مشير باسيل عون *
في تداول الأزمنة اللبنانيّة استقرّ في وعي اللبنانيّين اليوم أنّ الأحزاب اللبنانيّة غير الطائفيّة عادت لا تستقطب الجماهير على قدر استقطاب الأحزاب اللبنانيّة الطائفيّة. ولهذا التحوّل الخطير في بنية الوعي السياسيّ اللبنانيّ أسبابه الدينيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، ونتائجه السياسيّة البعيدة المدى. والظنّ الشائع أنّ هذا التحوّل حصل في أثناء الحرب اللبنانيّة الكبرى (1975ــ1990). ومن بعد أن أخفق اللبنانيّون المسيحيّون في إدارة التنوّع اللبنانيّ في أثــناء الاستقلال الأوّل، ومن بعد أن أخفقوا في مواجهة تداعيات الصراع العربيّ الإسرائيليّ في أثناء الحرب اللبنانيّة الكبرى، ومن بعد أن أخفقوا في إدراك معاني المواجهة العالميّة بين الإيديولوجيا الغربيّة المستكبرة والإيديولوجيا الإسلاميّة الأصوليّة المدافعة في زمن الوصاية السوريّة، يُخفقون اليوم أيضاً في إدراك معاني الانقسام الحادّ الذي يصيب العالم العربيّ، وهم أشرفوا على التنعّم بالاستقلال اللبنانيّ الثاني بعد اندحار المحتلّ الإسرائيليّ وخــــروج الجيش السوريّ.
وحين أتحدّث عن الإخفاق المسيحيّ في لبنان، لا أعظّم النجاح الإسلاميّ في لبنان. غير أنّ اللياقة الأدبيّة تقتضي أن يتحدّث اللبنانيّون المسلمون عن إخفاقهم، وأن يتحدّث اللبنانيّون المسيحيّون عن إخفاقهم. وحين يعترف الجميع بالإخفاق، يتصارحون ويتعاونون في بناء لبنان الغد. وحين أتحدّث عن الإخفاق المسيحيّ في لبنان، لا أقصد إخفاق الشهادة الإيمانيّة المسيحيّة الفرديّة، ولا إخفاق المسعى المسيحيّ الصادق في بناء الإنسان اللبنانيّ، ولا حتّى إخفاق الالتزام الوطنيّ المسيحيّ الفرديّ الصادق في الدفاع عن الوطن اللبنانيّ وعن الفرادة اللبنانيّة في الشرق العربيّ. الإخفاق المسيحيّ في لبنان يتجاوز مسألة الانقسام المسيحيّ الحزبيّ في الصراع الشرعيّ على السلطة، ويتجاوز قضايا التنوّع في فهم مقولات الإدارة السياسيّة اليوميّة للشأن اللبنانيّ العامّ.
وحين يعترف المرء بأنّ الهويّة اللبنانيّة ارتبطت في نشأتها بالخصوصيّة المسيحيّة في الشرق العربيّ، فإنّ الإخفاق المسيحيّ لا بدّ له من أن يصيب عمقَ التصوّر المسيحيّ لمسألة الوجود التاريخيّ المصيريّ في الأرض الشرقيّة العربيّة. لذلك كان الإخفاق المسيحيّ في نظري إخفاقاً في صياغة مشروع حضاريّ مسيحيّ عربيّ يضمن للبنان وللّبنانيّين المسيحيّين البلوغ إلى أمرين هما من المسيحيّة المشرقيّة بمثابة المعنى واللبّ والمقصد. الأمر الأوّل هو أن يحمل الوجود المسيحيّ السياسيّ الحرّ في لبنان معنى الرسالة المسيحيّة في الشرق العربيّ. والأمر الثاني هو أن تضمن الرسالةُ المسيحيّةُ في الشرق العربيّ ديمومةَ الوجود المسيحيّ السياسيّ الحرّ في لبنان. وبهذا الربط بين الأمرَين قد أكون أنشأت بعضاً من الإرباك المنهجيّ. لكنّ حقيقة القضيّة المسيحيّة في لبنان هي أنّ اللبنانيّين المسيحيّين يرغبون في أمرين قد لا يلتقيان التقاءً عفويّاً في مجاري الزمن الإنسانيّ. فاللبنانيّون المسيحيّون يرغبون في المجاهرة برسالة مسيحيّة حضاريّة تثمر أطيب الثمار في تربة العالم العربي. واللبنانيّون المسيحيّون يرغبون في المحافظة على وجودهم السياسيّ الحرّ في لبنان، لأنّهم يعتقدون أنّ هذا الوجود هو ضمانة الإتيان بمثل هذه الرسالة. وإذا ما تفحّص العقل العربيّ الصافي حاجات العالم العربيّ، وجد أنّ المجتمعات العربيّة يُعوزها اليوم التوفيق بين قيَم الغرب العَلمانيّة العقلانيّة الديموقراطيّة الخالصة، وقيَم الشرق الإيمانيّة الوجدانيّة الخالصة. فالعرب لا ترتاح بالسليقة إلى المسلك الاجتماعيّ الغربيّ المتحرّر حتّى الحدود القصوى. ولكنّ الشعوب العربيّة، سواءٌ أدركت أو لم تدرك، تتوق إلى شيء من التحرّر الذاتيّ والاستقلال الفرديّ والتفتّح الوجوديّ والتذوّق الإنسانيّ المنعتق من الأنماط التقليديّة. وبذلك يتّضح أنّ المشكلة العربيّة هي مشكلة التوفيق. وقد كان في مطاوي التراث العربيّ الكثير من القدرة الضمنيّة على التوفيق. غير أنّ تواطؤ الأحداث السياسيّة خنق هذه الطاقة منذ عصر الانحطاط العربيّ.
