يكاد يتفق الإسلاميون الشيعة، ويوافقهم أغلب الإعلاميين وبعض الباحثين، على مركزية الفتوى عند سرد تاريخ الجماهير العراقية والإيرانية تحديداً، وذلك بربطه بسلسلة من الفتاوى التي كانت تصدر من أعلى المراجع. فالفتوى هي بادئة كل حدث، ولولاها لما كانت هذه الجماهير تحركت أو قاتلت أو قاطعت، فيما يشكل غيابها تفسيراً لعدم حدوث ما كان يتوقعون حدوثه ولست ممن يميلون في الواقع إلى هذا النوع من السرد والتحليل السطحي، لأنه يبدو أن الكثير من المتابعين يتناسون أو لا يدركون سر العلاقة بين الجماهير والمراجع الشيعية. ولعل أفضل من يحلل هذه العلاقة لنا هو معلمنا الأصيل هادي العلوي، حيث إن الأحداث كثيراً ما تثبت صحة تحليله.
مظلة نجفية؟

يلاحظ أن أغلب القوى الأساسية المشكلة لـ«الحشد الشعبي »، كمنظمة بدر وعصائب أهل الحق وحزب الله، أخذت تركز على أبوة المرجعية النجفية لها أخيراً، وأنها تقاتل بناءً على الفتوى التي أصدرها السيد علي السيستاني، المرجع الأعلى للشيعة. من المؤكد أن فتوى السيستاني بمقاتلة هجوم تنظيم « الدولة» كانت قد حققت دعماً حقيقياً لـ« الحشد»، فهي التي فتحت الأبواب على مصراعيها لرجل الشارع العادي غير المسيس ليلتحق بالمعركة، فرأينا تلك الحشود الكبيرة المتحمسة، كذلك أخذت الروضات الحيدرية والحسينية ترسل كل يوم الكثير من المساعدات التي تعين المقاتلين في الجبهات، وهو جهد وطني مشكور من دون شك وسيذكره الناس بالخير.
الشهرودي كان أول مرجع
يصرح بخيانة كل عراقي يسعى أو يقبل تقسيم العراق

ولكن في تصوري أن الدور الذي أعطي لفتوى السيستاني وله شخصياً كأب للجهاد ومنقذ العراق الحكيم، مجاف للحقيقة ومليء بالأساطير. وعلينا أن نفهم أن اعتراف قوى «الحشد » بفضل السيستاني عليها وبأبوته وبأن الشرعية التي تحركها متأتية من فتواه نابع من حاجة هذه القوى لغطاء سياسي عراقي ينفي عنها تهمة التبعية لإيران ومراجعها، وهو أمر مفهوم.
ولكن علينا أن نتذكر أن معظم هذه القوى لا يتبع مرجعية السيستاني ولا أي من مراجع النجف الأخرى، بل هم موزعون على مراجع عدة مثل الخامنئي، والحائري، والشهرودي. كذلك إن أغلب هذه القوى الوطنية والثورية لم تكن يوماً معنية بآراء المرجعية النجفية « المهادنة» للاحتلال الأميركي والنظام الرسمي العربي. فهم خالفوا هذه المرجعية حين قاتلوا الاحتلال الأميركي ولم ينزلوا عند رغبتها بالمشاركة في العملية السياسية العراقية. وهذه القوى نفسها لم تنتظر فتوى ورأي المرجعية حين قررت أن ترسل بعض أبنائها لنصرة أشقائهم في سوريا.
وهذه القوى نفسها تحركت منذ اليوم الأول لسقوط الموصل بيد تنظيم « الدولة» عبر استدعاء مقاتليها والإعداد للحرب، كما ذكر لي شخصياً أحد مقاتلي « العصائب» في جبهة جرف الصخر. وهو أمر مفهوم باعتبارها مسألة أمنية كبرى لا يمكن أن تنتظر هذه القوى وإيران وبقية المحور فتوى المرجع الأعلى السيد علي السيستاني قبل البدء بالتحرك، ورغم أن فتوى السيستاني لم تتأخر كثيراً وهي من جلب أكثر عدد من المتطوعين لـ«الحشد »، إلا أن الدعوة الأولى (وللأمانة التاريخية) لحمل السلاح والتصدي كانت من قبل حكومة نوري المالكي الموصوف بالضعيف والفاشل والأميركي والإيراني الخ... كذلك إن الشرارة الأولى للتظاهرات ونزول الناس إلى الشارع، التي شكلت طليعة الحشود الشعبية للمدنيين، قد ظهرت على شاشات التلفزة العراقية قبل الفتوى.
ما أود أن أصل إليه هنا هو أني غير مقتنع بأن نهج المرجعية النجفية الحالية هو مرجع هذه التنظيمات الأول. فالمرجعية النجفية الحالية هي نتاج المرحلة السكونية التي مرت بها عقب تشتيت البريطانيين معظم المراجع الثوريين في أعقاب فشل ثورة 1920. بينما تنتمي التنظيمات الشيعية المقاومة لنهج الثورة الإيرانية الذي له جذور «ثورية نجفية تاريخية» أيضاً.

