غسان الشامي *
غير خاف أن التحالف الألماني ـ الفرنسي الذي شكّل مصطبة انطلاقة الاتحاد الأوروبي، في محاولة لتكوين قوة ثالثة في السياسة العالمية تبتعد إلى مسافة معينة عن السياسات الأميركية، دون أن تقترب بما فيه الكفاية من الاتحاد السوفياتي السابق، بمعنى الخروج عن النمط الإلحاقي خلال الحرب الباردة، بدأ منذ عام 1960 بين الجنرال شارل ديغول وكونراد أديناور، واستمر بين المستشار الألماني هلموت شميدت والرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان ثم فرانسوا ميتران وهلموت كول واستجراراً بين جاك شيراك وغيرهارد شرودر. لقد نسّق زعماء البلدين بشكل لصيق سياساتهما واستراتيجيتهما في الشأن الأوروبي والخارجي، وتجلّت ذروته التي قاربت حدّ التماهي خلال التحضير للحرب الأميركية على العراق بين شرودر وشيراك في عام 2002 ، لكن الرجلين لم يوفّقا في مسعاهما لمنع وقوع الحرب جرّاء عوامل أوروبية عدة منها ذيلية السياسة البريطانية بزعامة طوني بلير وتمترسها خلف الهدف البوشي حتى الترداد الببغائي لخطابات الرئيس الأميركي المكرورة والمملة والمحشوة بالمعلومات الخاطئة، واستلاب الإدارة الأميركية لبعض القادمين الجدد إلى النادي الأوروبي من خلف جدار برلين، وجميعنا لا ينسى استخفاف أحد أضلاع المثلث الحديدي في الإدارة الأميركية، دونالد رامسفليد بأوروبا القديمة الهائمة بين باريس وبرلين.
بعد سنة من اندلاع الحرب على العراق ذهب شيراك إلى الحديقة الخلفية للبيت الأبيض سياسياً ، واكتفى مما بقي له من نفوذ على قسم من لبنان كعبّارة انطلاق إلى سوريا عبر فبركة القرار 1559، فيما بدأ شرودر يعاني من أوضاعه الداخلية وصولاً إلى انتخابات أودت به، ولو بفارق بسيط ، وتوّجت زعيمة الاتحاد الديموقراطي المسيحي «ملكة جديدة» في مبنى المستشارية الألمانية.
صحيح أن ميركل شددت على تنمية وتقوية محور برلين ـ باريس، حتى في حملتها الانتخابية، في محاولة لشدشدة مفاصل الاتحاد الأوروبي الذي يترنّح في بريطانيا، ويعاني الأمرّين في فرنسا وهولندا، وتتخوف دول كثيرة فيه من الأقدام الشرقية والأفواه التي تحتاج إلى مزيد من الطعام، وصحيح أن زيارتها الخارجية الأولى كانت للقاء شيراك في باريس... لكن عينها بقيت على الولايات المتحدة، حيث انقضت على موقف شرودر الوسطي، داعية إلى تحسين العلاقات مع واشنطن ودعم سياستها الخارجية في حربها على «الإرهاب» تحت مسميات ملفوفة بقماش من الديموقراطية في أفغانستان والعراق، وما لا يمكن التغاضي عنه أن ميركل بَنَت حضوراً وانتزعت أصوات الكثيرين من الألمان عبر معارضة حزبها المعلنة، وهي تحديداً، لانضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروبي بشكل كامل، يبرره كلام ملتبس عن تدرّجية في العلاقات وعن اتفاقات بينية جانبية تحت مسوّغات شتى .
يبدو أن ميركل من بداية الطريق كانت مغرمة بالبليرية عبر اقتناع واستكانة بأن القرن الحادي والعشرين... أميركي، ولذلك عيّنت وولفانغ تشويبل مستشاراً لها في السياسة الخارجية ليقيم جسراً عبر الأطلسي مع الإدارة الأميركية وهو المعروف بعلاقاته الوطيدة معها، والذي سارع إلى لقاء بوش ورايس في واشنطن، منتهزاً الفرصة لانتقاد شرودر ورسم وجهة أخرى للسياسة الألمانية بعده، حيث انتقده لتأكيده أن برلين لن تشارك في أي حرب مستقبلية على إيران طالما هو في موقع المستشارية. وهكذا انزاحت السياسة الخارجية الألمانية تجاه الشرق الأوسط منذ انطلاقة عهد ميركل، هذه السياسة التي كانت محكومة بعلاقات تاريخية، ومصالح متشابكة، إلى سياسة تقارب النموذج البريطاني في عهد بلير، ما نجم عنه ضعف المحور الفرنسي ـ الألماني وتراجع الدور الأوروبي في الشرق الأوسط.
