يعيش الداخل التركي جواً من القلق على أبواب الانتخابات البرلمانية في مناخ من الاستقطابات الحادة بعد تنامي النزعة السلطوية للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، والتحولات نحو الراديكالية على مستوى الأحزاب المؤيدة والمعارضة للحزب الحاكم.
يعمل حزب العدالة والتنمية الحاكم على السيطرة على مؤسسات الدولة، مستغلاً ضعف المعارضة بعد تحوله من حزب يعبّر عن توجه إسلامي معتدل إلى حزب متشدد يحمل لواء الدين ويحثّ على الطائفية والتمييز داخل مجتمع متنوع عرقياً ومذهبياً. يشرف على سيره اليوم زعيم واحد، يتحكم بكافة مساراته ولا يريد صوتاً مغايراً لسياسته داخل الحزب، وإلا اعتبر بمثابة هدف يجري تحطيم صورته. هذا بالضبط ما حصل مع الرئيس السابق ومؤسس حزب العدالة والتنمية عبدالله غول. يرى اردوغان الذي تبوأ موقع الرئاسة في الصيف الماضي أن صلاحيات الرئيس لا تتوافق مع طموحاته، بالرغم من ممارسته لصلاحيات رئيس الوزراء وعمله مع مستشاريه على خلق حكومة موازية داخل قصره ومقر إقامته من دون أي مسوغات دستورية أو قانونية، هذا إلى جانب إعلانه العمل على تعديل الدستور التركي لقيام نظام رئاسي يمكن أن تقرره نتائج الانتخابات البرلمانية القادمة في 7 حزيران التي يأمل من خلالها الحصول على أصوات تخوّل الحزب تعديل الدستور دون الذهاب إلى استفتاء. يتصرف كحاكم مطلق، فهو وضع يده على القضاء على نحو شبه كامل من خلال تعديلات متلاحقة على التشريعات التركية... عيّن الحزب 144 عضواً في مجلس القضاء و33 عضواً في مجلس الدولة. وقد رُبط مجلس القضاء الأعلى ومجلس الدولة برئيس الجمهورية. أما حزمة القوانين القضائية الأخيرة، فأسفرت عن تشريع "الاشتباه المعقول"، وبموجبه يُعتقَل أي شخص بقرار من المحكمة وتوضَع اليد على أمواله.
قامت مواجهات وصراعات مريرة بين حزب العدالة والتنمية والمحكمة الدستورية العليا بسبب التعديلات على القوانين التي يجريها أردوغان، ما استدعى الدعوة إلى قيام غول بوساطة بين الاثنين رفضها أردوغان الذي أجرى تطهيراً واسعاً في سلك الشرطة بعد اتهامات الفساد التي طاولته شخصياً هو وعائلته ووزراء في حكومته وموظفين كباراً أواخر عام 2013، ونقل وأقال كافة المسؤولين الأمنيين وأعضاء النيابة العامة الذين أشرفوا على عملية الكشف عن هذه الملفات.

