خلافاً لتوقعات موضوعية أو رغبات ومصالح خاصة، فقد صمد الاتفاق الأولي بين طهران وواشنطن والذي من المرجح أن يستكمل، بشكل تام، في نهاية شهر حزيران المقبل. صمد هذا الاتفاق، مثلاً، برغم الاجتياح الحوثي لسلطة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي المدعوم من السلطات السعودية خصوصاً والخليجية عموماً. وصمد حينما اكتفت الحكومة الايرانية بالتنديد السياسي بـ«عاصفة الحزم» واجتهدت في السعي لتقديم اقتراحات لتسوية سياسية للأزمة اليمنية.
يشير ذلك الى عمق التحولات التي تتسارع في غير جهة وجبهة سياسية وامنية وعسكرية واقتصادية في العالم.
واشنطن، كالعادة، سباقة إلى استكشاف او اختبار سياسات جديدة وصولاً الى ارساء «عقائد» عامة على غرار ما افصح عنه الرئيس الأميركي باراك اوباما في مقابلة، حاوره فيها الصحافي الاميركي توماس فريدمان، اوائل الشهر الجاري.
التحديات والتحولات والمنافسة التي تواجهها الولايات المتحدة، هي ما فرض على واشنطن التفتيش عن اساليب جديدة للدفاع عن نفوذها ومصالحها، وهما، حتى الآن، الأوسع والأفعل حول العالم.
منذ تقرير لجنة «بيكر ــ هاملتون» بدأت تتبلور معالم سياسة أميركية جديدة

في هذا السياق، تمكن ممارسة تمرين استعادة شكلية للعبارة البريطانية الشهيرة في «وعد بلفور» المشؤوم على النحو الاتي: «ان ادارة الرئيس اوباما تنظر بعين العطف الى الطموحات الاقليمية الايرانية...»! يحصل ذلك ايضاً بسبب واقع، لم يغب يوماً، عن حسابات القوى الدولية وهو الموقع الجيوستراتيجي لطهران. وبسبب عامل مستجد، وهو حيوية الدور الايراني المتنامي التأثير والذي دفع البعض، في طهران، الى الحديث أخيراً عن استعادة لمجد امبراطوري سابق. ثم ان هذه الحيوية الايرانية قد تعاظمت في ظل حكومة الرئيس حسن روحاني «الاصلاحية» الراهنة والتي استأنفت حواراً مع مجموعة «5+1» بشكل مثابر ومصمم وخلاق وبدعم حاسم من المرشد السيد علي خامنئي.
بسبب إصرار الطرفين الأميركي والإيراني على المضي في الحوار حتى إنجاز تسوية ستؤدي، حتماً، الى تحقيق انفراج بين البلدين، استشعر اصحاب المواقع التقليدية الثابتة في السياسات الاميركية السابقة (إسرائيل والمملكة العربية السعودية خصوصاً) اشكالاً من الخطر سرعان ما فاقمتها الاحداث والصراعات الدائرة في بلدان عدة أهمها سوريا. لم يتأخر قادة العدو الصهيوني، بدورهم، في الاعتراض والمشاكسة وصولاً الى محاولة نقل المعركة الى الداخل الاميركي بسبب النفوذ الصهيوني هناك، وبسبب التنافس الجمهوري الديمقراطي على ابواب معركة الرئاسة الاميركية التي ستبلغ ذروتها صيف العام المقبل. لم تغير انتقادات واستفزازات رئيس الحكومة الاسرائيلية للرئيس الاميركي (خصوصاً خطابه في مجلس النواب الأميركي)، ولا الاحتجاجات والحملة الاعلامية السعودية، شيئاً في خطة الرئيس اوباما. على العكس من ذلك، فهو عمد الى الهجوم: هدد بسحب الدعم الأميركي للسياسات الاسرائيلية العنصرية والإجرامية ضد الشعب الفلسطيني (هذا اعتراف صريح بدعم قديم ومستمر لها!)، ووجّه صفعة مؤلمة وغير متوقعة لحلفائه الخليجيين حين طالبهم برؤية المخاطر الداخلية التي تهدد عروشهم قبل رؤية الخطر الخارجي! لم يكتف اوباما بذلك بل وجه دعوة لعقد قمة تجمعه مع قادة الخليج في 13 و14 ايار المقبل في واشنطن. بدت هذه الدعوة اقرب الى مذكرة جلب إثر تصريحات الرئيس الأميركي التي اطلقها في الحوار مع فريدمان!
