أثارت التغييرات التي طرأت أخيراً على بنية الحكم في المملكة السعودية موجة كبيرة من ردود الفعل التي اتسمت غالبيتها بطابعها السياسي المبني على المصالح ولعبة صراع القوى في المنطقة. وبعيداً عن التحليل السياسي والمواقف المرحبة كالعادة بكل خطوة تصدر عن أرباب السلطة في السعودية، لا بد من التوقف على نقطة مهمة تتعلق بمفهوم ولاية العهد في الفكر الديني التقليدي. والسعودية تحاول جاهدة اسباغ شرعية دينية على أي قرار سياسي تتخذه حتى لو كان ذلك مجرد عملية تبرير لا أكثر. لذلك ترتدي دراسة الخطاب السياسي الرسمي للنخبة الحاكمة أهمية قصوى كونه يقدم نفسه كتطبيق بسيط لمبادئ فقهية ثابتة.
فولاية العهد من المسائل التي تناولتها كتب «الفقه الدستوري» في التراث الاسلامي بشيء من التفصيل نظراً لخطورتها وما يترتب عليها من استقرار للنظام السياسي السائد. فما هو موقف هذا التراث من الطريقة التي اتبعت لتنحية الأمير مقرن بن عبد العزيز عن ولاية العهد؟ وكيف تعمد السعودية إلى تبرير ذلك؟ ترفض «النظرية السنية» توريث الحكم كطريقة شرعية للوصول إلى الحكم.
مقرن بويع كوليّ للعهد وله
لذلك بيعة في أعناق السعوديين
ولا تجوز إقالته
فقد قامت كتب الفقه التي تتناول مؤسسات الدولة زمن الخلافة الاسلامية على فرضية مركزية مفادها أن الإمامة (الخلافة أو صاحب السلطان) «تنعقد من جهتين: إحداهما باختيار أهل العقد والحل، والثانية بعهد الإمام من قبل» (الماوردي، الأحكام السلطانية). ولما كان اختيار الامام من قبل أهل العقد والحل بات من الأمور المستبعدة جداً نظراً للواقع السياسي الذي جعل الحاكم يفرض من يختاره كخليفة على الجميع، تدخلت «النظرية السنية» لشرعنة الواقع عبر جعل تعيين الإمام من قبل من سبقه طريقة مقبولة لانتقال السلطة. وغالباً ما كان الخليفة أو السلطان يختار أحد أبنائه ليخلفه بعد موته لكن ذلك لم يكن يتم وفقاً لقاعدة قانونية تنظم انتقال السلطة من ضمن السلالة الواحدة وفقاً لنظام واضح، كما كانت الحال في الملكيات الأوروبية، حيث تؤول السلطة إلى الابن البكر مثلاً. فمصدر شرعية الخليفة لم يكن من الناحية الفقهية انتماء هذا الأخير إلى الأمويين أو العباسيين بل تسميته من قبل سلفه وحصوله على البيعة الضرورية. وقد عرف هذا الاجراء بالاستخلاف أو العهد كون الخليفة كان يكتب عهداً يعلن فيه من سيخلفه بعد وفاته.
