نصري الصايغ *
«قراءة غاضبة في ما آلت إليه الفتنة قبل بدايتها»

I
من قتل الخليفة الثالث؟ افحصوا قميص عثمان. هذه أمة لا مثيل لها، تعيش في عقر ماضيها. تقيم على رؤوس الرماح. أمة تستعدي الفتنة لتعقد فيها أواصر السياسة، لتبرم فيها مواثيق البقاء المؤقت، لتتنبأ بحتمية المأساة...
أمة ليست كالأمم: «السيف أصدق أنباء من الكتب»، للسيف صدارة الفعل، للعقل خلاخيل المؤخرة. للسيف فضيلة الحسم، للعقل رذيلة السماح. للسيف قبضة العنف، للعقل طلاوة الحرية... أمة، دونها الأمم. جذورها في السماء، تزهر تراباً وتنغلق زهورها على وأد الثمار... أمة، عقدت مع السلف عهداً وقالت: نطوّع الزمن، نئده، نأمره عد الى الوراء، فإن لم يعد، عدنا نحن من دونه. عدنا لنسأل: من قتل الخليفة الثالث؟ افحصوا قميص عثمان. دلونا على القتيل. واذا وصلنا الى المقصلة، أفتينا بقتل الشهود...
II
للمدى أبواب بلا أقفال. للمستقبل أبواب بلا مفاتيح. الزمن يصيب إذ يحتفل دائماً بالأمام، إذ يتقدم في عمره الى طفولة الآتي. المدى أمام، لا وراء له. ذهاب وتطلّع. فضاء أزرق من أجنحة وأحلام وأقدام طوباوية الحرية. المدى انعتاق وحمل خفيف، كأنه: «كن فيكون»، بفعل الأمر الإنساني. المدى مستقبل لا ينسحب الى الماضي، يستحيل عليه التخلّف. المستقبل هو دائماً في مستقبل أبعد منه وأكثر رحابة. الشعر مستقبل. القصيدة مدى. الموسيقى اختراق لصمت يعمر لحظات الغبطة في المابعد... النحت مستقبل، فتح في الحجر والخشب، جرح يشق كتلة الجمود، حركة تستثير شهية البلوغ. الرواية، مخيلة التاريخ، نافذة المستقبل على الماضي، كتابة توطد لغتها في التراجع الى الأمام.
الماضي في الرواية، سباق مع الحاضر الى الانساني. الانساني تجسد وتجدد في المستقبل... الفكر ليس استعارة أو مجازاً للماضي. هو دائماً تجاوز. الفكر، كفر بالمسلّمات، وكفر بالجمود، وكفر بطغيان المقدس. الفكر لاهوت الانسان، عباداته المتجددة وإبداعاته الدائمة. الفكر ليس خميرة. الماضي خميرة. الخبز صناعة بالنار والعجن والأيدي، وأحلام الشبع وتراويح العشاء. الفكر مدينة بلا أسوار، مفتوحة على الشمس والماء، على الشاطئ والسهل وتمتشق الجبال. الفكر، عندما ينظر الى الوراء، عندما يتطلع الى الماضي، يشير بإصبعه الى الأمام. كل «فكر» يستغرقه الماضي، هو موت يضاف الى ركام. كل فكر يستحوذ على فلذة الماضي، هو حياة تحيي ما فات من ماض، تخلّف معاصروه عن إبداعه أو اكتشافه أو ممارسة فنونه. للمدى أبواب بأحجام الأسئلة. للمستقبل أبواب بحجم الأجوبة. للحياة أبواب مفتاحها، شهوة العقل، ولذة المغامرة، وقدرة التمرد وإرادة التحقق.
للمدى غير ما يسأل: من قتل الخليفة الثالث؟ أين قميص عثمان، سلمونا القاتل، ولنحتفل بالمقصلة ولنعقد أواصر حاضرنا ومستقبلنا على فتوى: القتيل لم يرض... فلا بد من فدية. أو نسأل: من قتل الإمام؟
III
للماضي أبواب ومفاتيحها موزعة على أجناس وأعراق وديانات ومذاهب وطوائف وعشائر وقبائل وبطون وأفخاذ. ونحن كأمة لكل هذه الأبواب. ندخلها ولا نخرج إلا مفتونين بزينة القتلى.
للماضي أبواب تفضي الى سراديب:
أمة لا تفتح مصاريعها إلا على صرعاها. أمة مفتونة بماضيها، تقاتل نفسها من أجل جنس السلف. أمة، تقرأ ثأرها في كتاب أزلي، أمة تسكن معلّقات الفروسية، ولغة الخناجر والسيوف من آيات ماضيها البيّنات. الثأر نبت محروس. ثأر قديم، ثأر حديث، ثأر مخضرم، ثأر بصيغة المفرد، ثأر بصيغة الجمع... أمة تفطر على دمها ولا تصوم عن القتل. وصاياها العشر لا تقتل، وتقتل. حرامها الكتابي: لا تقتل، وتقتل.
