بئس مسخ الوطن، لبنان. زرع القادة المؤسّسون والبطريركيّة المارونيّة المتحالفة مع الاستعمار الفرنسي، عقيدة تفوّق عنصر (الماروني) على كل العناصر الأخرى في الوطن. هي احتاجت إلى تلك العقيدة واحتاجت ان تعمّمها بين السكّان من أجل ان تسوّغ وأن تستديم فكر فرض حكم الأقلية القسري على الغالبيّة (كما أن عقيدة حكم الأبارثيد في جنوب أفريقيا وفي دولة الكيان الصهيوني الغاصب احتاجت إلى فكرة التفوّق الجيني و«الحضاري» لأقليّة على السواد الأعظم من السكّان). وعممّ فكر الهيمنة السائد منذ الاستقلال أوهام وخزعبلات وأساطير وأكاذيب عن عباقرة وفلاسفة لبنانيّين مزعومين. وهذا أشعر سكّان الطوائف الأخرى بالنقص والدونيّة (وكان هذا مقصوداً)، وحدث ان تنافس بعضهم - كردّة فعل تلقائيّة - في إيجاد نماذج للعبقريّة بينهم لإثبات عدم الدونيّة.
لم يكن صدفة أن جريدة «النهار» الطائفيّة (بعد عهد جبران تويني الجدّ) درجت على نشر أخبار عن عباقرة لبنانيّين حول العالم (معظمهم حكماً من طائفة واحدة)، وعن توصّل لبنانيّين مشعوذين إلى أدوية لداء السرطان والإيدز (فرادة أو معاً). كل هذا دفع كل الطوائف في لبنان إلى منافسة حادّة لإثبات التفوّق عبر الترويج لعبقري ينتمي إلى الطائفة او المنطقة من أجل تعزيز الثقة الذاتيّة بالنفس.
هناك مبالغات عظيمة
في كل ما كُتب ويُكتب
عن الصبّاح، وهذا ليس
في مصلحته

كنتُ قد ذكرت عرضاً في جملة ما كتبتُ في هذه الجريدة على مرّ السنوات ان هناك هالة من الأسطوريّة غير العلميّة والمبالغة الفظيعة تحيط بسمعة حسن كامل الصبّاح في لبنان، وحتى في العالم العربي. وأذكر حينها ان لجنة تخليد العالم الصبّاح ردّت بإيجاز على تعليقي. وقبل أسابيع كتبتُ عن الموضوع على «فايسبوك» وقلتُ إن أهميّة الصبّاح العلميّة بولغ فيها كثيراً في لبنان. وانهالت عليّ الشتائم والإهانات وكتب أمين سرّ «لجنة الصباح الوطنيّة»، سعيد الصبّاح، عدداً من الشتائم البذيئة ضدّي، وعيّرني على طريقة العنصريّين في لبنان بأنني أعتنق حتى النخاع الشوكي قضيّة شعب فلسطين. طبعاً، إن الموضوع كان يستحقّ أكثر من تعليق عابر على وسائل التواصل الاجتماعي. لكن ردّة الفعل العنيفة على دعوة بسيطة للتنقيب العلمي الأكاديمي، المُنزّه عن الغرض الوطني أو الفولكلوري، عن حقيقة إنجازات الصبّاح العلميّة كانت كافية لأن يستنفر ضدّها عصبيّات طائفيّة ومناطقيّة وسياسيّة باتت عنصراً من عناصر الصراع والمنافسة الطائفيّة في لبنان.