المرجعية والعنف الشعبي

لسنا هنا بصدد أن نحاكم على النيات ونقرر من أي منطلق نظر السيستاني إلى مسألة حمل الجماهير للسلاح وانتظامها في قوى شعبية مقاتلة ضد المحتل. ولكن من الواضح أن السيستاني لم يؤيد أي حركة عسكرية شعبية ضد حكم البعث ولا المحتل الأميركي. ولكنه حين ظهرت «داعش» أفتى بسرعة فائقة بالجهاد الكفائي عام 2014 عندما أدرك أن أبو بكر البغدادي سيأمر بهدم العتبات المقدسة ويسبي أهلها. وحينها أدرك أنه لن يحميه جيش الحكومة الضعيف ولا القوى الأمنية المخترقة، فقرر أن يفتي فتوى «الجهاد الكفائي» مستعيناً بالتنظيمات الشعبية المقاومة لتشكل نواة « المقاومة الشعبية المسلحة» أو «الحشد الشعبي». وما قام به السيستاني فعلياً أنه استعان بالقوى التي لم يبارك يوماً عملها المقاوم ضد المحتل أو ضد نظام البعث. ولا ننسى أن الهجمات الإرهابية، كحال سابقتها من تعديات جنود الاحتلال، لم تكن تستهدف سوى عامة الناس في الأحياء ذات الأغلبية الشيعية عادةً.
والملاحظ هنا أن العراقيين لم ينجحوا بطرد المحتل إلا بنهج العنف الثوري الذي لا يراه السيد السيستاني حكيماً. كذلك إن العنف على بشاعته هو ما حسم معركة بغداد سياسياً (من خلال جيش المهدي) وجعل متطرفي التنظيمات الأصولية يفكرون مرتين قبل أن يحتلوا أي حي في بغداد ويعلنوه إمارة إسلامية. ومع عدم أخلاقية ما جرى من عنف وجرائم راح ضحيتها آلاف الأبرياء من الطرفين، إلا أن حسم معركة بغداد الطائفية والأهلية منع تكرار سيناريو سقوط مدن وأحياء كاملة، كما حصل في الفلوجة والرمادي وتكريت، في يد أنصار تنظيم «الدولة». ولو أن العراقيين اكتفوا بالاعتماد على حكومتهم المخترقة والفاشلة وحليفها الأميركي، لكان غرب بغداد اليوم جزءاً من أرض « الخلافة».
حين غزت أميركا العراق عام 2003 كان أغلب العراقيين الذين تحدثهم سيسخرون منك إذا قلت إنك تريد أن تكرر تجربة حزب الله في جنوب لبنان لطرد الأميركي عبر حرب عصابات تستنزفه وتأخذ في الاعتبار ظروف البيئة العراقية. لا بل هناك من لا يزال غير مصدق ولا مقتنع بأن حزباً صغيراً نجح في قهر إسرائيل. ولأن معظم هؤلاء الناس غير مطلعين على فكرة تجربة حرب العصابات، ولم يعش أو يقرأ تفاصيلها وأمجادها عام 2003. فحمل السلاح لدى هؤلاء كان سيكون انفعالياً وفق تكتيك «ثورة العشرين» أو انتفاضة 1991 وينتهي إلى هزائم ومقابر جماعية.
وحسب علمي ليس هناك في النجف اليوم من يمكن أن نعتبره مرجعاً ثورياً يعيد إلى النجف دورها في عصر الانتصارات الذي أعلنه السيد حسن نصرالله.
من المراجع الذين قد تحتاجهم النجف ليواكبوا روح العصر، مراجع تحدوا الاحتلال كالمرجع كاظم الحائري وآية الله محمود الهاشمي شهرودي، ولكن العداء كبير لهم بين النخب الرجعية. ودعوني أحدثكم قليلاً عن الشهرودي، فهو مرجع عراقي ولد في النجف ودرس فيه وكان من تلامذة السيد محمد باقر الصدر. لكن الرجل رحّل إلى إيران من قبل نظام البعث وعومل شر معاملة، على الرغم من وطنيته وثقافته العالية. وأثناء إقامته في إيران تسلّم رئاسة أعلى سلطة قضائية في إيران وعمل على «إصلاحها بعدما تسلّمها حطاماً» حسب وصفه. وهو اليوم عضو مجلس صيانة مصلحة الدستور.
ما يلفت الانتباه في الشهرودي أنه كان أول مرجع (عقب سقوط الموصل) يصرح بخيانة كل عراقي يسعى أو يقبل تقسيم العراق. وهو قد سبق بذلك كل المراجع والسلطات، بما فيها المرجعية النجفية. كان تصريح الشهرودي الداعم للمقاومة وخطها بوضوح حول حرمة تقسيم العراق أكثر من رائع، لأنه قد جاء في وقت بدأت تعلو فيه الدعوات بترك سنّة العراق لمصيرهم مع «داعش» وعدم إرسال أبناء الشيعة ليموتوا هناك، ما سيعني تقسيم العراق بنحو كامل أو جزئي تحت مسميات الفدرلة، والاكتفاء بالقسم الجنوبي ونفطه.