بدأت التحديات الأمنية والاقتصادية تدق أبواب حزب العدالة والتنمية
كذلك أجرى عملية نقل وتغيير المسؤولين من أعضاء النيابة العامة، وعين مدّعين عامّين جدداً، قرروا إعادة الأموال إلى أبناء الوزراء والبيروقراطيين، واستطاع أيضاً استعمال فضيحة الفساد لاستدرار تعاطف المتدينين الأتراك ومؤيديه والمستفيدين من حكمه بعد اتهام حليفه السابق الداعية فتح الله غولن بالتآمر عليه مع الخارج، وأعلنها حرباً على جماعته (جماعة الخدمة) بعد أن اطلق عليهم تسمية "الكيان الموازي". هدّد صحافيين وأكاديميين وقضاة ورجال أعمال بالطرد أو بإقفال أعمالهم أو بإزاحتهم من مناصبهم، مستعملاً السلطة التي استولى عليها من رأس الدولة إلى رئاسة الوزراء ورئاسة الحزب. أصبح داوود أوغلو الذي يتولى اسمياً رئاسة الحزب ورئاسة الوزراء موظفاً ياتمر بأوامره. لقد استطاع السيطرة على مسار الاحتجاجات، فضلاً عن توجيه المحاكمات والملاحقات القانونية لكل من وقف وراء كشف العديد من ملفات الفساد المتغلغل في النظام التركي، حتى أنه سعى إلى معاقبة ومحاكمة الشرطة المسؤولة عن كشف شاحنة الأسلحة المتوجهة إلى الحدود السورية، والتي صرحت الحكومة بأنها تنقل مساعدات طبية. هذا الترهيب يرمي إلى عدم تحوله من حاكم إلى متهم. ضمن هذا الإطار، قام بكمّ أفواه الصحافيين عبر سجن البعض منهم بسبب حرية الرأي ومعارضتهم لسياساته، ومنهم بسبب انتمائهم إلى جماعة الخدمة. كذلك فرض غرامات وضرائب ضخمة على عدد من وسائل الإعلام، وأوعز إلى عدد من رجال الأعمال المقربين منه بشراء عدد كبير من الصحف التركية، حتى أصبح حزب العدالة والتنمية يملك عدداً كبيراً من هذه الصحف، وأفضت هذه السياسة إلى سيطرة الحزب على قطاعات عريضة من وسائل الإعلام المختلفة، إلا أنها أدت إلى انتشار وسائل الإعلام الاجتماعية كتويتر والفايسبوك لنشر مخالفات الحكومة والحزب والاعتراض عليها، ما حمل أردوغان على منعها بداية ثم مراقبتها، بحيث إنه رأى أن وسائل الاتصال هذه تشكل خطراً على المجتمع.
استأثر رجب طيب أردوغان ومجموعة من مستشاريه بعمليات اختيار مرشحي الحزب في الانتخابات البرلمانية المقبلة، فالحزب يعتزم تغيير نحو ثلثي أعضائه الحاليين في البرلمان، وسيضطر نحو 72 من نواب حزب العدالة والتنمية ترك مقاعدهم، لأن القانون الداخلي للحزب لا يقبل الترشح لأكثر من ثلاث دورات متتالية. في هذه الحالة ستُستبعَد الشخصيات المقربة من عبد الله غول وبعض الأسماء المقربة من جماعة غولن والنواب الذين يرى الحزب أنهم تلكؤوا عن مساندته داخل البرلمان بعد الكشف عن فضائح الفساد والرشوة التي طاولته. لكنه أعطى رئيس الوزراء ورئيس الحزب داوود أوغلو فرصة اختيار بعض المرشحين في منطقته الانتخابية، ما يسمح له بتشكيل كوتا خاصة به في الحزب، أما باقي المرشحين فهم من اختيار أردوغان ومستشاريه، وهكذا سيكون المرشحون الجدد "أردوغانيين". ضمن هذه الأجواء، قد يعمد الرئيس السابق عبد الله غول الذي استُبعد عن السياسة إلى الانضمام إلى أحد الأحزاب الذي تم تشكيله في فترة سابقة كما يمكن أن يعمد النواب المستبعدون إلى تشكيل قيادة هذا الحزب لاحقاً. أما على صعيد العلاقة مع الأكراد، فثمة صعوبة في التوصل إلى اتفاق سلام نهائي، في ظل تنامي حدة الاستقطاب الداخلي على أسس طائفية وعرقية وأيديولوجية، كذلك إن إصرار أردوغان وتأكيده إبان أحداث كوباني أن حزب العمال الكردستاني ليس أقل تطرفاً من تنظيم "داعش" صب الزيت على نار محادثات السلام. لم تكن التظاهرات الكردية العارمة التي شهدتها العاصمة إسطنبول ووقوع القتلى والجرحى لمصلحة تصريحاته وقراراته. فاضطر داوود أوغلو إلى الاستعانة بسجين جزيرة امرلي عبدالله أوجلان لوقف الإشكالات الأمنية وسحب المتظاهرين من الشارع. جاءت هذه الأحداث لتظهر هشاشة المفاوضات من جهة وقوة الأكراد من جهة أخرى. يسود انعدام ثقة بين أطراف المفاوضات التي لا تمثل بنظر مؤيدي وعناصر حزب العمال الكردستاني أكثر من "انتهازية سياسية" من قبل الحزب الحاكم الذي يراهن على الصوت الكردي في الانتخابات البرلمانية المقبلة، ويريد توظيف عملية السلام لتحقيق أغراض انتخابية. ويرى الأكراد أن أي عملية سلام يجب أن تراعي مصالح الطرفين، وهذا ما لم يلمسوه، لذلك يخشى أن تكون عملية التسوية مع الأكراد قد ارتبطت بمسار ومستقبل "روجافا" الكردية في سوريا. الأمر الذي يمكنه أن يرتب خسائر قد تواجهها تركيا خلال المرحلة المقبلة.

