال إيجاد «كبش محرقة»، التي كانت في أساس اندلاع الحرب.
أوضحت ماري كالدور دور الخارج في حالة يوغوسلافيا السابقة، ممثلاً بـ«الدياسبورا» في الإسهام بإشراع الحرب الداخلية (كالدور، 1999). ووفّرت «مدرسة مونتريال» في العلاقات الدولية، من خلال نظرية «اللعبة المزدوجة الأهداف» (two level game)، الإطار النظري لفهم كيفية التقاء مصالح النخب الداخلية مع القوى الخارجية لافتعال نزاع يحقق مصالحهما معاً (بلومكويست وآخرون، 2011). وأوضحت الباحثتان كوستوفيكوفا وبوجيسيك كيف أن مصائر العديد من البلدان هي رهينة ما تعمل على تحقيقه شبكات ما-فوق وطنية (transnational networks) يجتمع في إطارها لاعبون محليّون وإقليميون ودوليون (كوستوفيكوفا وبوجيسيك، 2009). وأوضحت المدرسة «البنيوية الجديدة» في العلاقات الدولية، أن العلاقة بين قوى الخارج ممثلة بالولايات المتحدة كدولة مسيطرة (hegemon) وبالدول الغربية ككل التي تمارس سيطرة جماعية (collective hegemony) وبين نخب الداخل في بلدان العالم الثالث، هي غير متكافئة وتقوم على تواطؤ (collaboration) هذه النخب مع الخارج، ودخولها في علاقة استزلام له (هينبوش، 2011).


دور الولايات المتحدة

تخلو الأدبيات التي عملت على تفسير ديناميكية العنف في الحروب الأهلية والتي سبق عرض البعض منها، من أي إشارة إلى دور القوى الخارجية وخصوصاً الولايات المتحدة في إشراع هذه الحروب.
لكن الباحثة رادا كومار أوضحت في معرض دراستها لحرب البوسنة، كيف أن القرن العشرين شهد نشوب العديد من الحروب الأهلية التي أشرعتها القوى العظمى بدءاً بإنكلترا ثم الولايات المتحدة، وكان الهدف منها تحقيق «تقسيم أيديولوجي» (ideological partition) يحمي الأنظمة السياسية والنخب المستزلمة لها. عكست تجارب كوريا وقبرص وإلمانيا بعد الحرب العالمية الثانية حالات «تقسيم أيديولوجي» فرضتها القوى العظمى الغربية لحماية الأنظمة المرتبطة بـ«العالم الحر» (كومار، 1997). وهدفت «حرب السنتين» إلى فصل المنطقة الممتدة من شرقي بيروت إلى منطقة زغرتا شمالاً عن بقية لبنان. وأوضح الباحث تشمبرلن كيف أن استراتيجية «الثورة المضادة» (counterrevolution) كانت في صلب مشاريع الإدارات الأميركية المتعاقبة كأداة للتصدي لـ«اليسار الدولي» أو «الراديكالية الدولية»، وأن التعويل على القوى التي تستخدم الدين في السياسة جسّد العنصر الأهم في استراتيجية «الثورة المضادة» تلك (تشمبرلن، 2008).
على خلاف الدراسات التي أغفلت دور الخارج في إشراع الحروب الأهلية، تناولت الأدبيات المتخصّصة في الإرهاب السياسي وإرهاب الدولة، دور الـ سي. آي. إي. كطرف خارجي، في تجنيد «فرق الموت» (death squads) اليمينية للتصدي لحركات المعارضة، في مختلف أنحاء العالم، وخصوصاً بلدان أميركا اللاتينية. عكس وجود هذه التنظيمات، بالنسبة للباحث كامبل، اعتماد دول بعينها سياسات إرهاب (states of terror) ورغبة القائمين على هذه الدول في إنكار (deniability) لجوئهم إلى هذه السياسات وإبقائها مغفلة (covert) وجعل جرائم هذه التنظيمات فوق سلطة القضاء (extrajudicial) (كامبل، 2000: 6). أوضح الباحث قدرة هذه التنظيمات على التفلّت من إشراف الدولة عليها ومتابعتها أجندات خاصة بها (المصدر نفسه: 15). وشرح مواقف باحثين آخرين، منهم وولبّين القائل بأن نشوء هذه التنظيمات هو نتيجة ضعف الدول المعنيّة وعجزها، مع أخذ تجارب لبنان خلال السبعينيات والثمانينيات وكولومبيا وسريلانكا أمثلة على ذلك (المصدر نفسه: 24).
تتضح هذه الصورة بشكل أفضل من خلال ربطها بالتأريخ الذي قدمه الباحث مايكل ماكلينتوك لدور الولايات المتحدة في إشراع الحروب الأهلية في العالم بدءاً من 1952. بدأ آنذاك تطوير جهاز متخصّص في استخدام وسائل الحرب غير التقليدية (unconventional war)، أي غير المسموح بها وفقاً للاتفاقيات التي تنظم عمل الجيوش في الحروب النظامية (ماكلينتوك، 1991: 125). لم يتم استخدام الإمكانات التي توفّرت إلا في مطلع عهد الرئيس كينيدي الذي دفع إلى بلورة عقيدة جديدة تحت عنوان «التصدي لحركات التحرّر» (counterinsurgency) بقيت معتمدة حتى التسعينيات. برّر كينيدي ذلك باعتبار أن ما يتهدّد «العالم الحر» ليس فقط التهديد النووي، بل العدوان غير المباشر عليه الذي تجسّده «حركات التحرّر» في العالم الثالث (المصدر نفسه: 123).
انطوت العقيدة الجديدة على هدفين هما التصدّي للحركات المسلّحة حيث هي، والعمل على استباق تكوّن هذه الحركات (المصدر نفسه: 148-149). جرى تخصيص «القوات الخاصة» (S.F) في الجيش الأميركي لهذه الغاية. وعمل عناصر هذه القوات في حرب فييتنام تحت إشراف الـ سي. آي . إي.
اشتملت الوسائل المعتمدة في البلدان المناهضة لأميركا على افتعال إضرابات وانتفاضات، وفرض عقوبات اقتصادية، وتمويل الحركات المناهضة للحكم، وخطف واغتيال المسؤولين، إلخ. (المصدر نفسه: 131). جرى تبرير الوسائل المتفلتة من كل القواعد والأصول، بأن حركات الغوار تلجأ هي الأخرى إليها. وأُطلِق عليها اسم «الإرهاب المضاد» (counterterror) (المصدر نفسه: 133).
استقر الأمر في عقيدة «التصدي لحركات التحرّر» على تكليف قوى محلية على شكل قوى غير نظامية ومنظمات شبه-عسكرية (counterorganisations) مواجهة المعارضات الموجودة في بلدانها، تحت إشراف ضباط من «القوات الخاصة» (المصدر نفسه: 132). كانت نقطة الانطلاق في تكوين هذه المنظّمات، تظهير وتغذية التمايزات الموجودة أصلاً في هذه المجتمعات على قاعدة «الكراهية» (المصدر نفسه: 136). وكان التبرير الأهم لها هو تصنيفها كقوى «حماية ذاتية» (self-defense) في مناطق تواجدها (المصدر نفسه: 137). تشكّلت تلك القوى من عملية الدمج بين مفهومي «الإرهاب المضاد» و«المنظمات المضادة».
تزامنت حقبة التحضير للحرب الأهلية ثم اندلاعها في لبنان، مع تبنّي الولايات المتحدة عقيدة «التصدي لحركات التحرر». ولعل لبنان كان مسرحاً للعمل بهذه العقيدة منذ الستينيات. يؤكد الدكتور الصليبي أن نخبة الأقطاب التي افتعلت الحرب وخاضتها، كان يمكن أن تقدّم تنازلات في شأن هوية لبنان العربية، لكنها لم تكن لتقبل بتقديم أي تنازل لقوى «اليسار الدولي» التي تتواجه معها (الصليبي، 1976: 175). أوضحت دراسة الباحث الأميركي وايت المتأنية والمستندة إلى وثائق السياسة الخارجية الأميركية التي تم الكشف عنها، دور كيسنجر المباشر بالإتفاق مع الإسرائيليين، في تسليح المنظّمات شبه-العسكرية أو الميليشيات في «حرب السنتين» (وايت، 2013).
أوضح الباحث ماكلينتوك كيف أن اعتماد عقيدة «التصدي لحركات التحرّر» من قبل الأميركيين أسهم في تغيير هيكلية ووسائل الجيوش الحليفة في أنحاء العالم الثالث. وأسهم في تغيير مسلكيات العسكريين وأفراد المنظمات شبه-العسكرية الذين كانوا يتلقون تدريبات على أيدي ضباط «القوات الخاصة» (ماكلينتوك، 1991: 143-145). وأظهرت الوقائع التي أدلى بها ضباط معتكفون في الجيش اللبناني دوراً مباشراً للضابط الفاشل جول بستاني كمدير لجهاز المخابرات، في تجنيد عناصر لإطلاق موجة القتل والتخريب خلال الأشهر الأولى من «حرب السنتين» («النهار»، 16/ 11/ 1975).
أما إشراف الـ سي. آي. إي. على القوى السياسية ومجموعات التخريب التي نشطت آنذاك، ومسؤوليتها في العنف المرتكب ضد المدنيين خلال الأشهر الأولى تلك، فهو ما لا يمكن الوقوع عليه في أي وثائق رسمية قد توافق الدولة الأميركية على نشرها.

■ المراجع

Balcells Laia, “Rivalry and Revenge: Violence against Civilians in Conventional Civil Wars”, in International Studies Quarterly 54, no. 2 (June 2010): 291-313.
Berkowitz Leonard, “Frustration-Aggression Hypothesis: Examination and Reformulation”, Psychological Bulletin, Vol 106, n.1, 1989, 59-73.
Bloomquist, T., M. Gilchrist, H. Indelicato, Two-Level Games in a Battleground state: Lebanon and foreign policy, The Institute for Middle East Studies, The George Washington University, 2011, 50 pages.
