أنيس نقاش *
تعتبر الهوية أحد أهم العوامل المحددة لحركة الافراد والجماعات وبلورة طموحاتهم وتوجهاتهم. فالهوية هي العامل الاول المحدد للانتماء للجماعة، وهذا المحدد بدوره يؤدي دور العامل الاهم في تحديد المصالح والطموحات، بل وحتى الحقوق والواجبات. وبتحديد المصالح تبدأ حركة الافراد ضمن جماعتهم من خلال هذا الانتماء والهوية اللذين يحددان عمل الجماعات وتطورها أو فشلها وتراجعها إن هي أحسنت خيار الهوية والانتماء وتحديد المصالح وطبيعة الحركة وأساليبها، أو العكس إن هي اختارت الانتماء الخطأ والهوية المتهاوية والاهداف والمصالح المتراجعة أو ما يعرف بالرجعية، مقارنة مع الاهداف الارقى في سلم التطور البشري. فالهوية هي مدخل مهم ومؤسس للجماعات في حركتها الى الفلاح أو الطلاح.
الجماعة عندما تشكلت كقبيلة، تحددت علاقاتها في ما بينها بطبيعة وقوانين تختلف عما سبقها من مجتمعات متوحشة متفردة تقوم على وحدة المجموعة الاضيق المعروفة بالعائلة الصغيرة. كانت مناطق النفوذ المحيط الحيوي لهذه القبائل هي المساحة من الارض التي تسمح لها بأفضل مجال للصيد والرعي والماء. وكان سيد الموقف غزو القبائل الاخرى، اذا ما تعرض هذا الحيز لأي انتقاص أو ضمور. وكانت العلاقات الداخلية في ما بين المجموعة المكونة للقبيلة تقوم على قوانين خاصة، تأخذ اولوية الانتماء إلى القبيلة الاهمية الكبرى على ما عداها.
عندما انتقلت المجتمعات من الحالة القبلية الى الحالة المواطنية، كانت اولى المهمات التثقيفية للدولة الوطنية هي تحديد الهوية الوطنية، واولى مهمات الهوية الوطنية كانت تحديد جغرافيا الوطن، وتعليم الابناء منذ طفولتهم رسم خريطة الوطن وتعريف حدوده. ومن ثم كانت الدول ترسم استراتيجيات المصالح الوطنية، وتشن الحروب، او تعقد المعاهدات بناء على هذه المصالح. وكانت وما زالت القوى الشعبية تعبئ وتهيئ للدفاع وللعمل على حفط هذه المصالح والذود عنها.
وشهد التاريخ وحدات جمعية تتشكل من أكثر من وحدة جمعية لتشكل وحدة جمعية أكبر، إما بسبب الهوية الجديدة الجامعة كالدين، وإما بسبب التوسع الامبراطوري الذي كان يفرض هوية جديدة تدين بالولاء للامبراطورية.
لقد أصبح من الثابت أن هذه الوحدات الجمعية الارقى من سابقاتها، المتوحدة حول العرق، أو التاريخ المشترك المحدود بالحيز الجغرافي، أو بهيمنة الحاكم الجامع عدة وحدات جمعية بقوة السيف والغلبة، ان هذه الوحدات الجمعية التي كانت تقوم على وحدة العقيدة او الطموح الامبراطوري المحمول على برنامج مستقبلي ذي أهداف أرقى كانت لها الغلبة في التطور، وأن النكسات التي تعرضت لها هذه الوحدات الجمعية في فترات تاريخية لاسباب سياسية واقتصادية، أدت الى التفسخ والتراجع والى حروب داخلية بين المجموعات المكونة لهذه الوحدة الجمعية الاكبر والارقى. وفي حالات تراجع الوحدة الجمعية الموحدة للمكون الاكبر والاجمع والقائم على اللحمة العقائدية فان النتيجة جاءت لمصلحة وحدات جمعية متصارعة قائمة على هويات، إن لم تكن عقائد جديدة بل أقل تطورا من سابقاتها، هجينة غير متفاعلة في الاتجاه المستقبلي، قد تشكل لفترة لحمة ما لمجموعة ما إلا أنها تحمل دوماً في بذورها عوامل الفشل والانهزام أمام الوحدات الجمعية المتشكلة على أسس أرقى في الوعي البشري، من عقائد ارقى ومهمات مستقبلية تقود البشرية نحو الافضل والارقى.
