امين محمد حطيط *
قامت الاستراتيجية الاميركية في العالم في مرحلة الحرب الباردة، على مرتكزات اساسية تجمع بين الردع النووي والأحلاف العسكرية وسياسة الحماية لمنع التمدد الشيوعي، إضافة الى الحرب الفكرية والإعلامية المنفذة تحت عنوان حقوق الانسان و دعم الحرية الدينية، وخاصة عبر مد الجسور واحتضان الانظمة والحركات الاسلامية عبر اخافتها من المد الشيوعي «الالحادي». وكان النظام السياسي اللبناني، انطلاقاً من تركيبة الطبقة السياسية فيه، جرماً يدور واضحاً او متستراً في فلك السياسة الغربية، من دون ان يجرؤ الحكام فيه على ادخاله في حلف او جعله قاعدة عسكرية لقوى غربية رغم بعض المحاولات الفاشلة لذلك. لكن لبنان ظل يُتخذ من الغرب موقعاً متقدماً للمواجهة الاعلامية ومسرحاً عند الحاجة للصراع او لتغطية الصفقات الشرق اوسطية، كما حدث في عام 1985 في ذروة المد الناصري او في حرب 1975 لتمرير اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل.
وبعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي في عام 1989، تغيّرت الاستراتيجية الاميركية، إثر غياب العدو التقليدي (الشيوعي)، وظهر أن العائق امام السيطرة الاميركية على العالم قد زال او انعدمت فاعليته، فانطلقت اميركياً مقولة النظام العالمي الجديد ذي القطبية الاحادية، التي عبر عنها بعض الخبراء، في محاولة لبناء القوة الاميركية الاعظم، لتكون الامبراطورية السادسة في التاريخ.. وارتكزت الاستراتيجية الجديدة على مقومات اربع: الإعلام، والقوة العسكرية، والسلطة المحلية التابعة، والاقتصاد الوطني الضعيف الخاضع لسياسة العولمة المانعة من تطور الدول المتخلفة بتحويلها سوقاً استهلاكية لمنتجات الغرب، وهي المقومات التي يعبَّر عنها بـ: الكلام الخادع، والسيف القاطع، والحاكم التابع، والبطن الجائع. اما الاهداف الاستراتيجية الاساسية في هذه السياسة فقد حددت بالآتي:
ــ الإمساك بالنفط للقبض على اقتصاد العالم.
ــ محاصرة الاسلام باعتباره العدو البديل، فألصقت به الإرهاب لتحاربه وتمنع تشكل قوى المواجهة والممانعة.
ــ التحكم بالقرار الدولي ومنع نشوء الدول او الأحلاف المناهضة لأميركا.
ــ التحكم بالقوة العسكرية، تقليدية او غير تقليدية، لمنع امتلاك القدرات العسكرية لدى الغير ولتعطيل فرص المواجهة.
ــ التحكم بالثروات والسوق العالمية، واعتماد الحصار والعقوبات الاقتصادية، وسياسة الإغراق في الديون.
ولتنفيذ هذه الاستراتيجية وصولاً الى الإمساك بزمام العالم، اعتمدت الولايات المتحدة الاميركية على الامم المتحدة لتشريع تدخلها في المعمورة، وأطلقت اخطر نظرية في العلاقات الدولية الحديثة، وهي «نظرية السيادة الدولية المتقدمة على السيادة الوطنية»، الأمر الذي يمكّنها (وهي الممسكة بقرار مجلس الامن) أن تقرر ما تريد وتلزم البشرية به. فرئيس اميركا هو «من اختارته العناية الالهية» لإنقاذ العالم، واجتثاث «محور الشر». اما آلية التطبيق، فتكون عبر اختلاق اكاذيب تبرر التدخل، ثم استعمال القوة لإخضاع البلدان المستهدفة والتي لا تكون قادرة على مواجهة القوة العسكرية الاميركية (الدولة الاعظم في العالم)، ثم تنصيب الحاكم الشكلي التابع، ومنع الدولة من امتلاك مصادر ثرواتها لأن هذه المصادر هي حق للقوي الاميركي، الذي له ان يتحكم بلقمة عيش السكان اينما حل.