يا أمة...
IV
إذا اعتزلت كفرت. فالفكر كفر.
اذاً، سر في القافلة الى الماضي، واقرأه كما يُتلى عليك، وردّده، كما يقال بلا زيادة ولا نقصان. كل إضافة تزوير. كل حذف تجريم. كن كسواك. القافلة لا تحتمل الصعاليك والطفار، والهامشيين وشذاذ التطلع الى الأمام. كن مطيعاً كي تسلم وتنعم، لا تفكر. الفكر لأصحابه من أهل العقد والحل والربط والحزم والقول المأثور والسيف الباتر. كن كما يريدون، لتكون. أرد ما يريدون.
الماضي سطر، كن كلاماً فيه. وحدهم أصحاب السطوة، سلطة ونفوذاً، يفتون لك: ما الفرق بين يدك اليمنى ويدك اليسرى؟ كيف تؤدي واجب التقليد؟ من صديقك ومن عدوك؟ من أنت وما الآخر. لا تفعل كذا وارتكب كذا.
لا تفكر. معيارك ماضيك. وماضيك ليس كماضي معاصريك. أنت من سبط القاتل أو القتيل. أنت على سنّة أو على تشيّع أو على تنصّر أو على تهوّد. كن ماضيك الوراثي. ماضيك الذي اختير لك في الفراش الزوجي لوالديك. لا تكن أنت، ستكون هم. ستنتمي وتحتمي من الآن الى أبد الماضين الى ماضيهم في المستقبل المفقود.
V
اللبناني، كل ماضيه في حاضره. ليس في حاضره ذرة من مستقبل. حاضره ثقيل الوطء. مركز الثقل، له جاذبية الإقامة والاستعادة والتكرار بلا ملل. حاضر يلد حاضراً. حاضر يستجدي الماضي ويسميه مستقبلاً.
اللبناني له طاقة تحويلية. يحوّل النقيض الى نقيضه: القديس شرير، البطل مجرم، الحلال حرام، الحرام حلال، الوطن بلا مواطن... اللبناني مقيم على وثن الطائفية، أو، على أوثانها المتعددة. هكذا، بين يوم وآخر، بين لحظة وأختها، تُحوّل طائفة المقاومة ميليشيا، وتُحوّل أخرى من طائفة العروبة الى طائفة الأمركة، وترقص أخرى على حد السكين. اللبناني، ينفص عنه غبار الحداثة الجديد، ويحتل مكانة الخلفاء والشهداء والضحايا. يرفع عقيدته الحديثة ضد خصمه التاريخي. يستدعي معارك الفتنة وقبضايات الفتك والقتل، ليخفي موقفاً من الديموقراطية، وآخر من المشاركة، وآخر من المقاومة وآخر من هلم جراً من قيم السياسة والحياة.
اللبناني يطيِّف التفاح والبرتقال ولون السماء. اللبناني يُمذهب اللهجات ويقيم سلم القيم على قاعدة الولاء لبني تغلب وبني عثمان وبني من قتل الإمام.
اللبناني ليس جباناً... ولكنه كائن يخاف. إذ، كيف لا يخشى اللبناني على حاضره، عندما يستدعي الماضي، ويسأل علناً:
من قتل الخليفة؟ أين قميص عثمان؟ من قتل الإمام؟
VI
كم تبلغ أوروبا الموحدة من العمر؟ تحديداً، نصف قرن تقريباً. ولدت من مـــــــاضي حربين طاحنتــــــــــــين. نقضت ماضيها. نفضت عنها إثم العنف. قررت ان تشيع من المستقبل. زرعت فيه أملاً. كان يشتد رسوخاً كلما ابتعدت عن ماضيها. شعوب لم تنكر ماضيها، إنما تخلّت عنه. قالت: لن يكون هذا السلف خلفنا، لن يكون هذا الماضي مستقبلنا. أغلقت أبواب الحرب. شقّت ثوب الاستبداد، رفضت استمرار الديكتاتوريات، اعتنقت مذهب الحرية وذهبت الى مستقبل صعب وحقيقي وواقعي ومجد.
كم يبلغ العرب من العمر؟
يلزمنا اختراع وحدة قياس غير زمنية، لقياس التخلف العربي. «يعيشون في جلباب ماضيهم»، من دونه يشعرون بالدوار والضياع. ماضيهم خشبة كلامهم، ويهلكون. عمرهم من عمر ما آلت إليه، من تفتت بهيم، وانقسام سقيم، وتبعثر مرضي، وتشلع عبثي. عمرهم؟ لقد فات زمنهم... خرجوا منه... اذاً، لا عمر لهم... ولم يرحمهم الله.
* كاتب لبناني