هكذا ولهذه الاسباب شهد العالم الحرب العالمية الاولى والثانية، على وقع سقوط الامبراطورية البروسية في اوروبا وعلى وقع سقوط الخلافة الاسلامية، اللتين أملتهما طموحات الاستعمار البريطاني والفرنسي وغيرها، عندما خرجت هذه الوحدات الجمعية الى العالم تحت راية رسالة استعمارية تعتبر التفوق العسكري والاداري النوعي مميزاً يسمح بل يفرض عليها الهيمنة على الشعوب الاخرى وامتلاك الحيز الجغرافي والاقتصادي بما يناسب تفوقها النوعي. ان هذا الانتماء للهوية المتفوقة دفع هذه القوى الى استعمار دول العالم وطرح برامجها الطموحة تلك.
واذا كان سقوط الامبراطورية البروسية في اوروبا استعاض عنه الطرفان المنتصران بطموحات استعمارية امبريالية عالمية، زادت من قدراتهم الاقتصادية ومن التسلط على مقدرات الشعوب وحتى تحديد مستقبلها السياسي بعد ضمور هذا الاستعمار وتراجعه، فإن الذي حصل في الشرق هو انكفاء عن الهوية الجمعية تحت راية الخلافة الاسلامية لمصلحة ظهور هويات قومية هجينة وضعيفة لم تستطع تأمين القدرات اللازمة لمواجهة الوحدات الجمعية التي حددت لنفسها طموحات دولية وعالمية.
ومع انكفاء الاستعمار عن كل القارات، فإن هذه الدول الاستعمارية سرعان ما أدركت أهمية تحديد حيز جديد لهويتها ونشاطها لتستطيع من خلاله مواجهة صعود وحدتين جمعيتين قويتين هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، وهذا ما عرف بالمشروع الاوروبي الذي شاهدناه.
إذاً، على أثر الحربين العالميتين كانت الخيارات في الشرق تسير على عكس الخيارات في الغرب.
الغرب يستفيد من انتصاره لتشكيل وحدة جمعية جديدة اولها امبراطوري استعماري، وعندما انكفأ أمام حركات التحرر الوطني لجأ الى المشروع الاوروبي. أما في الشرق فالانقسام والعودة الى الهوية القومية الضيقة التي تعتبر تراجعاً عن الهوية الامبراطورية العثمانية المتوحدة بالعقيدة، فالنتيجة كانت تراجع المشاريع أمام هويات هجينة لا تستطيع المضي قدماً في مواجهة الهويات الكبرى. وكانت النكسات القطرية، والفشل على كل الصعد.
اليوم نحن نشهد، وأمام الهجمة الاميركية الجديدة على المنطقة، كارثة فكرية سياسية تاريخية وحضارية عنوانها انكفاء الهوية الجمعية القومية أو الوطنية المهزومة اساسا، لمصلحة الهوية المذهبية والدينية بالمعنى السلبي، أي الانتماء الى جماعة هي أقرب الى مفاهيم العشيرة منها الى منطق الهوية الحضارية الحاضنة مشروعاًً تقدمياً يستطيع ان يضاهي وينافس مشاريع الهيمنة الجديدة المسلّحة بخطاب واعد بالتنمية من خلال الالتحاق، وبالنجاح والسيطرة على الحيز الضيق المحدد من قبل قوى الهيمنة من خلال الانصياع والتعاون.
هذا ما نشهده في العراق، كنموذج دموي رجعي اجرامي غبي أحمق بكل المعايير الدينية والحضارية والسياسية والفكرية والفلسفية، حيث تمحورت المجموعات حول هويات انتمائية قومية، تفسخ الوحدة الجمعية للوطن الجامع، العراق، وهويات مذهبية تفسخ المكون الديني الجامع للاكثرية المجتمعية المكونة لما يعرف بشعب العراق.
ان الهويات المتفسخة والمتفرقة حددت في هذا البلد الانتماءات بشكل انقسامي تحدد بدورها المصالح المتفرقة والمقسمة والمتصارعة لتخلق فراغاً لا يملأه سوى الاقتتال وانقسام يستفيد منه العدو، حتى أصبحت مسألة الهوية هي الشغل الشاغل لأكثر الباحثين، إن كانوا من الذين يريدون تفادي الكارثة، أو من أولئك الذين يستفيدون من هذه الهويات المتفسخة التي تساعدهم في تقدم مشاريعهم العدوانية.
ففيما يتقدم العالم في اتجاه التحالفات الكبرى، الاقتصادية عبر الاسواق المشتركة أو نحو الوحدات الأوسع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما يحصل في اوروبا وقريباً في اميركا اللاتينية، نجد المنطقة عندنا تتراجع نحو هويات وبالتالي انتماءات اكثر تفسخا وبالتالي تضارب وهمي بالمصالح، وخروج برامج ومهمات تنهك طاقات المجموعات كافة في أعمال تراجعية وهمية سلبية، هي غير ما يجب أن يحصل وما يجب أن يكون، وعلى غير ما تسير عليه سنّة التطور والارتقاء.
من هنا تأتي أهمية الهوية الحيوية لأبناء بلاد الشام. ان هذه الهوية، كما نراها، هي نتاج دراسة واعية لتكوّن مجتمعاتنا عبر التاريخ ولما نواجهه اليوم من هجوم متعدد الأوجه، ولكن الأهم هو ما نطمح إليه من دور بين الامم وما نريده لأبنائنا ولحضارتنا من ان تكون في المستقبل.
ان هذه المنطقة هي التي أخرجت كل الأنبياء والرسالات الدينية التي هي اليوم محور الصراع والوحدة في الوقت نفسه. هي مصدر الرفعة والبلاء في آن، بحسب وكيفية تناولها. ان رؤيتنا لجوهر هذه الرسالات التي جاءت رحمة للعالمين، على أنها فلاح للانسانية في انسانيتها وتطورها، اضافة الى دراستنا للمراحل التاريخية التي احتوت التعايش السلمي المستمر حتى يومنا هذا، على عكس الحضارات الاخرى التي كانت تمارس الاستئصال الكامل للمجموعات المختلفة، لهو خير دليل على امكانية التعايش الوحدوي ضمن التمايز. والتعاون والمشاركة على عكس التفرقة والتخاصم. ولذلك يكون علينا استحضار هذه المفاهيم وهذه الايام والحقائق المشرقة في ظل هذه المرحلة السوداء في حاضرنا الجاري.
ان قراءتنا للحركة الحضارية تختلف عن قراءة البعض الذي يركز على الموروث التاريخي. فيقرأ التاريخ قراءة مذهبية أو أحادية، بل أخطر من ذلك، أنه يحاول أن يخطط لمستقبله بناء على ضغوط الماضي والتاريخ، فيما منهجنا ينطلق من أمراض أو محاسن الحاضر في ضوء الحركة الواقعية لاستشراف حركة المستقبل وشروط نجاح حركة المستقبل وتطورها نحو التقدم والتطور.
ان العالم كما نراه اليوم هو في أشد الحاجة الى منطق ومنهج يعرف كيف يوائم بين الوحدة والكثرة، بين الاحادية والتعددية، ليجعل من الكثرة والتعدد قوة للوحدة والتقدم. ويجعل من الاختلاف المتصارع، عكسه من أجل الالتقاء والتعاون. ان شروط ذلك لا تتم الا بمعالجة مسألة الهوية كمقدمة لتحديد الانتماء ومن ثم المصلحة وبرامج العمل وتكوين الدوافع في الوعي الجمعي لكي نصل الى الحركة الجمعية في الاتجاه الارقى والافعل والانجع.
ان هوية ابناء بلاد الشام الحيوية هي هوية المتعايشين المتسالمين على رغم التنوع، من خلال وعيهم أن المرسل، بكسر السين هو واحد، وأن المرسل، بفتح السين، هو دال على واحد ولو اختلفت الشرائع والمناهج.