هناك ما نعلمه عن الصبّاح وهناك ما لا نعلمه. لنقل في البداية أنّ أبسط دحض للأسطورة الشعبيّة عن الصبّاح في لبنان هو في خلوّ شبكة الإنترنت من أي إشارة له باستثناء ما يرد من لبنانيّين على مواقع عربيّة. (والبحث عن الصبّاح ليس سهلاً لأن كتابة اسمه بالإنكليزيّة والذي اعتمده في أميركا يختلف عن تهجئة الاسم المألوف أو المُتوافق عليه هذه الأيّام، فهو كتب اسمه الأوّل بحرف الـ «سي» لا الـ«كي»). وهناك ذكر عابر له بقلم لبناني على موقع بالإنكليزيّة. هل أن هذا الصمت عن الصبّاح وعن إنجازاته المُفترضة جزء من مؤامرة دامت نحو قرن من الزمن؟
صحيح أن الصبّاح أتى إلى أميركا في زمن كانت فيه الأكثريّة البيضاء تمارس عنصريّة قاسية فيه ضد كل المهاجرين الملوّنين: إذا كانت أميركا غير متساهلة وغير مُرحّبة بالعرب والمسلمين في القرن الواحد والعشرين فما بالك في قساوتها وفظاظتها في مطلع القرن العشرين؟ من الأكيد ان الصبّاح لم يُعامل بعدل أو مساواة خصوصاً أن الرجل كان مزهواً بأصله العربي وفخوراً بشعبه ولم تبهره أميركا كما بهرت غيره من كتّاب الأعمدة في صحف لبنان، وكان مواظباً دينيّاً أيضاً (وكان المهاجرون من المسلمين قلّة بين السوريّين).
كانت العنصريّة ضد العرب صارخة ومُعلنة: تعود إلى صحيفة «نيويورك تايمز» في ذلك الزمن لتجد إشارات مقيتة إلى الموارنة وإلى السوريّين في نيويورك على أنهم نتنون ومتخلّفون ومنفرّون. ولم يكن تقدّم الصبّاح العلمي على أقرانه من العرب والمهاجرين الملوّنين آنذاك حامياً له من العنصريّة التي شكا منها في رسائله وزادت من معاناته النفسيّة هنا. لكن خضع تاريخ العلوم والتكنولوجيا هنا لبعض المراجعات، وبدأت مسيرة إعطاء الحق لإنجازات السود والمهاجرين الملوّنين والنساء في تلك الحقبة، ولم ينل الصبّاح نصيبه. هذا لا يعني أنّ الصبّاح لم يكن عالماً، أو انه لم يكن لامعاً في مجال أبحاث هندسة الكهرباء، لكن الأمر لم يتعرّض بعد لأي تمحيص علمي من قبل أي كاتب في أي من الكتب التي نُشرت عنه. ربما كان عالماً مغموراً لكن لم يكن على ما يُقال عنه في لبنان. إن أبرز كتاب عن الصبّاح والذي تضمّن اكبر جهد في تجميع المعلومات هو للكاتب سعيد الصبّاح، وهو أديب وشاعر. هذا لا ينقص من قيمته طبعاً (أي قيمة الكتاب)، لكن هذا يعني أنه - مثلي - يكتب عن موضوع خارج اختصاصه العلمي التخصّصي.