وبدأ التطبيق العملي للسياسة الاميركية هذه في عام 1991، حين تمكنت اميركا من تشجيع صدام حسين ودفعه الى احتلال الكويت (اتصالات السفيرة الاميركية ابريل غلاسبي الشهيرة)، ثم جاءت، تحت ستار الشرعية الدولية وقرارات المجتمع الدولي، بقواها العسكرية الى الخليج العربي، فطردت صدام من الكويت لكن بقيت القوى حيث انتشرت... ثم كان التطبيق الثاني في افغانستان، فدخلت من باب عملية 11ايلول الارهابية، وأعادت الكرّة: قرار دولي، فتحالف دولي ، فغزو فاحتلال ثم انتشار القوى وبقاؤها حيث انتشرت في افغانستان.. لتكون المرة الثالثة للتطبيق من نصيب العراق، فيبدأ بزعم كاذب لوجود سلاح الدمار الشامل ليبرر الاحتلال، لكن اميركا اخفقت هنا في انتزاع قرار من الامم المتحدة قبل الاجتياح، فلم يثنها ذلك عن التنفيذ وعن الاستحصال على القرار بعد الاحتلال وبعد تنصيبها الحاكم التابع... اما لبنان، فيبدو أن اميركا لم تجد أن هناك حاجة لإرسال جيش اليه، فاكتفت بالتجييش الإعلامي، واستغلال دماء سالت على ارضه بيد لم يكشفها حتى الآن تحقيق جدي، لكن الإعلام المسيَّر اميركياً حسم التحقيق والنتائج وأجرى المحاكمة ونطق بالحكم مديناً من حددهم انهم هم الجناة.. واستمرت العملية في لبنان لتقيم الحكم التابع الذي يوفر على اميركا استعمال الجيوش لإقامته، كما حدث في افغانستان والعراق... بهذا التمدد تكون اميركا، وبظاهر الامور، وفي اقل من 15 سنة قد امسكت على الاقل ظاهرياً بقرار 4 دول في الشرق الاوسط مباشرة، وإذا أضفنا اسرائيل، ودول الخليج العربي ذات العلاقات الوطيدة مع اميركا، يظهر لنا أن الشرق الاوسط بات كله في القبضة الاميركية باستثناء ايران وسوريا، وهو ما استلزم وصفهما بمحور الشر... شر على السياسة الاميركية...
لقد ظنت اميركا أن في مقدورها عبر الإعلام والجيش والسلطة التابعة، أن تسيطر على اهم منطقة في العالم.. بحيرة النفط العالمي... لكن.. لم تكن الرياح لتجري بما تشتهي السفينة الاميركية، اذ بدا، بعد كل المحاولات والقتل والتدمير ونشر الفوضى «الخلّاقة»، أن اميركا عجزت عن الإمساك بالبلدان الثلاثة المتقدمة الذكر، ولم تحقق لها حكومة قرضاي، او حكومة المالكي، او حكومة السنيورة آمالها، وكان في كل بلد سبب حال دون ذلك، وكانت مقاومة السياسة الاميركية ذات وجهين، عسكري حيث يوجد جيش احتلال، ومدني حيث تكون السفارة الاميركية حاكمة من غير حاجة الى جيش.. كما هي حال لبنان... ومناهضة عامة حيث لم تستطع الدخول كما هي الحال في ايران وسوريا.. والعجز عن بلوغ الاهداف يكون طريقاً لتغيير المشهد.. وهذا ما بدأ يظهر...
لقد ادى رفض السياسة الاميركية في الشرق الاوسط، ومقاومة التدخل الاميركي المباشر في المنطقة، والذي اتخذ منذ عام 1991 الوجه العسكري العلني، ادى ذلك الى إلحاق الخسائر المادية والبشرية والمعنوية الجسيمة بأميركا، خسائر وصلت الى الحد الذي اقتنعت فيه بأن استراتيجيتها المعتمدة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة لن تؤدي إلى الغايات المطلوبة، بل باتت خطراً اكيداً على اهدافها الاستراتيجية، وأن عليها اعتماد خطة بديلة تحفظ لها ما هو قائم، وتحدد خسائرها في المستقبل.. لهذا كانت لجنة بيكر ــ هاملتون التي يستنتج من تقريرها مسائل جوهرية مهمة:
ــ استحالة الاستمرار بالسياسة القديمة القائمة على الابتلاع والاخضاع. وهذا يعني سقوط سياسة الالغاء والإلحاق.
ــ ضرورة الاعتراف بالقوى الاقليمية الاساسية في الشرق الاوسط كيانات ذات استقلال ومصالح، والتحاور معها لحفظ هذه المصالح، وفي ذلك إسقاط لفكرة محور الشر الواجب الاجتثاث، لتحل مكانها فكرة الكيان الحقيقي الواقعي الواجب حواره والتفاهم معه، وهذا يعني سقوط سياسة العقوبات والحصار.
ــ فشل استعمال القوة العسكرية في مواجهة الشعوب، وضرورة الاعتراف للأمم بقدر من الحق في تقرير المصير، وهذا يعني استبعاد حروب احتلال جديدة في الشرق الاوسط، او سواه، على الاقل في المدى المنظور.
