نصري الصايغ *
I
  • ـــــ تاريخ
    «نعلن رسمياً يوم السادس عشر من شهر تشرين الثاني من كل سنة يوماً دولياً للتسامح». وقّعت هذا الإعلان الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة عام 1995. مرت المناسبة على لبنان والعالم العربي، وهو في ذروة اللاتسامح، لم يتنبّه الى المناسبة والحاجة إلا قلّة من بينها جريدة «الأخبار»... التأخير مغفور. ما زلنا في أجواء المناسبة، وفي منطق الحاجة القصوى الى التسامح.
    II
  • ـــــ مبادئ
    تقدم الوثيقة لهذه المناسبة بما يلي: «التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا». وتفنّد الوثيقة وسائل تعزيز التسامح «بالمعرفة والانفتاح وحرية الضمير والمعتقد» وتحدد «انه وئام في سياق الاختلاف» و«هو ليس واجباً أخلاقياً فحسب، وإنما واجب سياسي وقانوني أيضاً»، وعليه فإن استبدال ثقافة الحرب بثقافة السلام، تقوم على ترسيخ مبدأ التسامح. وعليه أيضاً، فإن التسامح يشكل عماد حقوق الإنسان والتعددية والديموقراطية وحكم القانون، ومن دون التسامح لا تنمية ولا ديموقراطية.
    أهذه الوثيقة تمت إلينا بصلة، أم أننا، لبنانيين وعرباً، نعيش في كوكب آخر... كوكب غير بشري، طبعاً؟
    III
  • ـــــ وقائع
    المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي، في الخريطة العربية، يقدم لنا ما تيسّر من صور العنف وفصول الحروب، ومواسم الاستبداد، وأفعال النبذ، وتأهيل التجهيل، وتعميم التكفير وتأميمه، وتعزيز التسلّط، وتشريع الدوغماتية، وتشريع القوانين، وتمزيق وحدة المجتمع، بالتأكيد على تعددية، قوامها التعصب والتخوين والتخويف والتهميش.
    وقائع، تمتد مشاهدها، من عراق «تحت درجة الصفر» من الوطن، الى لبنان حيث عنوانه الجديد «بيت بأهوال كثيرة». المشهد الدولي، ينم عن مسيرة مضادة للعهد الدولي لحقوق الإنسان ومبدأ التسامح، حيث تتولى الإدارة الأميركية المسيطرة على الحصون الدولية، التي عهد إليها صيانة العهود والمواثيق الدولية، دفع العالم الى الجحيم، حروباً وحصاراً وافتئاتاً وتمييزاً وتعصباً. فهي الوكيل الشرعي المولج بممارسة العنف حتى الثمالة.
    IV
  • ـــــ وثيقة مزدوجة وتعليق
    كأننا بحاجة الى استلهام تراثنا الإنساني المشرقي. يسوع المسيح يطلق مبدأ التسامح المتعالي: «من ضربك على خدك الأيمن، حوّل له الأيسر»... «نحن إخوة في الله»... «من مشى معك ميلاً، فامشِ معه ميلين». كأننا بحاجة الى إعادة قراءة حلف الفضول ودستور المدينة في الصحيفة، ففي حلف الفضول تعاهدوا «على أن لا يدعوا ببطن مكة مظلوماً من أهلها أو من دخلها من غيرها من سائر الناس إلا كانوا معه على ظالمه حتى تُرد مظلمته» (جورج جبور وآخرون). و«يمكن اعتبار حلف الفضول أول رابطة لحقوق الإنسان تعاهد على رفض الظلم والعمل على إلغائه، والمساواة بين أهل مكة ومن دخلها، واحترام الآخر بمعزل عن انتمائه وإحقاق الحق ونصرة المظلوم ورد حقوقه إليه».