لم تظهر مشكلة في مسألة ولاية العهد إلا عندما عهد الحاكم لأكثر من ولي للعهد بناء على ترتيب معين. يقول لنا الماوردي في كتابه المرجعي «الأحكام السلطانية والولايات الدينية» بأن الخليفة لو عهد «إلى اثنين أو أكثر ورتب الخلافة فيهم فقال الخليفة بعدي فلان، فإن مات فالخليفة بعد موته فلان، فإن مات فالخليفة بعده فلان، جاز وكانت الخلافة متنقلة إلى الثلاثة على ما رتبها». وكان الملك عبدالله أول من أدخل هذا التدبير في السعودية عندما عين في آذار 2014 الأمير مقرن بن عبد العزيز ولياً لولي العهد مستحدثاً هذا المنصب الجديد في الهرمية السعودية والقديم في التراث السني التقليدي. ولما كان ولي العهد سلمان بن عبد العزيز قد أصبح ملكاً بعد موت الملك عبد الله فإن السؤال البديهي الذي يطرح نفسه هو هل يحق للملك الجديد تعديل العهد الذي أصبح بموجبه مقرن ولياً لعهد سلمان تلقائياً؟
تظهر لنا الأمثلة التاريخية حذر الفقهاء الشديد ورفضهم لتعديل الترتيب في ولاية العهد. فقد حاول الخليفة الأموي عبد الملك تنحية شقيقه عبد العزيز عن ولاية العهد لكنه لم يفلح باقناعه كي يتنازل عنها طوعاً، فما كان منه إلا أن أقلع عن مسعاه هذا. كذلك أراد الخليفة الوليد استبدال شقيقه سليمان بابنه رغم أن سليمان قد عُيّن كوليّ لوليّ العهد من قبل عبد الملك (والد الوليد وسليمان) لكنه أيضاً لم يتمكن من تأمين موافقة العلماء على إجراء كهذا. والأمر نفسه ينسحب على الخلافة العباسية، فقد أورد القلقشندي رأي مجموعة من العلماء في حال أراد الذي أفضت اليه الخلافة أن يعهد بها إلى شخص جديد فكتب نقلاً عنهم بأنه «لا يجوز له ذلك إلا أن يستنزل عنها مستحقها من المعهود إليهم طوعاً، حملاً على حكم الترتيب السابق، فقد عهد السفاح (أي الخليفة العباسي الأول) إلى أخيه المنصور وجعل العهد بعده لعيسى بن موسى، فأراد المنصور تقديم ابنه المهدي على عيسى فاستنزله عن العهد لحقّه فيه، وفقهاء العصر حينئذ، على توفير وكثرة، لم يروا له فسحة في صرفه عن ولاية العهد قهراً». فالشرط الجوهري في هذا المثل الأخير هو ضرورة تنازل ولي العهد طوعاً، أي أن يستقيل بكامل حريته. فعندما قام الخليفة الأمين بعزل شقيقه المأمون من ولاية العهد اندلعت بين الأخوين حرب أهلية انتهت بانتصار المأمون وموت الأمين. وهكذا نفهم إصرار الحكم السعودي على إظهار أن تنحية مقرن كانت بناء على طلبه كون عزل ولي العهد الذي سبق أن حصل على البيعة من الأمور المكروهة حتى لو أجاز ذلك بعض العلماء في فترات لاحقة من تاريخ الخلافة. لقد أراد سلمان أن «يستنزل» مقرن فقال له جملته الشهيرة «ما منك قصور لكن ودنا نستفيد من همة الشباب»، فما كان من مقرن إلا أن تقدم بطلب إعفائه من منصبه فكانت هذه سابقة في تاريخ المملكة السعودية. وما يجعل من الأمر أكثر دقة هو أن «النظرية السياسية السنية» سمحت للعاهد أن يترك لولي عهده حرية عزل سائر المعهود اليهم كما فعل هارون الرشيد في العهد الذي كتبه عندما سمح لابنه المأمون عند توليه الخلافة بعزل شقيقه المؤتمن. لكن الملك عبد الله ليس فقط لم يخول سلمان اتخاذ إجراء كهذا بل هو على العكس أشار في الأمر الملكي رقم أ/86 الصادر بتاريخ 28 آذار 2015 إلى أن أمر تعيين مقرن في ولاية العهد «لا يجوز بأي حال من الأحوال تعديله، أو تبديله، بأي صورة كانت من أي شخص كائناً من كان، أو تسبيب، أو تأويل...». فمقرن بويع كولي للعهد بعد وفاة عبدالله وله لذلك بيعة في أعناق السعوديين ولا تجوز إقالته، لذلك لجأ سلمان إلى هذا الإخراج الدرامي بحيث وافق الملك على «طلب الإعفاء» بعد أن نجح في الحصول على استقالة مقرن. فالسعودية كانت بين احتمالين: إما أن يستنزل سلمان مقرن كما فعل أبو جعفر المنصور مع عيسى بن موسى، إما أن يعزله عنوة كما فعل الأمين مع المأمون ما كان سيدخل الأسرة الحاكمة في السعودية في حرب أهلية أو صراع خطير يهدد كيان المملكة.
ويبدو أن مستقبل النظام السياسي السعودي محكوم بانقلابات شبيهة. فتداول السلطة والحرص الدائم على الشرعية يحتم احترام البيعة واستنزال الخصوم بغية تعيين الأبناء الشباب للاستفادة من همتهم. انها حقاً الديمقراطية في أبهى حللها الوهابية.
* باحث وأستاذ جامعي