كيف نفهم المرجعية والشيعة؟

في تصوري ليس هناك قانون يمكن أن نعتمده للحديث لفهم علاقة المرجعية بجمهور المؤمنين، ولكن لهادي العلوي ملاحظة في هذه المسألة، هي أن المتابعين للمسألة الشيعية والدينية عموماً في بلادنا يفشلون كثيراً في فهم أن المؤمنين - ودعونا نركز على الشيعة هنا - لا يتبعون تاريخياً المراجع الكبار لأعلميتهم و«قداستهم» فقط، بل يتبعونهم أيضاً للأدوار السياسية الكبرى التي يقومون بها للدفاع عن الأمة وقيادتها في مراحل الأزمات. أي إن علاقة الشيعة بمراجعهم ليست مبنية على الطاعة الدينية العمياء، بل هي علاقة مصالح بين قيادة وجماهير، في كثير من الأحيان يتجاهلون المرجع الأعلى ويقومون بما يرونه واجبهم في الدفاع ببساطة عن حقوقهم كما رأينا في حالة المقاومة العراقية ضد الأميركيين التي لم تنتظر مرجعية النجف، الأمر الذي كررته هذه الفصائل حين قررت التوجه للقتال في سوريا كما مرّ معنا.

النجف، مدرسة ثورية منسية

في الحقيقة لم تكن هذه هي المرة الأولى في العراق، فلقد سبق لأهالي النجف مثلاً أن تجاوزوا مرجعهم الأعلى السيد كاظم اليزدي الذي فضّل مهادنة الإنكليز عام 1918 عندما ثاروا بقيادة «جمعية النهضة الإسلامية» التي أسّستها مجموعة من الفقهاء أقل مرتبة من اليزدي، وقامت بانتفاضة النجف عام 1918 التي أدت إلى قتل حاكمها البريطاني، ما أدى إلى حصار المدينة واقتحامها في النهاية عسكرياً وإعدام بعض قادة الانتفاضة. لذا حضَّر العراقيون والشيعة تحديداً للثورة مرة أخرى، وتم لهم ذلك بعد عامين بما عرف بثورة العشرين (1920). ولكن هذه الانتفاضة لم تعمق كره العراقيين والشيعة للإنكليز وحسب، بل أنهت بشكل حقيقي شعبية وهيبة اليزدي بعيون معظم أهالي المدينة . لماذا؟ لأن الجو العام في حينها كان جو ثورة وكان الناس متحمسين ومقتنعين بضرورة الجهاد لطرد الإنكليز وتحرير العراق مما عنى تجاوزه.
لم تكن أجواء الثورة في النجف صدفة تاريخية، بل كانت نتيجة لتطور حالة وطنية ثورية معادية للاستعمار بدأت تنتشر في بعض المدن الإسلامية، وكانت النجف أحد أهم مراكزها. ويرجع هادي العلوي الفضل في نضوج هذه الحالة إلى تلميذ النجف الشهير جمال الدين الأفغاني.
وقد أسهم الأفغاني بتثوير المراجع، عجماً وعرباً، ما جعل النجف مدرسة لتخريج جيل من الوطنيين أثروا لاحقاً بجيل الخميني ومن بعده. وقد لا أبالغ إن قلت إن أدبيات وقيادات المقاومة الوطنية الشعبية العراقية والإيرانية معاً منذ نهاية القرن الـ19 نبعت من النجف، لكن التاريخ الرسمي العلماني العراقي والعربي لا يعترف بها بل يعاديها.
