سعد الله مزرعاني *
لاحظنا في مقالة سابقة («الأخبار» 8/12/2006 ص 15) أن أزمات لبنان تتواصل وتتفاقم منذ الاستقلال (على الأقل) الى اليوم، وأن الحلول عندما تأتي، تكون مجتزأة ومؤقتة وهشة، وتأتي دائماً من الخارج، مقرونة بفاتورة مصالح أو مطالب أو إملاءات...
لاحظنا أن النظام اللبناني بسبب المرتكزات الطائفية والمذهبية للسلطة فيه، ينطوي على خلل جوهري يجعله مفتقراً إلى مرجعية داخلية تعالج الأزمات أو تمتصها على الأقل. فما العمل إزاء الأزمة الخطيرة والمتصاعدة الآن؟
ينبغي أن نلاحظ بدءاً، أن القسم الأعظم من الطاقم السياسي القديم والجديد أو المتجدد، يتفق على استمرار النظام الطائفي. أما الخلاف فيدور على النسب والحصص. انه صراع من داخل النظام، وفي نطاق تعديل التوازنات فيه، فحسب. هكذا كان الأمر منذ الاستقلال، وهكذا هو حتى هذه اللحظة، بما في ذلك في مرحلة الإدارة السورية للبلاد. فقد استسهلت تلك الإدارة الممثلة لنظام علماني (رسمياً ونسبياً)، أن تتوكأ في إدارتها لشؤون لبنان، على صيغته التقليدية الطائفية، مغيَّرة، فقط، في التوازنات، بما يمكن اعتباره نقل سلطة القرار أو النفوذ من جهة الى جهة من دون المساس بالجوهر. خطأ الإدارة السورية تلك مضاعف. والسبب أنه كان أمام هذه الإدارة اتفاق سياسي، جاءت هي في نطاقه، وكان عليها أن ترعى تطبيق بنوده. عنينا «اتفاق الطائف» الذي ينص في أحد بنوده الرئيسة على مباشرة إصلاح النظام السياسي، معظم مؤسسات النظام، بما فيها السلطة السياسية، مقابل إنشاء «مجلس شيوخ» يعالج الهواجس الطائفية ويحاصر تأثيرها في أضيق مدى ممكن. هذا الى بنود إصلاحية أخرى جرى إقرارها، وجرى بالمقابل، إفراغها من مضمونها الفعلي. ينطبق ذلك على «المجلس الدستوري» و«المجلس الاقتصادي الاجتماعي» والإنماء المتوازن» واللامركزية الإدارية...
لقد شكــــــــــل البند الإصلاحي في «اتفاق الطائف» اختراقاً أولياً، كان يمكنه أن يتحول الى اختراق فعلي، لولا الارتداد عليه من المـــــــــــشاركين في السلطة ما بعد «الطائف»، ولولا تواطؤ المعارضين لتلك السلطة، ولولا إدارة الظهر له من الإدارة السورية للبلاد!
ويتذكر الجميع كيف تحول موضوع تأليف «الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية» المكرسة في الدستور، الى «فزيعة»، وكيف تحول مجمل موضوع التغيير الى أداة ابتزاز طائفية، تماماً بعكس وظيفته ودوره المصيري في تغيير النظام اللبناني ومعافاة الحياة السياسية اللبنانية!
الدور اللبناني:
إن الأمور في لبنان حالياً على درجة شديدة من التعقيد. وعناصر المعالجة موزعة بين الداخل والخارج. ونعترف بأن مباشرة عملية معالجة نوعية والوصول بها الى كل نهايات مراحلها، يكاد يكون من أصعب الأمور. ومع ذلك، لا بد من المحاولة وفق العناوين المتكاملة الآتية التي يشجع عليها إعلان جميع القوى موافقتها على الطائف، كل الطائف، من دون تحديد:
1 ــ احترام نصوص الدستور اللبناني. ويعني ذلك اتخاذ قرار عام بوضع المواد 22 و24 و25 موضع التنفيذ، عبر آلية مناسبة. ويستدعي ذلك وضع قانون انتخاب جديد على أساس النسبيه والدائرة الواحدة، ثم إجراء انتخابات مبكرة ينجم منها بالضرورة مجلس نيابي شامل التمثيل وصحيحه. تتيح هذه العملية إعادة تكوّن السلطة والنظام في آن واحد. وهي يجب أن تقترن، وفق الدستور، أيضاً، بإنشاء «مجلس الشيوخ» المنصوص عليه في المواد الدستورية المذكورة آنفاً.