وإذا أخذنا حرب إسرائيل الأخيرة على لبنان نجد التماهي العملاني واللفظي بين السياسة الألمانية والسياسة الأميركية منذ اندلاع الحرب وإبّانها وصولاً إلى خواتيمها وتداعياتها، فعندما أرادت ميركل التعليق على الحرب لم تجد إلّا تعبير بوش لتكرره في أن لإسرائيل حق الدفاع عن النفس، مقروناً بخجل ضرورة تجنب قصف المدنيين، فيما قالت بعد اجتماع الدول الثماني الصناعية «نحن نطالب أولاً بإعادة الجنديين الإسرائيليين سالمين ووقف الهجمات على إسرائيل ثم بعد ذلك توقف إسرائيل العمليات العسكرية بطبيعة الحال»، ولعل موقف وزير خارجيتها فرانك فالتر شتاينماير خلال اجتماع وزراء خارجية الإتحاد الأوروبي الذين حاولوا استصدار بيان لوقف النار يشي بتوصيف سياسة ألمانيا الخارجية حين وقف وراء لندن التي أصرّت على بيان يدعو إلى وقف الأعمال العدائية، بمعنى فسح المجال أمام إسرائيل لمتابعة عدوانها حتى تحقيق تغيير على الأرض ينجم عنه قرارات من نوع آخر في مجلس الأمن.
لم يكن إيهود أولمرت مضطراً لأن يقول لصحيفة زود دويتشه تسايتونغ في عزّ الحرب على لبنان في 4 آب الماضي «لا يوجد بلد في العالم صديق لإسرائيل مثل ألمانيا»، حيث خرج عن مألوف التعاطي الإسرائيلي مع برلين، وهو تعاط ابتزازي في مطلق الأحوال، يجبر الألمان على دفع فاتورة الهولوكوست حتى يقضي الله أمراً، مؤيداً مشاركة قوة ألمانية في جنوب لبنان للمساعدة على «ضمان أمن الشعب الإسرائيلي» بعد أن كانت تل أبيب تعارض قطعياً هذا الأمر بحجة الماضي النازي لألمانيا.
وقفت ميركل في الثالث والعشرين من تموز لتعلن رفضها اشتراك جنود ألمان ضمن قوة دولية يحتمل إرسالها إلى لبنان، وهذا الرفض ناجم عن حسابات داخلية نتيجة الحساسية الشعبية داخل ألمانيا تجاه إرسال الجنود إلى مناطق ساخنة، وخاصة أن برلين تشارك حالياً بنحو 8 آلاف جندي في عمليات حفظ السلام في العالم ،بينها أفغانستان والكونغو. وقالت في حديث مع قناة «زد تي اف» إنها ليست مع إرسال قوات ألمانية إلى لبنان ، مضيفة أن ثمة فارقاً كبيراً بين الوضع الحالي في لبنان والوضع بعد أن يتم التوصل إلى هدنة، وفي هذا تناغم مع الموقف الفرنسي الأولي بإرسال 200 جندي ثم الاستهزاء الأميركي بالرقم ورفعه تدريجاً إلى 2000 ، ثم موافقة برلين على إرسال 2400 جندي من القوة البحرية «ذات نفوذ قوي» إلى الساحل اللبناني، مع دخول أمني إلى المعابر والموانئ ومطار رفيق الحريري الدولي.
يبدو أن كلام بعض المعارضين الألمان عن معاناة ميركل من نقص في الخبرة السياسية يجد صداه في تبدّيات ردود أفعالها، فعندما قررت إرسال الجنود الألمان إلى لبنان لم تجد إلّا كلام أولمرت لتكرره بأن جنودها يجيئون لحماية إسرائيل، في خروج واضح على فحوى وبنود القرار الدولي 1701، وإذا كان هذا الترداد لا يعبر عن نقص الخبرة، فإنه على الأقل يدخل ألمانيا وجنودها ومصالحها في المنطقة طرفاً منحازاً في النزاع. فالعلاقات الألمانية العربية تحسّنت كثيراً خلال فترة حكم شرودر (1998ـ 2005) وبات لألمانيا سمعة طيبة في المنطقة، جعلتها تؤدي على سبيل المثال دوراً في عملية التبادل الأخيرة للأسرى بين حزب الله وإسرائيل، وجعلت البعد الاقتصادي لهذه العلاقات يتنامى... فماذا فعلت ميركل؟!.
إنها الآن في موقع الطرف، وتبدو كأنها تحاول مسابقة بلير إلى الحضن البوشي، آخذة معها مصداقية الدولة، وغارقة مع جنودها في حلف لا أفق مفتوحاً أمام أزماته، من أفغانستان المتوترة، باعتراف «إيساف» إلى العراق وفلسطين وأخيراً لبنان.
بعيداً عن التخابث، لا بد أن المستشارة في وضع لا تحسد عليه، فهي تحاول مسابقة بطة بريطانية عرجاء، صار مستقبلها السياسي خلفها، نحو رجل وراء الأطلسي يراكم أزماته وسيدخل في عرج دستوري وانتخابي بعد فترة، فيما جارها الفرنسي يحاول لملمة ريشه المنتوف...في استطلاعات الرأي.
ماذا فعلت ميركل؟!... الأيام القادمة ستكفينا السؤال... والإجابة من داخل ألمانيا... وربما من الشرق، لأنه ما عرف عن الجرمان ذهابهم إلى الحج في غير أوانه.
*كاتب سياسي