ماذا نعلم عن الصبّاح وما هي حقيقة عبقريّته؟
لنقرّ ان لبنان يستسهل إطلاق الأوصاف المعظّمة على زعمائه وعلى كتابه وعلى شعرائه وحتى على مشعوذيه (والصبّاح حتماً ليس منهم): يكفي ان لبنان يعتبر ان سعيد عقل فيلسوف، وان المشعوذين الذين يكتشفون مرّة في الشهر (بحسب جريدة «النهار» عبر السنوات) أدوية شافية لداء السرطان هم عباقرة. حتى جبران خليل جبران نشرت عنه مجلّة «نيويوركر» مقالة مستفيضة أوضحت فيه حقيقة الرجل وحقيقة سمعته الأدبيّة المتواضعة جدّاً (بالإنكليزيّة) والمقالة تناقض كل ما تناقلته وتداورته معظم الكتب عن جبران في لبنان والعالم العربي (يبدو ان كتاب ميخائيل نعيمة عن جبران كان أكثرهم دقّة، وهو كتبه بعد وفاة جبران مباشرة، أي من دون التأثّر بالأساطير التي حيكت عنه). لكن ماذا عن الصبّاح؟
أولاً، إن معظم ما يعلمه اللبنانيّون عن الصبّاح مبني على ما كتبه الصبّاح عن نفسه. وكان الصبّاح، ربما بسبب المعاناة وشيء من العزلة، غزير الإنتاج في كتابة الرسائل إلى العرب ليعرّف عن نفسه وليتحدّث عن إنجازاته. هناك من سيقول إن فؤاد الصرّوف كتب عنه في «المقتطف» وهذا صحيح. لكن الصرّوف لم يسمع عنه - خلافاً لما أشيع - في المجلات العلميّة الغربيّة بل هو قرأ عنه في مجلّة «السمير» لإيليّا أبو ماضي الذي كان أوّل من عرّف العالم العربي عنه، وكان الصبّاح يزوّد أبو ماضي بمعلومات عن إنجازاته، كما كان يزوّد كثيرين في العالم العربي بأخباره (من مصطفى الخالدي إلى شكيب أرسلان إلى ناشري الصحف). وما كتبه الصرّوف عن الصبّاح مبنيٌّ بالكامل على رسائل تعريفيّة مستفيضة كتبها الصبّاح له. وهذا لا يكفي حتماً لكتابة سيرة علميّة منزّهة وفق الشروط المهنيّة (الصحافيّة أو الأكاديميّة). لهذا، فإن كتاب سعيد الصبّاح عنه (وقد صدر في طبعتين في الثمانينيات) مبني على المراجع العربيّة حصراً، مع إشارة إلى براءات الاختراع المُسجلّة باسم الصبّاح. إن الزعم ان الصبّاح كان عبقريّاً يعمل في الغرب، وليس هناك من مراجع غربيّة عنه تثير تساؤلات مشروعة.
ثانياً، بالنسبة إلى براءات الاختراع: لقد أثار الموضوع هذا في مطلع القرن العشرين، ومن قبل من كتب عنه من غير العلماء من أمثال إيليّا أبو ماضي في «السمير»، الكثير من اللغط وسوء الفهم. ليس كل من يسجّل براءة اختراع يصبح مخترعاً أو خليفة لإديسون أو للخوارزمي. هذا لا يقلّل من قيمة أبحاث الصبّاح لكن يضعها في سياقها الموضوعي غير المبالغ فيه. إن تسجيل براءة اختراع هي فقط تعني تسجيل حق الأسبقيّة (الاستعماليّة أو المطلقة) في اختراع ما. وتسجيل براءات الاختراع في النصف الأوّل من القرن العشرين كان أسهل مما أصبح عليه فيما بعد (تحتاج اليوم إلى آلاف الدورلات من أجل التقدّم إلى تسجيل براءة اختراع في مكتب تسجيل البراءات في العاصمة واشنطن، وتحتاج إلى إثبات السبقيّة). وهناك من براءات الاختراع باسم الصبّاح وزملائه في الشركة، أو باسمه هو، مما أُبطل بسبب سبق منافسين له في المجال (قد يكون هذا سبب إثبات سعيد الصبّاح براءة اختراع رقم 36 «نظام تحويل الصمّام الكهربائي» (ص. 263 من الطبعة الأولى)، لكن هذا الاختراع مُسجّل لشخص آخر باسم ألبرت ميتاغ عام 1941، أي بعد وفاة المخترع اللبناني، ما يعني ان براءة اختراع الصبّاح كانت «أوليّة» أو «غير مكتملة»).
