محمد طي *
في الحرب التي تنشب بين الأمم، يخرج عادةً أحد الطرفين منتصراً والآخر منهزماً، وقد يحصل شيء وسط فلا يستطيع أي طرف أن يحقق النصر وتبقى الحرب سجالاً.
وإذا ما حسمت الحرب فإن الطرف المهزوم يستسلم، وتفرض عليه شروط المنتصر. أما الحرب السجال فقد تبرز معطيات توحي تصاعد نجاحات فريق وتراجع نجاحات الفريق الآخر، وهنا يأمل الفريق الأول أن يحسم الأمر على المستوى التاريخي، إذا كانت عوامل تصاعد قوته أصيلة. إلا أنه هنا، وفي مجال النجاحات الجزئية قد لا يستطيع طرف أن يفرض شروطه على الآخر. ما حصل في عدوان تموز أمر غريب، فقد خضنا بكل شجاعة واقتدار حرباً قد تكون اتخذت شكل حرب السجال، إذا ما نظرنا إليها جزءاً من صراعنا مع أعدائنا التاريخيين.
إلا أن أحد الطرفين، وهو نحن، بدأت تتصاعد نجاحاته من حرب تشرين 1973 الى قتال المقاومة اللبنانية وعلى رأسها المقاومة الاسلامية العدو الذي اجتاح لبنان عامي 1978 و1982، وتحقيق دحر العدو عام 2000، إلى حرب تموز الأخيرة، التي أكدت نصر عام 2000. والغرابة هنا أن الطرف الصاعد أصبح مطالباً بتنفيذ شروط الطرف الآخر، وهذه المطالبة لم تقتصر على هذا الطرف الآخر ومن يدعمه، بل قد انساق فيها عرب ولبنانيون، وهم يرون أن دولاً عربية أخرى صالحت (أي استسلمت)، فلماذا نصّر نحن على الصمود ونتحمل الخسائر؟
وجواباً نرى أن الدولة العربية التي «صالحت»، وقد فعلت ذلك إما بسبب الهزيمة وإما خوف الهزيمة للجيش أو للنظام.
فالأردن شارك في الانهزام عام 1948 وعام 1967، فتخلّى عن الضفة الغربية وتالياً عن القضية الفلسطينية واستعاد شيئاً من الأرض اسمياً وبقي العدو فيها فعلياً. إذاً، هو رضخ للشروط.
ومصر خاضت أربع حروب، منها ثلاث لم تنتصر فيها: أعوام 1948، 1956، 1967 حين حلّت الكارثة بجيشها.
أما في الرابعة، أي حرب 1973 فكادت تنتصر لولا أن قيادتها السياسية آثرت ان تترك شارون يتوغل غرب قناة السويس ومنعت من سحقه، بالتفاهم مع الأميركيين.
وخوفاً من هزائم أخرى آثر النظام المصري «الصلح» فصالح، ولكن حرّم عليه إرسال جيش الى سيناء، وهذا جزء من شروط العدو. في حالتي مصر والأردن كان الصلح خوف الهزيمة وبعض التجارب غير المشجعة.
في حالات دولة عربية أخرى، دول خليجية ومغاربية، هناك «صلح» واقعي مع العدو حيث يقيم مكاتب تجارية ويُدعى الى مؤتمرات، فهل صالحت هذه الأنظمة، اقتناعاً منها بحق العدو الصهيوني بفلسطين، أو بسبب هزيمتها في حرب شاركت فيها؟
لا هذا ولا ذاك، هي «صالحت» لأنها لا تستطيع ان تضمن استمرارها إلا إذا كفله راعي العدو الصهيوني، أي العدو الأميركي، لذلك هي قدمت هذا التنازل.
في هذه الحالات السابقة كان الصلح/الاستسلام لا يعبّر إذاً عن اقتناع بحق العدو ولا بعدالة «السلام»، بل خوف الهزيمة أو انهيار النظام.
أما في لبنان، فإن هناك فريقاً يطالب بالتخلي عن مقومات الصمود في وجه العدو، من دون أن نصاب بهزيمة، ولا خوف انهيار النظام، إذا كان هناك نظام، فما هو السبب إذاً؟
طبعاً، ليس السبب توقع الهزيمة، لأن إمكاناتنا، لبنانيين وعرباً، تتصاعد، ومقومات تصاعدها أصلية لا ظرفية، بدليل انتصارات المقاومة المتكررة، ناهيك عن يقظة الشعوب في المنطقة العربية والاسلامية التي يتزايد تدخلها في الصراع، وهي ستبدأ عاجلاً أو آجلاً بالإمساك بمصيرها من طريق الديموقراطية التي تنفخ رياحها بشدة والتي تصر عليها.
إذاً لا يبقى من سبب واقعي في المطالبة بالاستسلام إلاّ خوف النصر، لا خوف الهزيمة، فالذين استنفدوا قواهم في قتال الزواريب الداخلية، ولم يمدّوا مؤيديهم بثقافة مقاومة العدو التاريخي، لا يجدون لهم دوراً في الكفاح، بل في تقاسم الجبنة. من هنا وفي محاولة لقطع الطريق على محرز النصر، يضعون أنفسهم في صف أعدائه، وهم أعداء الأمة والمنطقة، أعداء الإنسان والتاريخ والجغرافيا فيها.
لقد كان بعضهم يحمل شعارات كبرى في يوم من الأيام، من تحرير فلسطين الى الوحدة العربية...
أما اليوم فيرون هذه الشعارات سبّة، والعمل من أجلها تهوراً أو حتى خيانة. فإذا التُمس عذر للخائفين من الهزيمة وعذر أقل للخائفين على أنظمتهم، فهل يعذر الخائفون من النصر إن لم يكونوا من أعداء الأمة؟
* استاذ القانون الدستوري في الجامعة اللبنانية