Brubaker Rogers, “Religious Dimensions of Political Conflict and Violence”, in Sociological Theory, vol. 33, n. 1, 2015, pp. 1-19.
Brubaker Rogers, « Ethnicity Without Groups », in Ethnicity Without Groups, Cambridge: Harvard University Press, 2004, pp. 7-27.
Campbell Bruce, “Death Squads: definition, Problems, and Historical Context”, in Campbell B., Brenner A. (eds.), Death Squads in Global Perspective: Murder with Deniability, London, Macmillan Press, 2000, pp. 1-26.
Chamberlin Paul, “A World Restored: Religion, Counterrevolution, and the Search for Order in the Middle East”, Diplomatic History, 32 (3), 2008, pp. 441-469.
Chamussy René, Chronique d’une guerre, 1975-1977, Latès, 1978.
Entelis John, “Ethnic Conflict and the Reemergence of Radical Christian Nationalism in Lebanon”, in Journal of South Asian and Middle Eastern Studies, Spring, 1979, reprinted in Curtis, Michael (ed.), Religion and Politics in the Middle East. Boulder (CO), Westview Press, 1981.
Entelis John, “Belief-System and Ideology Formation in the Lebanese Kataeb Party”, in International Journal of Middle Eastern Studies, 4, 1973, pp. 148-162.
Gagnon V. P., The Myth of Ethnic War: Serbia and Croatia in the 1990s, Cornell University Press, 2004.
Gendzier Irene, Notes from the Minefield: United States Intervention in Lebanon and the Middle East, 1945-1958, N.Y., Columbia univ. press, 1997.
Hinnebusch Raymond, “The Middle East in the world hierarchy: imperialism and resistance”, in: Journal of International Relations and Development, vol 14, n. 2, 2011, pp. 213 – 246.
Kaldor Mary, New and Old Wars: organized violence in a global era, Stanford CT : Stanford University Press, c1999.
Kalyvas Stathis, "Wanton and Senseless? The Logic of Massacres in Algeria", in Rationality and Society, vol. 11(3), 1999, pp. 243-285.
Kalyvas Stathis, “The Logic of Violence in Civil War: Theory and Preliminary Results”, in Estudio/Working Paper, 2000, 45 pages.
Kalyvas Statis, “ The Paradox of Terrorism in civil war”, in Journal of Ethics, vol. 8, n. 1, 2004, pp. 97-138.
Kostovicova D, V. Bojicic-Dzelilovic, “The Balkans in Globalization’s Throes: Examining the Transnational Quality of the Region’s Problems”, in I P Journal, 1/4/2006, 9 pages.
Kumar Radha, Divide and Fall: Bosnia in the Annals of Partition, U. K., Verso, 1997.
Laitin David, James Fearon, “Violence and the Social Construction of Ethnic Identity”, International Organization, Vol. 54, No. 4, 2000, pp. 845-877.
Levy Jack, “The Diversionary Theory of War: A Critique”, in Manus Midlarsky (ed.), Handbook of War Studies, Boston, Unwin Hyman, 1989, pp. 259-288.
Macartan Humphreys and Jeremy Weinstein, ‘Handling and Manhandling Civilians during Civil War,’ American Political Science Review 100(3) (2010): 429–447.
Mann Michael, “A Sociology of Fascists Movements”, in M. Mann, Fascists, Cambridge: Cambridge Univ. Press, 2004, pp. 1- 30.
McClintock Michael, “American Doctrine and Counterinsurgent State Terror” In George Alexander (ed.), Western State Terrorism, Oxford: Polity Press. 1991.
Mueller John, “The Remnants of war: Thugs as Residual Combatants”, in American Political Science Association, July 29, 2002, 43 pages.
Petersen Roger D, Understanding Ethnic Violence, Fear, Hatred, and Resentment in Twentieth-Century Eastern Europe, Cambridge University Press, 2001.
Randal Jonathan, La guerre de mille ans, éditions Grasset, 1983.
Reno William, “ Explaining Patterns of Violence in Collapsed states”, in Contemporary Security Policy, Vol. 30, Issue 2, 2009.
Salibi Kamal, “The Lebanese Identity”, in Curtis, Michael (ed.), Religion and Politics in the Middle East, Boulder (CO), Westview Press, 1981, pp. 217-225.
Salibi Kamal, Crossroads to civil war: Lebanon, 1958-1976, Caravan Books, 1976, 178 pages.
Salmon Jago, Militia Politics. The Formation and Organization of Irregular Armed Forces in Sudan and Lebanon, PhD thesis, univ. of Berlin, 2006.
Valentino, Benjamin A. “Why We Kill: The Political Science of Political Violence against Civilians”, Annual Review of Political Science, 17, 2014, pp. 89–103.
Wight David M, “Kissinger’s Levantine Dilemma: The Ford Administration and the Syrian Occupation of Lebanon”, in Diplomatic History, Vol. 37, Jan., 2013.
كمال الصليبي، بيت بمنازل كثيرة: الكيان اللبناني بين التصور والواقع، مؤسسة نوفل، 1989، 312 صفحة.
* أستاذ جامعي