توفيق المديني *
تطرح قضية العلاقة بين الديموقراطية والمجتمع المدني في الوطن العربي في سياق اتجاه عام أو نزوع عام إلى الأخذ بمبدأ الديموقراطية التمثيلية، منذ نهاية الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفيتي، وحرب الخليج الثانية التي طرحت قضية الديموقراطية وحقوق الإنسان في البلاد العربية، وشاع الاحتفاء بهما في أوساط المهتمين بالشأن العام، على اختلاف مشاربهم ومرجعياتهم الفكرية والإيديولوجية. وفي سبيل التعرف بهذا الاتجاه، واختيار مقولاته نحاول معارضته بمقولة المجتمع المدني الذي ينتج حياته السياسية أو وجوده السياسي في سياق إنتاج وجوده الاجتماعي وثروته المادية والروحية، لكي لا تظل مسألة الديموقراطية برانية ووافدة من الخارج، تحملها مصالح القوى الكبرى وارتساماتها في الوطن العربي.
فالنزوع إلى استعادة اللحظة الليبرالية والديموقراطية التمثيلية يكاد يشمل اليوم مختلف القوى الاجتماعية والأحزاب السياسية في بلادنا التي جعلت من الديموقراطية أدلوجة وشعاراً ومعياراً أخلاقياً قيمياً تقوم في ضوئه أنظمة الحكم، وبنى الأحزاب، وأنماط السلوك والعلاقات الاجتماعية السياسية. وحتى الأحزاب التي انفردت بالسلطة أصبحت هي عينها تتحدث عن الديموقراطية وحقوق الإنسان حين تتضارب المصالح، على الرغم من أنها حكمت ولا تزال، وأعادت مؤسسات الدولة وفق رؤيتها الحزبية الواحدية الضيقة، أي مركزية السلطة، ونفي مبدأ المؤسسات، ومبدأ التداول أو المشاركة، فطبعت الدولة بطابعها الإيديولوجي الشمولي، وباتت إيديولوجيتها بمنزلة دين جديد للدولة يستبعد سائر الايديولوجيات الأخرى، ويقمعها. وقد انعكس ذلك على بنية المجتمع العربي في البلدان التي خضعت لحكم الحزب الواحد، لجهة سيادة أنظمة الحكم الشمولية المنتهكة لحقوق الإنسان، التي تقودها «الزعامات الملهمة»، والتي أخضعت مؤسسات الدولة لسلطة الحكم، حيث اقتصر دور السلطة التشريعية والسلطة القضائية وأجهزة الإعلام والقوات المسلحة وغيرها على حماية النخب الحاكمة والترويج لسياستها، وكنموذج هناك العراق وتونس والجزائر.
وقد تحوّل المجتمع العربي بعد اختراقه وتكييف بناه الاجتماعية أو تنسيقها ــ انطلاقاً من ارتباط أنظمة الحكم العربية بمراكز الرأسمالية الغربية، واختيارها طريق التنمية الاستهلاكية المشوهة التابع في إطار البقاء كجزء تابع للاقتصاد الرأسمالي العالمي، حيث أدى ذلك في ظل العلاقات الاقتصادية غير المتكافئة إلى وقوع الدول العربية في أزمات اقتصادية خانقة تحمّل الطبقات الشعبية إسقاطاتها السلبية والمدمرة، في ظل توزيع غير عادل للدخل القومي، والإنفاق المتزايد على التسلح، وانخفاض شديد في معدلات الانتاج، وعدم اهتمام أنظمة الحكم العربية بالمشاركة السياسية، وتدهور الديموقراطية وانتهاك حقوق الانسان حين تركزت السلطة في أيدي الأقلية المستغلة التي تستخدم أسلوب القمع والقهر للحفاظ على سلطتها وتكريس استغلالها للحفاظ على مصالحها الخاصة ــ تحول هذا المجتمع إلى جمع أو حشد غير منتج من أفراد استلبت فعاليتهم السياسية، وصاروا مربوطين بالدولة ــ السلطة، رباط الأمن أولاً، وبالصفة التوزيعية غير العادلة للدولة التي احتكرت مصادر الثروة والقوة والسلطة في المجتمع ثانياً.
وكان من الطبيعي أن يقود ذلك كله إلى سيادة حالة الاستلاب السياسي التي يعيشها المجتمع العربي الذي تهمشت قواه الاجتماعية وفقد فاعليته السياسية وانخرط في نمط الاستهلاك الذي عممته الرأسمالية الحديثة المتوحشة، وبات أقرب إلى المجتمع الجماهيري منه إلى المجتمع المدني المنتج.
لذلك يأتي النزوع الديموقراطي بل الليبرالي على قاعدة المجتمع الجماهيري، والسلطة المتسيدة، التي تتبنى بدورها جوانب من هذا الخطاب الليبرالي، وتمارس بعض الطقوس الكاريكاتورية والمصطنعة للديموقراطية الفوقية والمراقبة، كالقيام بالانتخابات المزورة التي أصبحت وظيفتها إضفاء شرعية على النخب الحاكمة عينها، وذلك في إطار غياب الديموقراطية الفعلية، وتجميل وجه بعض النظم الشمولية التسلطية.
وأمام إخفاق الأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة في صنع العملية الديموقراطية ــ باعتبار أن الديموقراطية قضية مجتمعية، وبسبب من بنية هذه الأحزاب التي «تجعل النفوذ فيها يبدأ من القمة متجهاً إلى القاعدة، وهذا وضع مقلوب من الناحية السياسية والدستورية من شأنه أن يجعل نفوذ الزعماء في الحزب على الكتلة الشعبية مطلقاً أو شبه مطلق، ولا يسمح للجماهير هنا بمناقشة الزعماء والحساب».
أصبحت هذه الأحزاب موسومة بالسلبية السياسية، سواء من حيث ذوبانها في السلطة واندماجها في عالمها، أو من حيث معارضتها لها على أساس برنامجها نفسه، ورؤيتها عينها.
هذه السلبية تتصدى اليوم لإنتاج خطاب ديموقراطي لا يخرج من دائرته النخبوية الضيقة، ولا بد من الكشف عن مقوماته ومبادئه لتحديد العلاقة بين الديموقراطية والمجتمع المدني، وإن بصورة سلبية في المرحلة الأولى.
ولعل من أهم مقومات الخطاب الديموقراطي الشائع لدى الحركة السياسية العربية عدم وضع الديموقراطية في المجتمع المدني، أي وضعها في العلاقة الديالكتيكية بين المجتمع المدني والدولة الوطنية ــ القومية.
ذلك لأن هذه الحركة السياسية باستثناء حركة الإسلام السياسي التي تراوغ في مسألة الديموقراطية، وتهرب من استحقاقاتها، والتي اتخذت من الديموقراطية اسم الشورى الذي لا يفصح عن دلالته، وحمولته الايديولوجية، إلا في معارضتها، قد كفت عن كونها تعبيراً عن المجتمع، وباتت جزءاً من السلطة التي احتكرت العمل السياسي.
ولذلك تجدنا أمام مشكلة نظرية وعملية، قوامها خروج القوى السياسية ذات الإيديولوجيا العصرية والمناهج الحديثة من عالم المجتمع، وذوبانها أو إلغاء نفسها إيجابياً أو سلبياً في عالم السلطات الحاكمة، وبزوغ حركة سياسية إسلامية عميقة الجذور في المجتمع تطرح في الغالب أهدافاً ثورية (كالصراع ضد الإمبريالية الأميركية، والوجود العسكري الأميركي في الخليج، ومقاومة العدو الصهيوني، وتحرير فلسطين)، وتتبنّى في الوقت عينه مناهج تقليدية، وإيديولوجيا تقليدية، ونستثني من هذه الحركة: الجماعات الاسلامية المتطرفة التي تمارس العنف ضد المجتمع، والتي تعبّر بهذا الخيار عن أزمتها بوصفها حركات التعصب والعنف التي هي دون السياسية وخارج عالم السياسة، أو لنقل هي التعبير اليائس المتوافر عن حالة الاستلاب السياسي التي يعيشها المجتمع العربي. نقطة الانطلاق الأساسية الفارقة بين الخطاب الديموقراطي النهضوي، والخطاب الشائع عن الديموقراطية، هو خطاب الفكر السياسي الراديكالي الذي يربط أو يضع الديموقراطية تحت مقولة السياسية بوصفها فاعلية اجتماعية، وإنتاجاً لحياة المجتمع السياسية، أي حياته القومية، ويقوم على منطق الممارسة (البراكسيس)، أي على الديالكتيك ومنطق الصيرورة وعقل الواقع.
في هذا السياق تتمفصل المسألة الديموقراطية مع الملكية التي هي أساس الحقوق ومناطها، ومع التعارضات الاجتماعية الملازمة للوجود الاجتماعي، وفي سياق العلاقة الجدلية بين المجتمع والدولة، التي هي تشكل الوجود السياسي للمجتمع، وتجسيد الحرية بقدر ما تتفق مع مطالب العقل، أي بقدر ما تكون عقلانية.
وجدير بالذكر أن مؤسسات المجتمع المدني بفاعليتها السياسية تشارك أو تنتج فرص المشاركة في الدولة من خلال المؤسسة التشريعية أولاً، والمؤسسة القضائية ثانياً، ومن خلال سلطة الثقافة والإعلام ثالثاً، وهذه جميعاً قيود وضعها المجتمع للحد من هيمنة السلطة التنفيذية، ففصل السلطات هو أهم مظاهر الدولة الحديثة، ولنظامها الديموقراطي لأنه ليس من سبيل يتيح للشعب مراقبة السلطة التنفيذية والحضور في قراراتها وخياراتها سوى هذا السبيل.
في هذه الحيثية، المجتمع المدني هو المجتمع المندمج قومياً، أي المجتمع الذي ينتج آليات داخلية عقلانية تحل مشكلة الأقليات، سواء منها الأقليات الإثنية أو الدينية أو المذهبية، فالاندماج القومي هو سيرورة نمو المجتمع المدني، وتحرير الأفراد من قيود البنى والعلاقات التقليدية ما قبل القومية والتزاماتها. إن تحرير المجتمع من الأطر ما قبل القومية هو محصلة تحرير أفراده، فكلما انعتق الفرد من واحد من هذه الأطر كالعائلة الممتدة أو العشيرة أو المذهب الطائفي... الخ، يزداد اندماجه في الفضاء الاجتماعي المشترك، لذلك تبدو العلاقة وثيقة بين النظام الديموقراطي وتصفية البنى والتشكيلات والعلاقات ما قبل القومية، فتحرير الأفراد من الأطر الاجتماعية التقليدية هو المدخل الضروري لاكتساب صفة المواطنين، صفة الأعضاء في المجتمع والدولة، والعضوية هنا تعني الفاعلية والمشاركة السياسيتين.
* كاتب تونسي