يقول عالم صديق عن هذا الموضوع ما يلي: «مَن سمع منكم ومنكنّ بـِ كيا سيلفربروك؟». لا أحد على الأرجح. لقد سجّل هذا الرجل 9886 براءة اختراع بالتمام والكمال. إن عدد الاختراعات التي يسجّلها شخص ما لا تعني العبقريّة أو العظمة، وإلا، فإن سيلفربروك كان أعظم من اديسون واينشتاين والخوارزمي. يجب التعامل مع تقييم الصبّاح بدقّة وحرص علمي نافع (ونافع لذكرى الصبّاح). ثم لنفترض ان الشركة الأميركيّة ظلمته وان لولاها لكان نافس اينشتاين وإديسون. لكن الصبّاح تراسل مع شركة روسيّة وتراسل مع علماء في أنحاء مختلفة في أوروبا وعرّف عن أبحاثه، فلماذا لم ينقضّ أحد لانتشاله من شركة «جنرال الكتريك»؟ وهو سعى كي يغادر الشركة لكنه لم يجد من يرحّب به بين الشركات المنافسة، محليّاً أو عالميّاً، ما حثّ معارفه على الطلب منه للعودة إلى دياره.
ثالثاً، هناك التباس في التحصيل العلمي للصبّاح. يقول يوسف مروّة في أوّل سيرة للصبّاح («عبقري من بلادي»، سنة 1956) إن الصبّاح نال شهادة الماجستير من جامعة إيلينوي (من الواضح ان لا مروّة ولا سعيد الصبّاح مؤهلان للكتابة في موضوع التعليم الجامعي الأميركي، فالأوّل ظنّ أن هناك جامعة باسم جامعة إيلينوي وأن هناك جامعة أخرى اسمها جامعة أوربانا بينما اسم الجامعة الكامل هو جامعة إلينوي-أوربانا شمبيْن (ص. 46، الطبعة الثانية من كتاب مروّة)، فيما ظنّ سعيد الصبّاح أن اسم أربانا هو اسم الولاية (ص. 79) بينما هي اسم المدينة في ثنائيّة مقرّ الجامعة في أربانا-شمبين). من الثابت ان الصبّاح برع في الرياضيّات في الجامعة الأميركيّة في بيروت وأهّله ذلك للتعليم، لكنه لم يكمل تحصيله: بدأ الدراسة في جامعة «إم. آي. تي» وهي من أولى الجامعات في العلوم والتكنولوجيا لكنّه لم يستمرّ في الدراسة لأكثر من عام ولم يحصل على شهادة (هو عزا ذلك إلى إصابته بالملل من رتابة التعليم. لكن التعليم في تلك الجامعة بالذّات لا يتسم بالرتابة، على العكس فهو كان ولا يزال في مقدّمة التحديث في التعليم. تجب مراجعة سجلاّت الجامعة لمعرفة الحقيقة هنا). وبعد ان ترك «إم. آي. تي» تسجّل الصبّاح في جامعة إيلينوي حيث لم يحصل على شهادة هناك أيضاً، بالرغم من مزاعم عن انه نال من هناك شهادة الماجستير (وقد اتصل زميل لي في قسم العلوم بالجامعة الأميركيّة في بيروت بجامعة إيلينوي وهي نفت ان يكون الصبّاح قد درس فيها، لكنها قالت إنه اعطى دروساً فيها - لعلّ ذلك إشارة إلى عمله لفترة وجيزة في مختبر الجامعة، أي انه موجود في سجلات الجامعة كموظّف وليس كتلميذ).
والصبّاح لم يجلّ أبداً في الجامعتيْن في أميركا. ولم تتخطّ علاماته في جامعة إلينوي درجة الـ«بي»، وحصل على «سي» وواحدة «دي» أيضاً (يقول سعيد الصبّاح في ذلك ان النتائح كانت «مشجّعة تماماً» (ص. 74 من الطبعة الأولى)). يذكر سعيد الصبّاح في كتابه ان الصبّاح لم يحصل على شهادة علميّة من جامعة إلينوي لكنه يقول إن حصل على العلامات المطلوبة «بتفوّق في كافة المواضع» (ص. 77 من الطبعة الأولى) لكن طبعته الأولى من الكتاب تتضمّن علاماته في الجامعة (ص. 373) وليس فيها ملامح التفوّق (لم ينشر الصبّاح علامات حسن كامل الصبّاح في الطبعة الثانية من الكتاب). أكثر من ذلك، إن يوسف مرّوة الذي عرّف لبنان والعالم العربي على الصبّاح وإنجازاته زوّر في الوثائق المتعلّقة بالصبّاح في أميركا كي يخدم غرض تعظيمه: مثلاً، في رسالة الإفادة التي كتبها له أستاذ من جامعة إيلينوي، وبلهجة جد فاترة يُترجم مروّة هذه الجملة من ترجمتي («في عمله معي لقد أظهر نفسه قديراً ومتفهّماً») هكذا: «وفي أثناء عمله معي، ظهر لي أنه تلميذ ذو مقدرة وكفاءة وفهم لا مثيل له» (مروّة، ص. 43). أما عن عمله في مختبر الجامعة فقال عنه الأستاذ (ترجمتي): «عمله هذا كان مرضياً تماماً»، أما في ترجمة مروّة فجاء عن هذه الجملة: «وقد قام بهذا العمل بنجاح تام» (ص. 44). بمعنى آخر، لم يكن الصبّاح مهندساً كهربائيّاً لأنه لم يحز اللقب العلمي بسبب عدم نيله للشهادة، لكنه عمل في الشركة بجدّ ونشاط إلى درجة انه حاز مرتبة مهندس وظيفيّة (ما أهّله لعضويّة مؤسسة المهندسين — العضويّة التي بولغ في اهميّتها في الكتابات عنه).
رابعاً، ليس هناك من أثر علمي للصبّاح وإنجازاته في التراث العلمي للإنجازات التي تتحدّث الكتب اللبنانيّة (والكتب عن الصبّاح هي محض لبنانيّة) عنها، كما انه لم يكتب في المجلات العلميّة (هو قدّم ملخّصاً لمؤتمر علمي في باريس لكنه لم يحضره بسبب شح الموارد وعدم دعم الشركة له). لقد أمعنت بحثاً (وأنا لست بمتخصّص في العلوم وإن كنتُ قد استعنت بآراء علماء في هذا الشأن) في المراجع الأجنبيّة عن الاختراعات ولم أعثر على اسمه إلا في مراجع ثلاثة فقط، وهي أقرب إلى الهوامش. مثلاً، يرد في كتاب «التنمية التكنولوجيّة والعلوم في العصر الصناعي» بتحرير بيتر كروس ومارتن بكر هذه الإشارة العابرة (ترجمتي): «على سبيل المثال، فإن ك. أ. صبّاح تقدّم بطلب ثلاث براءات اختراع لأنابيب اللقط، وواحدة منها استعملت تقنيّة «الفوتوكوندكتيفتي»، لكنها على الأرجح لم تبنَ» (ص. 115 من الكتاب المذكور). وحتى في كتاب عن تاريخ التلفاز فإن الإشارة عن الصبّاح لم تكن مستفيضة في كتاب ألبرت أبرامسن، «زوركن: رائد التلفاز»، حيث ورد: (ترجمتي) «كان هناك ثلاث براءات اختراع مهمة للتلفاز مقدّمة من شركة «جنرال إلكتريك» في عام 1925 وكلّها مقّدمة من كامل الصبّاح، مهندس باحث، وكلّها غطّت ثلاثة تنويعات مهمّة لأنابيب الكاميرا الكهربائيّة... وبالرغم من أهميّة البراءات هذه، فإن الصبّاح خسر ثلاث براءات لزوركن في شركة «وستنغهاوس» (أي أن زوركن سبقه إليها) (ص. 221-223). أما الإشارة الثالثة فقد وردت في كتاب «أسس الأنابيب المفرّغة» لأوستن إيستمانوررد فيها في حاشية بحث للصباح في شركة «جنرال إلكتريك» (ص. 234). إن الإشارات الثلاث لا تتناسب مع الوصف الذي أطلق في لبنان على إنجازات الصبّاح والتي تسبّبت في قصيدة لسعيد عقل عنه (يقول فيه: «بعِلمنا، يوم نحن العِلم تنقُلُه، زوارقٌ كجذوعِ الأرز فُتّاح»).
خامساً، ليس هناك من أي دليل أن الصبّاح مات نتيجة مؤامرة: جريدة «السفير» عنونت في آذار الماضي في قسم «حدث في مثل هذا اليوم»: «اغتيال العالم اللبناني حسن كامل الصبّاح في... 31 آذار 1935». إن حبكة اغتيال الصبّاح أتت من كتاب مروّة (ومن دون دليل)، لكن سعيد الصبّاح (وهو ألّف كتاباً أكثر جديّة وجهداً من باقي ما كُتبَ عن الصبّاح بالرغم مما ورد فيه من أخطاء ومعطيات غير موثّقة) اعترف بأن ليس هناك من دليل على مؤامرة لقتله. ينسى المعاصرون ان الصبّاح مات في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، عندما كانت الحركة الصهيونيّة الأميركيّة فتيّة ولم يصلب عودها بعد. وليس صحيحاً ان الصبّاح تحدّث في رسائله عن «تربّص الحركة الصهيونيّة» به (راجع عبّاس وهبي، «الفيلسوف العبقري: حسن كامل الصبّاح»، ص. 115). لكن أنا من أنصار إعادة التحقيق في موت الصبّاح لأن الصبّاح عانى من أزمة نفسيّة - عصبيّة حادّة وكتب لوالديْه قبل يوميْن من وفاته: «إني أجتاز الآن مرحلة صعبة خطيرة، أسأل الله أن ينجيني منها، فأدعوا لي لأن دعاءكم ورضاكم قد يخلصاني من أعداء الداء يكيدون لي دائماً ويسعون لزحزحتي من طريقهم» (منشورة في كتاب سعيد الصبّاح، ص. 146 من الطبعة الأولى). وقد وصل الصبّاح إلى حافة اليأس في آخر حياته وكتب في رسالة: «أما الآن فقد فات الوقت (على إكمال علومه وحصوله على شهادة عالية). الآن خبت مطامح نفسي وأخذ الحزن والأسى يلتهم آمالي الزاهرة بمستقبل مجيد». لقد كره الصبّاح سكّان بلدته الأميركيّة (ولا شكّ انهم بادلوه الكراهية في عصر المجاهرة بالعنصريّة الأميركيّة)، وقال فيهم: «إن الشعب في البلدة التي أنا فيها منحطّ وسافل لدرجة لا توصف»، وقال أيضاً: «إن أهلها الساقطين لهم أدمغة البراغيت وأخلاق القرود وألسنة حادة». وقد خضع الصبّاح لفحص طبّي شُخّص بعده على أنه مصاب بـ «هيجان عصبي» وفي التقرير الطبّي إشارة إلى معالجته بـ«الكيّ الكهربائي». ويعترف الصبّاح في واحدة من رسائله بإصابته بالاكتئاب منذ سنّ اليفاعة (كتاب سعيد الصبّاح، الطبعة الثانية، ص. 86. مع انه لم يذكر أمر مرضه في رسائله (مروّة، ص. 84). ولقد سألتُ أستاذاً في كليّة طبّ معروفة عن التشخيص الوارد في كتاب الصبّاح فقال إنه كان على الأرجح مصاباً بـ «اكتئاب ذهاني» لأن الكيّ الكهربائي لم يكن مستسهلاً في العلاج النفسي. هذا لا يعني ان الصبّاح الذي أصرّ ان يقود سيّارة صديقه الذي سلّمه سيّارته ليقودها عوضاً عنه، حرف سيّارته عن قصد. لا نعلم ماذا حدث، لكن هناك إمكانيّة لفتح تحقيق ومراجعة التقارير الطبيّة عنه وذلك يفيد لجلاء كل غموض في حياة ووفاة الصبّاح.