    أما دستور المدينة فيعتبر بحق النموذج المدني للتعدّد وكيفية إدارته على قواعد «الإقرار بالمساواة في الحقوق والواجبات بين الجماعات المسلمة والجماعات اليهودية»، أي الاعتراف بالتعدد ضمن وحدة سكان المدينة، تأسيساً على مبدأ الكرامة الإنسانية ورفض العدوان والظلم والإثم والفساد، والتكاتف والتضامن لردع الاعتداء والظلم والإثم... (عبد الحسين شعبان، 2005).
    قد لا نحتاج الى نصوص كثيرة من التراث العربي المشرقي، أو من نتاجات العقل الحر، لفهم مبدأ التسامح كفضيلة راقية، لكننا نحتاج الى نفوس وسلوك. فواقع العرب راهناً مؤسس على اللاتسامح، من طرفي السلطة: السلطة السياسية والسلطة الدينية، وهما بصيغة الجمع، لا التثنية. الأولى متفوقة في القمع والاضطهاد والاستعباد والتعذيب والتبعية، والثانية بالغة العبقرية في الانفلات والتفرّد بالحقيقة والتكفير والتعصب والنبذ.
    العرب عربان: عرب النصوص «المقدسة» وعرب النفوس المدنسة.
    V
  • ـــــ التفوّق اللبناني
    تخترق العصبية الطائفية في لبنان نظام القيم والأخلاق، باعتبارها أشد أنواع العنصرية. التعصب العنصري أو العرقي أو الثقافي أو الحضاري أو القومي، دون التعصب الطائفي في لبنان. يلبس هذا التعصب أحياناً لبوساً لائقاً، معتمداً صيغة التكاذب المشترك، «العيش المشترك». صيغة مبنية على مبدأ النبذ. أي الاعتراف بك مختلفاً، الى درجة تفسير العيش المشترك على أنه تجاور: لك حصتك ولي حصتي. لك منطقك ولي منطقي. لك شاشتك ولي شاشتي. لك معتقداتك الغريبة ولي معتقداتي الطبيعية. بيني وبينك عيش مشترك داخل كيان من جدران. اللبنانية في المعيوش السياسي والاجتماعي والتربوي والإعلامي، تجمّع غيتوات لا تطاق. بينها وبين مفهوم التسامح مسافات مملوءة بفضاء من الأحقاد والحقائق المزوّرة والمطالب المقلوبة.
    اللبناني، بحكم انفتاحه، في مناخ الحرية وتعميم التعليم، وهوسه الثقافي، يعرف نصوص التسامح وفضائله، لكنه، لهوى قبلي، يهوى الاتّباع ويبتعد عن عناء الاختبار. هو تبعي، ويعترف لنفسه بإنسانية مختلفة عن إنسانية الآخر. لا يتميز عنه ثقافياً أو طائفياً. هو دونه أو فوقه أو ضده... وليس أبداً معه، إلا بالإعارة التي تفرضها الضرورة.
    إذاً: في أي تيه إنساني نحن، عرباً ولبنانيين؟
    إذاً: لا معجزة في فهم حضور العنف في مجتمعاتنا، اجتماعياً، وسياسياً، ودينياً وطائفياً.
    إذاً: المشكلة ليست في مبدأ التسامح بل في مبدأ الحرية للجميع، وكيفية صيانتها بمزيد من الحرية.
    إذاً: مشكلة الحرية، هي التجرؤ عليها. كلفة الحصول عليها وصيانتها أقل بكثير من كلفة الخضوع لمبدأ اللاتسامح.
    VI
  • ــ من يسامح من؟
    أحياناً، أجد نفسي في موقع الرافض لمبدأ التسامح، لأنه يمارس بشكل مغلوط، لأنه إذا كان «قوام التسامح إرادة تسمح للآخرين بالتعبير عن آرائهم ومعتقداتهم، فإنه يتضمن، بصورة أو بأخرى، عنصري القدرة والفوقية. من يتسامح هو من يقدر على أن يسمع. ومن يقدر على أن يسمع هو نفسه قادر على أن لا يسمع» (ناصيف نصار، 2003).
    إن التعبير عن الرأي والمعتقد بحرية، وممارسة مستلزمات هذا الرأي وهذا المعتقد اجتماعياً وسياسياً هو حق وليس منحة وليس تسامحاً. عندما تتسامح السلطتان السياسية والدينية، تقومان به لحاجة تخصها، إذا انتفت أو شعرت بخطر، استعادت منحتها، وحرضت على مخاطر التسامح. حقي في المعتقد والرأي وممارسته، حق لا مساومة عليه. عدم التقيد بشرعية هذا الحق، يعدّ اغتصاباً. وعليه، «فإن التسامح لا يحل مشكلة الاختلاف... فالتسامح محدود ومشروط في طبيعته، بسقف لا يستطيع تجاوزه. إنه طريقة لإدارة الاختلاف في الرأي والمعتقد كأمر واقع... على أمل احتوائه واستغلاله». وعليه أيضاً، فإن التسامح، في أحيان كثيرة، «محكوم بمنطق الأقوى».
    أحياناً، أجد نفسي ضد التسامح، فحتى أنت وبأي حق تسمح وتوسع صدرك؟ لماذا أنا لست مصدر التسامح؟ هل أنت تملك الحقيقة وتسمح لي بالتعبير عن حقيقتي؟ إلى آخره.
    التسامح قد يلغي مبدأ المساواة، لأنه، عادة، يكون منحة يمكن توفيرها لفترة ويمكن استعادتها.
    إذاً لا بد من مبحث آخر لاكتشاف آليات السلم الأهلي، أو لا بد من عنوان آخر... فما هو؟
    VII
  • ــ الديموقراطية: لاهوت السياسة
    الاعتراف المتبادل على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات، من دون تمييز أو امتياز أو إجحاف، مهما كانت وضعية المجموعات البشرية الطائفية والمناطقية والثقافية والحزبية، تمهّد الطريق لممارسة التسامح المتعالي. القاعدة الصلبة للعلاقات المتوازنة، هي قاعدة المواطنة. وهذا يفترض أساساً فصل اللاهوت الديني عن اللاهوت السياسي. تنزيه اللاهوت الديني عن كل ما يجعله من صفات الناسوت ومقتضياته.
    الحرية للجميع، كل الجميع، مهما كان معتقده ورأيه وموقفه. المساواة بين الجميع، مهما تباعدوا بالرأي والمعتقد والدين والثقافة. العدالة بين الجميع، تشكل أساساً راسخاً للانتظام في آلية الديموقراطية، القادرة على احتضان الاختلاف والاستفادة منه. الحرية المتحيّزة، في ممارسة مفكِّرة، ضمن نظام ديموقراطي حقيقي، منفتح دائماً على استقبال الاختلاف، هي الضمانة للسلم الأهلي، وسيادة الحوار، والخضوع الطوعي لمشيئة الأكثرية المبنية على اقتراع حر، والتزام حر، واختبار حر، لا أكثرية تتناسل عائلياً أو طائفياً أو عنصرياً. ما بيننا وبين هذا المرتجى، رحلة مخاض طويل، تبدأ بالتربية والتجرؤ على التحدي وعدم الامتثال للتقليد، والتعاطي مع الأمر الواقع المأساوي، لإدارته في اتجاه المستقبل، لا لاستعادته.
    بيننا وبين التسامح رحلة في الفكر الفلسفي، عندما يصل الإنسان في فكره وثقافته الى اعتبار الآخر أنه هو بطريقة أخرى. أي إن الآخر هو أنا بفكر مختلف.
    VIII
  • ـــــ أخيراً
    من يتذكّر مساجلات وحوارات الشيخ محمد عبده وفرح أنطون عن التسامح، يرثي لحالنا. إننا مدعاة بكاء واحتفال رثاء... فكم نحن بؤساء!!!
    * كاتب لبناني