ــ فشل سياسة تنصيب الدمى الحاكمة، لأن هذه الدمى لا تقيم استقراراً.. ولا تحقق آمالاً، وهذا يعني ضرورة احترام ارادة الشعوب في اختيار حكامها صدقاً لا تزويراً.
ــ إخفاق سياسة الإعلام الكاذب الذي قد يخفف الأثر السيئ ظرفياً لكنه لا يستطيع أن يجعل الشيطان ملاكاً او القبيح جميلاً الى الأبد، وخاصة أن الخصم يملك من الوسائل، وإن كانت محدودة، ما يحصّن نفسه بها، ويفضح الدور الاميركي (ولا ينفع تصنيف محطة اعلامية منظمة ارهابية كما تم مع المنار)..
في ضوء هذه النتائج والاستنتاجات، ستكون هناك مراجعة جدية للسياسة الاميركية في الشرق الاوسط، مراجعة لا بد منها، وقد لا تظهر آثارها في يوم او اثنين، لكنها ستكون حتمية، وخاصة بعدما جاءت نتائج انتخابات الكونغرس كما هو معروف، وانعكاسها فوراً على الفريق الحاكم مع بوش (المحافظون الجدد). انها مراجعة سيكون لبنان محلاً لبعض تداعياتها، فكما كان يتأثر في الماضي عند كل تغيير للسلوك الاميركي في الشرق الاوسط، فإنه سيتأثر اليوم ،حيث اصبح من الاستحالة بمكان استمرار الفريق المدعوم اميركياً بالسلطة منفرداً، أو ممسكاً بالقرار استئثاراً، ولا يغير في الامر اسهاب السفير الاميركي في لبنان في نفي أثر المفاوضات الاميركية ــ السورية ــ الايرانية بشأن العراق، (اثرها على لبنان)، لأننا نفهم أن اميركا لا تنظر الى الامر مجزّأً بل تتعامل معه بشمولية وفقاً لما تكون قد اعتمدت من تقسيم استراتيجي للمناطق يناسب حركتها وتدخلها، وبما انها جعلت الشرق الاوسط مسرحاً استراتيجياً واحداً (وفيه ايران والعراق ولبنان وسوريا) فإن الموقف الذي سيتخذ في جزء منه، لا بد من أن يؤثر على الاجزاء الاخرى.. فاذا كان تفاهم ما سيحصل بشأن العراق، وسيحصل لأن اميركا لا تستطيع الاستمرار في الواقع القائم هناك من دون تعريض مصالحها للخطر (ولا نقول إنها ستنسحب منه اليوم أو غداً) فإن هذا التفاهم سيتأثر به لبنان، لأنه لم يُطلب اميركياً لذاته او لثرواته، بل لاتخاذه مدخلاً الى بلاد النفط وحديقة خلفية لها، فإذا سوّي الوضع هناك تغيرت النظرة الى الامر هنا.. إنه قدر لبنان، تلفحه كل ريح تهب على نفط الشرق الاوسط. وعلى هذا الاساس نرى أن تغيراً اكيداً سيشهده لبنان في المستقبل المنظور، تغيراً يكون نتيجة عاملين: مقاومة ومعارضة داخلية لبنانية للمشروع الاميركي (عسكرية ومدنية) وإخفاق اميركي في الشرق الاوسط. وهو ما يعني أن صوت المعتصمين في بيروت في ساحات الرفض للهيمنة والاستئثار، سيكون اعلى من اتصالات الغرب دعماً لمن بقي من وزراء في السرايا القربية منهم، وزراء ينكر عليهم فقهاء الدستور الموضوعيون صفة الحكومة الدستورية و لميثاقية، صوت الرفض سيسقط حكم التفرد والتبعية، لكن التابع لن يتخذ قرار الرحيل بنفسه لأن القرار ليس بيده ذهاباً او بقاءً، بل هو قرار من هيّأ الظرف له وأقامه على كرسيه ثم وصفه بأنه «يقود شعبه»..
اذن، التغيير في لبنان اصبح اليوم حقيقة واقعة، حيث لن تستمر الوصاية الخارجية فيه، ولن يكون استفراد او استئثار، وإذا اظهرت النصوص أن الطائف لا يضمن مشاركة الجميع في السلطة، فإن سؤالاً سيطرح عن النص او التفسير. نعم سيكون هناك تغيير، والمسألة مسألة وقت يحين عندما ترتب اميركا اوراقها هناك، فتستغني عن حكومتها هنا، تغيير لن تمنعه المكابرة او الوعود الخادعة المطمئنة... فهل يعقبه إصلاح ؟
* عميد ركن متقاعد ــ باحث استراتيجي