فإذا كانت هذه هي المشكلة العربيّة الثقافيّة الأعمق، وكانت المشاكل السياسيّة الأخرى ترتبط بسياسات الهيمنة الغربيّة والاستكبار الصهيونيّ والفساد السياسيّ في أغلب الأنظمة العربيّة، فإنّ للمسيحيّة اللبنانيّة رسالةً ينبغي أن تضطلع بها في هذا الزمن الحضاريّ المضطرب. فالمسيحيّة اللبنانيّة مشرقيّة تشاطر المجتمعات العربيّة تحسُّسَها الوجدانيّ العاطفيّ وخفرَها الأدبيّ الأثيل وسموَّها الروحيّ التوحيديّ. والمسيحيّة اللبنانيّة تشترك في الاقتباس من الزاد الفكريّ الإنجيليّ الذي أثّر أيّما تأثير في حضارة الغرب المسيحيّة، فأثمر فيها ثمار الوثوق بالعقل الحرّ، والإرادة الفرديّة الخلاّقة، والمسعى الأخلاقيّ المتّكل على سلطان الضمير الفرديّ المستنير بأنوار الهدي الإلهيّ.
ومن ثمّ، فإنّ المسيحيّة اللبنانيّة يمكنها أن تضطلع بهذه الرسالة الحضاريّة التوفيقيّة في العالم العربيّ، سواءٌ عن طريق استثمار طاقات التوفيق المكتومة في التراث العربيّ، أو عن طريق ابتداع سبُل جديدة من التوفيق الملائم لأحوال العصر. ولكنّ الاضطلاع بهذه المسؤوليّة يقتضي مراعاةَ الشروط التاريخيّة البديهيّة في تاريخ الأمم ومسرى الأوطان وحراك المجتمعات. فالوطن اللبنانيّ هو الموضع الذي يتيح للبنانيّين المسيحيّين أن ينهضوا بمثل هذه المسؤوليّة الحضاريّة الرفيعة. غير أنّ الإخفاق السياسيّ المسيحيّ في لبنان لا يلبث أن يهدّد مصائر هذه الرسالة الحضاريّة. ولذلك نشأ في وعي اللبنانيّين المسيحيين خلطٌ مريع بين ضرورات الحفاظ على الوجود المسيحيّ السياسيّ الحرّ ومقتضيات الإتيان بمثل هذا الإسهام الحضاريّ الفذّ. فرأى بعض اللبنانيّين المسيحيّين أنّ المسيحيّة اللبنانيّة قادرةٌ على الاضطلاع بمسؤوليّتها الحضاريّة بمعزل عن شروط الوجود السياسيّ الحرّ، فيما ذهب بعضُهم الآخر إلى القول باستحالة هذه المسؤوليّة في وضع القهر السياسيّ والاستتباع السياسيّ والاستقالة السياسيّة.
وهذا هو، لعمري، الوضع التاريخيّ الذي استحدثته في لبنان تداعيات الصراع العربيّ الإسرائيليّ وتداعيات الصراع الإسلاميّ الغربيّ وتداعيات الصراع الإسلاميّ الإسلاميّ، أي الصراع السنّيّ الشيعيّ. وإذا كان اللبنانيّون المسيحيّون يسترهبون اليوم الوضع القائم في لبنان، فلأنهم يدركون أنّ هذا هو الزمن الأخير الذي يُتاح فيه لهم الإتيان بفعل حضاريّ مميّز. وليس من الصعب على الباحث أن يستجلي حقيقة هذا الوضع. فمن بعد أن كان اللبنانيّون المسيحيّون أصحابَ الفعل السياسيّ في لبنان في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، أضحوا اليوم على مشارف الانقلاب إلى موقع الاقتبال الكرهيّ لأفعال الآخرين. ولهذا السبب بعينه ينبغي للبنانيين المسيحيّين أن يدركوا أنّهم مدعوّون إلى الحفاظ على حرية المبادرة السياسيّة، وهي الحرية التي تضمن لهم الحفاظ على وجودهم السياسيّ الحرّ، شرطِ الشروط في أداء الرسالة الحضاريّة الفريدة.
* أستاذ الفلسفة في جامعة الروح القدس (الكسليك)