ان هذه الهوية الجمعية للمؤمنين، مع اختلاف شرائعهم ومناهجهم، هي أكثر ارتقاء من الهويات الضيقة حتماً. ان هذه الهوية المدركة لأهمية الوحدة والكثرة في آن، هي رحمة للعالم كله الذي يعيش في يومنا هذا أزمات الهويات المتصارعة، وبالتالي المصالح المتصارعة.
ان الهوية الحيوية لابناء بلاد الشام، إن هم أدركوا حقيقة هذه الهوية، لتحولت الى انتماء جامع، والى انتماء رافع، ليس في الحيز الجغرافي لبلاد الشام وحدها، بل للعالم أجمع.
ان الهوية الحيوية لابناء بلاد الشام، إن هم أدركوها بالمعنى الحركي الحيوي، لكانت لهم دافعاً إلى العديد من المهمات التي تبدأ ببلورة خطاب جامع ولا تتوقف عنده بل تنتقل نحو خطاب رافع يؤدي الى تنمية قواها عبر تجميعها عوض تفريقها، ويؤدي الى التقدم من خلال الجهود المتوحدة المستنيرة في ضوء عقيدة الوحدة ضمن الكثرة التي توصل الى المزيد من المهمات والمشاريع الحيوية الرافعة.
ان هذه الهوية الحيوية هي التي تحملنا وتحمل خطابنا الى العالم ليستنير به، فنحوّل ما خُطط لنا من مؤامرات للتفسخ والانقسام تؤدي بنا إلى الالتحاق والتبعية، فعوض ذلك كله، ستكون هذه الهوية التي تحدد لنا الانتماء وبالتالي المصلحة والمهمات دافعاً للوحدة والرفعة، والأهم رسالة نحملها للاخرين، لا لإسقاط مؤامراتهم بل لننقذهم مما هم فيه من طموح نحو الصراعات تحت عناوين الهيمنة.
ان هويتنا الحيوية إن أحسنّا بلورتها وتطويرها لحوّلناها الى مجال حيوي للتعاون بدل مجال للصراع والتقاتل، مجال للوحدة عوض مجال للفرقة، مجال للرفعة عوض مجال للسقوط.
ان هذه الهوية هي حاجة لبقائنا عوض فنائنا. هي حاجة لتقدمنا عوض تراجعنا. انها هوية ضرورية لحملنا الى الحيز الدولي كدعاة وأصحاب رسالة عوض أن نكون مدعوين الى مشاهدة سقوطنا المروّع في خضم الحركة الدولية الساعية الى هزيمتنا وإلحاقنا بمشاريعها.
ان الدعوة الى الهوية الحيوية لابناء بلاد الشام المؤمنين هي مقدمة لايجاد الهوية الجامعة التي تنقلنا من مرحلة تلقّي الفعل والأسر في ردات الفعل الى مرحلة الفعل والقيادة والريادة.
ان هوية ابناء بلاد الشام الحيوية هي هوية متصارعة مع العنصرية الصهيونية، متصارعة مع مشاريع التقسيم والهيمنة ومشاريع الإلحاق والالغاء.
ان جوهر الهوية الحيوية لابناء بلاد الشام هو وحدة المؤمنين بالله على مختلف مناهجهم وشرائعهم، لإيمانهم بالانسان، مطلق انسان وحقه في العيش في كنف الرحمة الالهية والرفعة والتقدم، في كنف التعاون عوض التصارع العنصري أو الفئوي الذي لا يضع الانسان قيمةً نصب عينيه.
ان المهمات والتحديات الملقاة على عاتقنا تملي علينا البدء بإصلاح أهم ما نحتاج إليه وأهم ما يؤثر فينا سلبا وايجابا، ألا وهو مسألة الهوية. فاحسموها في وجهة الحق يكون الحق معكم. واحسموها في وجهة الوحدة تكون الرفعة هي قدركم.
* منسق شبكة الأمان للدراسات الاستراتيجية