الاقتصاد والأمن تحديان أساسيان

بدأت التحديات الأمنية والاقتصادية تدق أبواب حزب العدالة والتنمية الذي اعتاد التنويه بإنجازاته الاقتصادية عشية كل انتخابات. لكن ثمة مشكلات عديدة بدأت تظهر، وهي مرتبطة بتراجع معدلات النمو، وتصاعد معدلات التضخم، وتراجع قيمة العملة التركية، بسبب الاضطرابات السياسية. هذا في وقت ارتفعت فيه معدلات البطالة. وتشير التقارير الدولية، إضافة إلى هيئة الإحصاء التركية، إلى وصول معدلات البطالة المسجلة رسمياً في البلاد إلى 10.5%. هؤلاء هم المسجلون في هيئة الإحصاء التركية، بينما هناك الكثير ممن فقدوا وظائفهم أو ليس لديهم عمل وهم غير مسجلين. إن السياسات الاقتصادية التي يطبقها حزب العدالة والتنمية تشجع الاستيراد بدلاً من الإنتاج. وكان نتيجة ذلك تراجع المشاريع الصناعية الصغيرة والمتوسطة في تركيا... ومع أن الحكومة تروّج أن تركيا ستكون بحلول عام 2023، من ضمن أكبر عشرة اقتصادات على مستوى العالم، غير أن هذا الأمر يتطلب أن تكون نسبة نمو الاقتصاد السنوية 15% للوصول إلى الهدف المنشود، ولا سيما أن معدل الادخار منخفض في تركيا التي تحتاج إلى الموارد الخارجية. يبدو من المستحيل أن يتحقق ذلك في ظل مخاطر الانكماش التضخمي العالمي والأزمات السياسية، التي باتت تواجهها أنقرة، هذا اضافة إلى حوادث العمل التي فاقمت صورة بعد انفجار منجم بلدة سوما وسقوط أكثر من 300 عامل وحادثة منجم أرميناك الذي ذهب ضحيته 18 عاملاً. ولقد سبب انقطاع التيار الكهربائي أخيراً في كل المدن التركية خسائر اقتصادية فادحة لم يقدم المسؤلون أي أسباب له. إضافةً إلى هذا الوضع، ثمة قلق وتوتر أمني في الشارع التركي، مع تسجيل ظهور مجموعات من المؤيدين للتنظيمات المتطرفة، والاشتباكات بين طلاب الجامعات واضطرار الشرطة التركية إلى توقيف طلاب مؤيدين لتنظيم "داعش" في جامعة إسطنبول، بعد اعتداءات قاموا بها ضد طلاب يساريين.
حالات التطرف بدأت تظهر مع تنامي أعداد المواطنين الأتراك المقاتلين في صفوف الجماعات الإرهابية في سوريا والعراق، وعلى رأسها تنظيم "داعش".
في هذه الأجواء الضاغطة ستجري الانتخابات البرلمانية التي ستقرر مصير الدستور، وبينما يرى أردوغان أنه من خلال هذه الممارسات يحقق مصالح حزب العدالة، غير أنه أضرّ بسمعة هذا الحزب ومستقبله. كذلك أضرّ بالديموقراطية التركية، فهذه الممارسة السياسية والقمع الممنهج يمكنه أن يقود إلى معارضة من خارج النظام، ويمكنه أيضاً أن يعمق الصراعات الداخلية في مؤسسات الدولة ويقود إلى تفجر البلاد من داخلها، ما قد يدفع المؤسسة العسكرية إلى التحرك لحماية تماسك الدولة واستقرارها، حتى ولو خيّل إلى أردوغان أنه أبعد الجيش عن السياسة وأقدم على إصلاحات قانونية.
* باحثة لبنانية