محمد طي *
بعد استقالة الوزراء الذين استقالوا، يطرح اليوم السؤال الحاسم: هل الحكومة القائمة حكومة شرعية أم لا؟
وتأتي الأجوبة متفاوتة الى حد التناقض، كما أصبح معروفاً.
ولعل الجواب يستند أحياناً الى نصوص المجلس الدستوري، وأحياناً الى نصوص أخرى، فما هو الحل؟
حتى نستطيع الإجابة لا بد من العودة الى عام 1943، عندما اتفق على «الميثاق الوطني». ففي ذلك العام ناب كل من رياض الصلح وبشارة الخوري عن المسلمين والمسيحيين للتوافق على حل مشكلة قيام الدولة.
والمشكلة كانت انقساماً بين اللبنانيين حول الدولة المنوي إنشاؤها: هل هي دولة ذات توجّه غربي خاضعة للحماية الفرنسية، أم دولة ذات اتجاه شرقي (عربي) يمكن ان تكون جزءاً من سوريا أو من أي وحدة عربية تقدم مستقبلاً؟
ولم تحل المشكلة إلا بعدما اتفق الرجلان، نيابة عن المسلمين والمسيحيين، على إقامة دولة لا شرقية ولا غربية، وعلى ألا تكون للاستعمار مقراً ولا ممراً، وعلى أن تتم المشاركة في حكمها بين المسيحيين والمسلمين على أساس:
ــ أن يكون رئيس الجمهورية من الطائفة المسيحية الأكثر حضوراً والأكبر عدداً بين الطوائف المسيحية وهي الطائفة المارونية.
ــ أن يكون رئيس الوزراء من الطائفة الإسلامية الأكثر حضوراً، وهي الطائفة السنية. ثم تلا ذلك توزيع المقاعد النيابية حسب نسبة 6/5 بين المسيحيين والمسلمين. وهذا الاتفاق سمّي «الميثاق الوطني»، الذي ضمن إقامة الدولة اللبنانية المستقلة.
عاش الميثاق حتى الحرب الأهلية الأخيرة، إلا انه كان يهتز في المنعطفات القاسية، فينشب الخلاف بين الطوائف ويهدد مصير البلد واستقلاله، كما حصل عام 1958 ثم ما بين أواخر الستينيات وعقد السبعينيات من القرن الماضي.
وبعدما أصبحت وحدة الدولة في مهب الريح نتيجة التقاتل الأهلي الطائفي، اجتمع من كان تبقى من النواب في الطائف واتفقوا على ميثاق جديد معدل لميثاق 1943 سمّي «وثيقة الطائف».
أبقى الميثاق الجديد توزيع الرئاسات كما كان، إلا انه عدّل في توزيع المقاعد النيابية والوزارية.
فعلى الصعيد النيابي ألغيت قاعدة التوزيع القائمة على نسبة 6/5، واعتمدت المناصفة. أما على الصعيد الوزاري فاعتمدت قاعدة «المثالثة في المناصفة»، بحيث يكون للطوائف الكبرى السنية والشيعية والمارونية عدد واحد من الوزراء (المثالثة) على ان يكون أعضاء الحكومة مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وشكّل هذا الاتفاق «ميثاق العيش المشترك».
وفي هوية لبنان حسمت مسألة العروبة، فبعدما كان لبنان يعد في السابق «ذا وجه عربي»، أصبح وفقاً لوثيقة الطائف «عربي الهوية والانتماء».
إذاً كنا عام 1943 ثم عام 1989 في حاجة، كل مرة، الى ميثاق وطني لإقامة الدولة الموحدة المستقلة، والميثاق هذا ميثاق بين الطوائف، أي هو العقد الاجتماعي الذي أبرم بين الطوائف لتعيش في وطن واحد مستقل، فإذا ما خُرق، عرّضنا البلد ووحدته للضياع.
ومن أجل تأكيد هذا الأمر، وضعت مقدمة للدستور جاء في البند «ي» منها:
«لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك».
فهل وضع الحكومة الحالي ينسجم مع ميثاق العيش المشترك أم يتناقض معه؟
الجواب هو أن خلوّ الحكومة من ممثلي إحدى الطوائف الملحوظة حصتها فيها، لا يتفق مع ميثاق العيش المشترك.
لكن قد يقول قائل: إن محل وزراء الطائفة الشيعية محفوظ، وهم الذين غادروه ولا مانع من عودتهم.
وهذا الجواب مقنع لو أن الأمر هو وجود وزراء يلتحقون بسائر الوزراء، ويكمّلون العدد.
إلا ان روح الميثاق لا تقضي بحصة لهذه الطائفة أو تلك ممن وردت تسميتها في الميثاق، وتكون ملتحقة من دون ان يكون لها رأي أو موقف في الحكومة، بل يكون لها وجودها ورأيها، أي لا تكون «كمّالة» عدد.
فما كان وضع الوزراء الشيعة في المدة الأخيرة؟
كان يراد لهم وضع الملحق، يقرر الأمور وزراء الأكثرية، وتطلب منهم الموافقة، فإذا ناقشوا فمن دون جدوى، لا بل منعوا من النقاش الحقيقي في الأمور المهمة، ولا سيما في ما سمي «المحكمة الخاصة ذات الطابع الدولي»، حيث طرحت عليهم المسودة، وكانوا مطالبين بموقف القبول وإلا فهم عاملون على تعطيل المحكمة. وذلك طبعاً بعدما أعطت قيادتاهما موافقتهما على مبدأ إنشاء المحكمة على أن تناقش التفاصيل. والنقاش يصبح واجباً وطنياً في مثل هذه الحالة، لأن انشاء المحكمة يطرح التفكير في كيفية الحفاظ على سيادة الدولة وحقوقها ومصالحها. وقد ظهر ذلك جلياً في الملاحظات التي أثارها رجال القانون المستقلون وأهل الرأي حول مسودة الاتفاق لتأسيس المحكمة، ما أبرز الحاجة الى الدرس والتمحيص واتخاذ كل الاحتياطات لتلافي ذلك، ولعدم خرق أحكام الدستور والقوانين.
فإذا استُغني عن كل ذلك، أو إذا رأت الأكثرية انها قامت هي بكل ما يلزم، وانه لا لزوم لأن يدرس شركاؤها الأمر ويعطوا رأيهم، فهل يكون الشركاء في هذه الحالة مشاركين فعلياً في القرار؟
الجواب طبعاً بالنفي.
وفي هذه الحالة، لا بد للشركاء إن كانوا يحترمون أنفسهم من أن يستقيلوا، وهذا ما حصل. فإذا كانت الأكثرية حريصة على العيش المشترك، فلتستبدل هؤلاء الوزراء بآخرين من الطائفة نفسها، ولتضمن قبول الطائفة بذلك. وعندها يستعاد مبدأ العيش المشترك، وإلا فإننا نكون أمام حالة استغناء واقعي عن مشاركة مكون أساسي من مكونات الشعب اللبناني. وهذا إخلال بالدستور في مقدمته (البند «ي») وبميثاق العيش المشترك الذي قامت الدولة على أساسه.
واللعب بأحكام الميثاق، مهما يكن الخطاب المطروح للتسويغ، هو مغامرة غير محسوبة بوحدة الدولة واستقلالها.
* باحث قانوني ودستوري