2 ــ إن تحديد صلاحيات «مجلس الشيوخ» المذكور، بما هو مكان مناسب للتعبير عن الهواجس ومعالجتها أو نقل معالجتها الى الهيئات الدستورية الأخرى (مجلس النواب ومجلس الوزراء)، هو مسألة أساسية. أما المسألة الأخرى الأكثر أهمية فهي الحرص المكرس في النصوص والممارسة، على بناء مؤسسات ديموقراطية تعتمد هي أيضاً آليات ديموقراطية مناسبة، من أجل صيانة الحريات وتوفيرها، ومن أجل تكريس المساواة في المواطنية وفي الحقوق والواجبات.
3 ــ يستطيع المجلس النيابي الحالي أن يباشر هذه العملية، وفي أقرب فرصة ممكنة، كجزء من آلية متكاملة لولوج طريق المصالحة والحل. ولا شيء يمنع أن يكون تأليف «الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفية السياسية»، هو نقطة البداية. فهذه الهيئة تستطيع أن تكون الإطار الوفاقي المناسب لإدارة مجمل عملية المعالجة وتوفير التفاهمات الضرورية لذلك.
وبالتأكيد، للهيئات الدستورية المنبثقة من هذه العملية، أن توفر المرجعية الداخلية الطبيعية للبنانيين الذين يجب أن يعتادوا ذلك في أسرع وقت ممكن!
والمؤسسات والهيئات الشرعية المذكورة، وفق تركيبتها الجديدة، تكون قد ألغت، دستورياً، الدويلات الطائفية ــ المذهبية القائمة، لمصلحة الدولة الواحدة، ووضعت الأساس لكي يصبح كل القرار السياسي في شأن قضايا لبنان المختلفة، في هذه الهيئات والمؤسسات. وهذه إما أن تمارسه فتواصل عملها، وإما أن تعجز عن ذلك فيتم اللجوء، ومن ضمن الآليات الدستورية نفسها التي تعمل وفقها هذه المؤسسات، الى الانتخابات النيابية المبكرة، أو الى استبدال الحكومة..
ويقتضي كل ذلك تعزيز دور الدولة ومؤسساتها الخدماتية خصوصاً. إن بناء الدولة الراعية، هو في لبنان، أكثر من عملية اجتماعية. انه عملية سياسية، لكي تحل الدولة تدريجاً، محل الدويلات، وتوفر بشكل واقعي، الخدمات الضرورية الممكنة للمواطن، وبطريقة سليمة وشريفة وبعيدة مما هو قائم من أنماط التحاصص والزبائنية واسترهان المواطن..
ولمثل هذه العملية سيـاسات وخطة ومؤسسات، منها ما كان قائماً وجرى تعطيله (مجلس الخدمة المدنية، مؤسسة الضمان الاجتماعي...)، ومنها ما يجب استحداثه في نطاق عملية إصلاح إداري، تشمل أيضاً تعزيز دور القضاء وأجهزة الرقابة ومكافحة الفساد والرشوة والهدر وتسخير مؤسسات السلطة.
الدور السوري:
لسوريا دور كبير في مجمل هذه العملية التاريخية المنشودة! قد يتبادر الى الذهن مشروع لعودة سوريا الى لبنان! أبداً، العكس هو المطلوب. المقترح هنا، تحديداً، إنما هو تعاون إيجابي، هذه بعض عناصره أو موجباته:
أ‌. إعلان سوري رسمي وصريح ومقنع بأن سوريا قد طوت الصفحة السابقة الاستثنائية، في علاقتها بلبنان. وهي في سياق مراجعة جديدة للمرحلة الماضية، تؤكد احترامها استقلال لبنان وسيادته وقراره المنبثق من مؤسساته الدستورية، وتعلن تعاونها معه في كل ما يوطد له الأمن والاستقرار.
ب‌. بديهي أن ذلك ينبغي أن يحصل في نطاق عملية تعاون بين سلطتي البلدين. وهذا التعاون الذي يحترم استقلال وسيادة كل منهما، يكرس، في المقابل، تفاهماً عميقاً بينهما، يلهمه التاريخ، وتعزّزه المصالح المشتركة، وتحفّزه التحديات المستهدفة لكليهما.
* نائب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني