غسان الشامي *
منذ الألف العاشر قبل الميلاد خرج الإنسان من مغاوره إلى السهول ليبني القرى ويبحث عن الغذاء فتعلّم الزراعة ودجّن الحيوانات فيما عُرف لدى المؤرخين بـ«الثورة النيوليتية» التي انتهت بظهور المدن الأولى في منتصف الألف الخامس قبل الميلاد حاملة نظمها، مدنياً ودينياً وسياسياً، ومن المفترض أننا ما زلنا على هذا الكوكب نعيش في هذه «الثورة المدينية» حــــتـــى الآن.
وفــــــــي تـــــــــــبدّيات انصرام عصر الرعي أسطورة «هــــــــــبوط إنانا إلى العـــــــــالم الأسفل» السومرية عبر تــــــــــــسليم الإلهة حبــــــــيبها الراعي دموزي إلى العالم الأسفل، ثم ملحمة جلجامش عبر وريثة إنانا، والمقصود عشــــــــــــتار، ومسؤوليتها عن إرسال تموز إلى العالم نفسه.
أكثر من ستة آلاف عام تفصلنا عن «الثورة المدينية»، لكن مفرداتنا وتمظهرنا السياسي لا يزالان ينهلان من مرحلة الرعي، وربما نتيجة حالتنا الجغرافية بقي لنا الكثير من قطعان الماعز، شكّلت إرثاً وثقافة تتبدّى واضحة في حياتنا السياسية.
رعى في القاموس ـــ رعياً ورعاية ومرعى، الماشية الكلأ: سرحت فيه وأكلته.
راعي الماشية، جمعهُ رعاة ورعيان. ومنها رعى – رعاية الأمير رعيته: ساسها وتدبّر شؤونها، والراعي جمعها رعيان ورعاة: كل من ولّي أمر قوم كالأسقف والبطريرك وغيرهما.
والرّعية هي الماشية الراعية والمرعية، وهي القوم، عامة الناس الذين عليهم راع. ورعية ورعايا الملك: الخاضعون لأوامره ومنه رعية الأسقف.
لم تختلف الصورة عن معنى «رعى» في القاموس وديمومتها التاريخية، فنحن في مطلق الأحوال رعية، ومنها رعايا،... في طوائفنا ومذاهبنا وعشائرنا وعائلاتنا وأحزابنا، نحتاج إلى راعٍ في الفكر والسياسة والدين، والراعي إمّا صالح وإما طالح، ألم يقل السيد المسيح «أنا الراعي الصالح»، لكنها رعاية في الروح، تمظهرت في السلطة الدينية بعصا كانت عند الرعاة القدماء غصن شجرة يابساً يتوكأ عليها، وصارت اليوم من ذهب وجواهر ومطعّمة بالرموز.
لقد مضى الراعي دموزي في سبيله إلى العالم السفلي منذ انقراض الحقبة النيوليتية وأكملنا نحن مسيرة الرعي في جبال لبنان، وبين الرعاة ينتصب «المعّاز» شامخاً مع قطيعه، وفي نمط حياته وطريقة عيشه يبدو نسيج نفسه، تنساب ثقافته المفردة في حركاته وتصرفاته، في حياته التي تنقسم سنوياً إلى قسمين: صيف جبلي طويل مليء بالنشاط، وراء القطيع الذي يسرح في الجبال «شلعات معزي معمشقة عَ جرود»، وشتائي قصير كامن في «مْراح» قرب الساحل، لتجنيب القطيع القرّ والثلج، ولذلك تنتشر كلمة «مشتى» وتعرف قرى بأنها كانت موئلاَ للماعز في شتائه.
إن مـــــــــتابعة بسيطة لعادات المعّاز وتصرفاته ومقارنتها بحالات سياسية وأقطاب في الطوائف والمذاهب والعــــــــــمل العام، تبدي لنا مقاربة خطيرة، وهي في هذا المعنى ضـــــــــــرورية لاستكناه الأعطاب التي تطالعنا في ســــــــــيرورة البلد السـياسية. فالمعّاز يدع قطيعه يمسحُ الأخضر عن الجبال، وعندما ينتهي «يقرقش» اليابس، وينكبّ كصاحب قضية ،على رؤوس الأشجار حتى لو وصل إلى «الجبّ» وقضى على نسل النوع، في الوقت الذي لا يقبل فيه أن يشاركه المرعى معّاز آخر، ولا تعنيه البيئة أو التصحر، فالمهم معدة القطيع «القطّيعة».
يجلس المعّاز وحيداً يراقب قطيعه، والله وحده يعلم في أي «جلّ» آخر يفكر، أو إلى أي مرعى في هذه الجبال سوف يغدو صباحاً، وأين ستقوده أفكاره عبر الفضاءات،... البعيدة عن العولمة وأصل الأنواع، حيث يردد مفرداته الخاصة في قيادة القطيع، وهي في الغالب من حرفين ومقطع واحد مشدد، كي تلقى صدى في الأعالي، والصَفير يمنة ويسرى لتنبيه معزاة أو «سخلة» شاردة أو ردع تيس عنيد، ويحوم حول الجميع كلبه «الجعاري»، متوكئاَ على عصا ذات عُقد، وبيده الحجارة الصغيرة، عدّة الإدارة «التمعيزية» وسلاح ردعها السياسي.
إذا أطبقنا ببعض هذه الصفات على عدد كبير من ساسةِ البلد، فهل يتبدّل شيء؟!.
لقد مارس ساسة وقادة أحزاب طريقة التمعيز الاستئثارية، وداروا حول ما ظنوا أنها عبقرياتهم، الآتي بعضها بالوراثة، كما يدور الدراويش حول أنفسهم، وشربوا بدل ماء النبع العالي... مقلباً، فحسبوا أنفسهم سادة على الحيّز المكاني (الجلّ) ّوالبشري (القطيع)، متناسين أن سَوس الناس قد تجاوز عصر الرعي ونحن الآن في عصر «الثورة المعرفية».
ورثة «الجلول» والمناطق المغلقة، يعيدون الكلام المتفحّم إيّاه في خطابهم السياسي، صاغراً عن كابر، مثل الكلمات التي لا يحيد المعّاز عنها، لذلك تجد شباباً ورثوا أهاليهم في الزعامة يتكلمون مثل أجدادهم، لا بل مفردات ما قبل قروسطية، ويطلقون شعارات من الذرى الماعزية الشمّاء، ويعتقد بعضهم أن الإصرار على تسوير مواقع النفوذ بـ«البلاّن» الغرائزي وكوكبة «الأزلام» والمريدين، يوصل إلى السيطرة المطلقة على المرعى السياسي.
ويعتقد بعضهم أن إطلاق «الصفير»، أو قرع جرس «الكرّاز» إذا اقترب أحدهم من «الجلّ» الذي يرعون فيه العباد سوف يقلق الدول الكبرى، فتهرع الأساطيل محمومة لمحق قطيع الخصوم وقطع نسله السياسي، في ابتسار معرفي مذهل، وانتفاخ للذات، فالأرض عندهم مراعٍ مسيجة بالشوك والحجارة، يرضعون فيها حليب التقوقع والأثرة.
اجتماعياً، هذا الكلام لا يعني أبداً التقليل من احترام «المعّاز» الحقيقي إنتاجياً، فهو يأكل عيشه بتعبه، ولكن إسقاط الحالة على السياسة هو المقصود، وبالمناسبة كثيرون منا يحبون لبنة الماعز وجبنته الطرية «والقصبة النية» لـ«ساعور» صغير.
وللتدليل على استطالة الثقافة التمعيزية في حياتنا، ما زلنا نردد «نّيال من له مرقد عنزة في جبل لبنان»، وليس نيّال من له شقة أو بستان، فيما الهجرة تعمي عيون الأهل والبلد. صحيح أن المثل السابق دليل على جمال لبنان، قبل أن يطيح به التصحّر السياسي والكسّارات و«البيتون» المسلح، لكن له دلالات أخرى. كما أن أمثال التمعيز كثيرة ومنها أن «العنزة الجرباء لا تشرب إلاّ من راس النبع»(!!).
صحيح أن دموزي قد تحللت عظامه في العالم الأسفل، لكن ظهوراته تتابعت في كتب الميتولوجيا وفي السياسة اللبنانية، والدليل أن ساستنا هم الوحيدون في العالم الذين تقول لهم تيس... فيجيبونك احلبه.
* كاتب لبناني