وكما خرج الأفغاني من النجف التي لم ترضِ طموحه وتطلعاته، خرج آية الله أبو القاسم الكاشاني. عاش الكاشاني أول حياته في النجف مع أبيه السيد مصطفى الكاشاني، وشهد فيها قيادة الفقهاء من خلال حركات وثورات جماهير من فلاحين وعشائر وتجار وطلاب ضد الاستعمار من دون أن ينتظروا إجماع الفقهاء أو رأي المراجع الأعلى منهم أحياناً. وذلك في أحداث مثل فتوى التنباك 1891، والمشروطة 1905، والجدل الحيوي النشط فيها حول ثورة 1908 ضد السلطان عبدالحميد، وفتوى الجهاد ضد الإنكليز 1914، وانتفاضة النجف 1918، وثورة 1920. وكان الكاشاني قد فقد والده السيد مصطفى بعد أن استشهد في إحدى هذه المعارك ضد البريطانيين والذي كان حسب تعبير العلوي من «صدور المقاومة العراقية» ضد البريطانيين.
وبعد استشهاد والده عاد الكاشاني إلى إيران، وأسّس له فيها بعد زمن قاعدة شعبية وصار له مقلدون وطلاب. ومع أنه لم يكن الأعلم ولا الأكثر شعبية ونفوذاً، إلا انه قرر أن يجاهر بمعاداة الشاه. فقام الأخير بنفيه إلى لبنان، ولكن مقامه لم يطل هناك حيث أثمر الضغط الشيعي على الشاه ليعيده. وفي مطار طهران كان باستقباله مئات الألوف من الشباب الوطني.
وما إن قرر رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق (1951-1953) أن يؤمم النفط الإيراني حتى وقف بجانبه بكل قوة وسير الجماهير في دعمه. وقيل وقتها إن المخابرات الغربية وجدت أن لا يمكن هزم مصدق إن لم يفك تحالفه مع الكاشاني. وبغض النظر عن مدى دقة هذه المقولة، فإن الخلاف دب بين الرجلين وتخلى المرجع عن الوزير فسقطت البلاد بيد الشاه... والغرب.
كان في إيران عشرات المراجع أهم وأكثر نبوغاً و«إيرانية » من الكاشاني، لكن الأخير مثّل مصالح الناس. كان يتبعهم مدفوعاً بهم وبالموجة الوطنية المعادية للاستعمار التي كانت تعم إيران منذ أكثر من نصف قرن، ولكن الجماهير نفسها التي قيل إنها حملت سيارته على الأكتاف عند عودته، تخلت عنه ولم تخرج لحمل تابوته حين مات. هل حصل ذلك لأنه تخلى عن مصدق أم لسبب آخر؟ ليس هذا موضوعنا، ولكن المسألة أن الكاشاني لم يكن مرجعاً مقدساً في نظر الشعب، إنما أنه تحول إلى «إمام لهم» حين وقف معهم في قضيتهم الوطنية وهم ساروا خلفه ذوداً عن أرزاقهم وأمنهم وكرامتهم. وبالمناسبة لم يكن الخميني أعلم فقهاء إيران، بل كان الطالقاني وشريعتمداري أعلم منه فقهياً، ولكنه قرأ حاجة الجماهير وفهم روح العصر.
ليس في النجف اليوم من هو بمستوى المسؤولية الثورية التاريخية إن صح التعبير. يحتاج العراق إلى مرجع من طينة الحبوبي والكاشاني، مرجع بوعي الشهرودي ووطنية كاظم الحائري. ولا يبدو المراجع الأربعة الكبار في النجف اليوم واعين للتغيرات الحاصلة. وإن لم يرتقوا للدور الوطني الجهادي المطلوب، فإن الزمن والجماهير ستتجاوزهم ولن يعود هناك معنى للحديث عن مرجعية وطنية عراقية وعربية إذا كان مراجع إيران وغيرها أكثر وعياً وأفهم بأمن العراق وكرامة أهله من عمائم النجف. ويحضرني هنا اعتراف نوري المالكي الأخير بفشل الطبقة السياسية وضرورة استقالتها، وهو على حق، وليتهم يصدقون القول ويرحلون.
* كاتب وباحث عراقي