سادساً، إن لقب «فتى العلم الكهربائي» ليس إلا ترجمة من الصبّاح نفسه لكلمة لعضويّة برتبة ترفّعت في ما بعد إلى «زمالة أبحاث» في «المؤسّسة الأميركيّة للمهندسين الكهربائيّين». لكن الكتب العربيّة عن الصبّاح، وليس فيها أي كتاب علمي عنه مع انه كان عالماً، أحبّت وصف «فتى العلم الكهربائي» وزعمت «أن الأميركيّين وصفوه بها»، مما أسبغ طابعاً عاطفيّاً وفولكلوريّاً على مكانته العلميّة.
سابعاً، هناك مبالغات عظيمة في كل ما كُتب ويُكتب عن الصبّاح، وهذا ليس في صالحه. من حقنا نحو الصبّاح، ان نميّز بين الحقيقة وبين الخيال، بين الإنجازات الحقيقيّة له وبين الخيال غير العلمي، وهناك أمثلة عديدة. لا، لم يحزن الرئيس روزفلت على الصبّاح (كما ورد في كتاب سعيد الصبّاح، ص. 167، الطبعة الأولى)، ولم يرسل إكليلاً باسمه. ولم يتراسل الصبّاح مع الرئيس هوفر، بل هل أرسل له رسالة أورد فيها ما قال إنه حل لمشكلكة البطالة، وليس صحيحاً ان هوفر أثنى على «نبوغ الصبّاح وذكائه»، وكل ما في الأمر أنه تلقّى رسالة شكر شكليّة (كما تلقّى شارل مالك رسالة شكر شكليّة بعد ان تبرّع لمنظمّة يديرها البرت أينشتاين، فجعل مالك من تلك الرسالة الشكليّة «مراسلات» بينه وبين أينشتاين عن نظريّة النسبيّة، وزها بها مالك). كان الصبّاح موهوباً ومتذوّقاً للآداب العربيّة وكتب فيها لكنه لم يكن مصلحاً بالمعنى الحديث وبالرغم من إيمانه بتعليم المرأة فإنه كتب ان «النساء أقلّ إدراكاً من الرجال» (مروّة، ص. 123).
ثامناً، هناك سبب لمبالغات الصبّاح في رسائله عن إنجازاته. كان الصبّاح يراسل كثيرين في العالم العربي وكان يعيش حتى آخر حياته في ضائقة ماليّة صعبة وكان يحلم بتمويل من ثري عربي لمشاريعه، ولهذا عوّل يوماً على يوسف الزين ويوماً آخر على الملك السعودي (راجع كتاب نجيب زبيب، «حسن كامل الصبّاح»، ص. 83، مع ان سعيد الصبّاح لم يجد أثراً لرسائله إلى عبد العزيز).
تاسعاً، ليست هذه دعوة لتهبيط الآمال أو لتبديد أحلام الأطفال والأولاد في لبنان من الذين نشأوا في ثقافة علّمتهم ان الصبّاح كان من أعظم المخترعين في تاريخ الإنسانيّة (لكن ثقافة لبنان ترفض تعليم الناشئة عن عباقرة من أعظم عباقرة التاريخ البشري بالفعل، من أمثال إبن سينا والرازي والخوارزمي وابن الهيثم والفارابي وجابر ابن حيّان وابن النفيس وغيرهم).
هذه دعوة صادقة لتكريم الصبّاح بما يستحقّ: يجب ان تقوم لجنة الصبّاح الوطنيّة بتقديم طلب رسمي إلى المجلس الوطني للبحوث العلميّة من أجل تشكيل لجنة من علماء الهندسة الكهربائيّة للمجيء إلى أميركا لفتح كل الملفّات المتعلّقة بالصبّاح (وليس فقط وضع جدول ببراءات الاختراع) ودراستها علميّاً من أجل تقييمها لأن الجيل اللبناني الجديد يستحق ان يزهو بمبدعيه لكن من دون زيادة أو نقصان أو مبالغة أو فولكلوريّة فينيقيّة.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:angryarab.blogspot.com)