منذ تقرير لجنة «بيكر ــ هاملتون» للنظر في «اخفاقات» خطة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن في العراق، بعد 3 سنوات من غزوه، بدأت تتبلور معالم سياسة اميركية جديدة. لقد أحلّ أوباما «عقيدة» جديدة مكان «استراتيجية الامن القومي» التي صدرت عن سيد البيت الابيض السابق في ايلول من عام 2002 والتي قاد تنفيذها فريق «المحافظين الجدد» الشهير والنافذ آنذاك.
في سياق هذه «العقيدة» اختبرت ادارة أوباما صيغاً اخرى جديدة و«سلمية» لتعزيز مواقعها او الدفاع عنها. هي تخلت عن التدخل العسكري المباشر واستبدلته بمحاولة إدارة الازمات والتناقضات بالأساليب السياسية وبالضغوط الاقتصادية وبالمناورات الامنية والعسكرية. وهي اختبرت، ولا تزال، أشكالاً من التحالفات وجدتها افضل وافعل: الدور التركي، التحالف مع الاخوان المسلمين، تغذية الصراعات ذات الطابع الاثني والديني والمذهبي، الضغط من أجل إحداث تغيير في الانظمة الاستبدادية والملكية الصارمة والهرمة بتشجيع تغيير فيها لمصلحة أجيال جديدة او طاقم سياسي جديد (العسكر، الاخوان المسلمون، ممثلون ليبراليون للقوى البورجوازية الكبرى...)، تطبيع العلاقات، مع انظمة وسلطات، كانت محكومة، لعقود طويلة، بالقطيعة أو بالمقاطعة والحصار والعقوبات والتهديدات (طهران وهافانا...).
يتيح النظر في العلاقات الاميركية ــ الإيرانية خصوصاً، استنتاج ان واشنطن، لم تهمل دور ايران الجيوستراتيجي في المنطقة في أي يوم من الايام: في مراحل العداء السابقة، وفي مرحلة الاحتواء الراهنة. شجّع واشنطن على ذلك حصول تقاطع مصالح للبلدين كليهما في محطات غير عادية: افغانستان والعراق. شجعها ايضاً ما اشرنا اليه من ثبات النظام الايراني وحيوية قيادته في مراحل العداء والتقاطع والانفراج. إضافة الى نجاحات الجمهورية الاسلامية على المستوى الاقليمي التي تؤهلها لأن تصبح قوة اقليمية عظمى، ان لم تكن الاعظم على الاطلاق، بسبب ما تملكه، أيضاً، من موقع وقدرات وثروات كما أشرنا سابقاً.
ثمة مؤشرات كبيرة على أن هذا المسار سيستمر بقوة رغم الاعتراضات الكبيرة من قبل قوى مؤثرة في الولايات المتحدة، ومن قبل قوى متضررة في منطقتنا بشكل خاص: العدو الاسرائيلي الذي يستشعر ضمور وظيفته وبالتالي تراجع قدراته على تحقيق المزيد من المكاسب او حتى المحافظة على بعضها السابق، وقيادة المملكة العربية السعودية التي اصبحت، بسبب سياساتها وبيئتها المحافظة والمولّدة أو الداعمة للتطرف والتكفير، عبئاً على الاستراتيجية الاميركية الجديدة.
اجتهد كل من قيادة واعلام المملكة السعودية، طيلة الأسابيع الماضية، في ابراز «القدرات الخاصة» للسعودية في اتخاذ قرار «عاصفة الحزم» وفي تنفيذه. رمى ذلك لتأمين عبور ناجح لامتحان ومتطلبات و«تحديات» استحقاق الدور الضروري في مرحلة اعتماد سياسية جديدة، من قبل إدارة أوباما، حيال منطقة الشرق الأوسط عموماً وحلفاء واشنطن خصوصاً. لن تكون هذه الخطوة كافية أو ذات قيمة ما لم تملك قيادة المملكة السعودية وحلفاؤها خطة متكاملة للتعامل مع الازمات ولمحاولة حلها وفق رؤية جديدة. المواضيع الخطيرة والكبيرة والشائكة موضوع الاختبار هي: الارهاب، الأزمة الفلسطينية، الأزمة السورية. هذا، طبعاً، فضلاً عن الأزمات اليمنية والعراقية والليبية والبحرينية و... الأزمات الداخلية التي تحدث عنها، من دون مواربة ومن دون دبلوماسية الرئيس الأميركي نفسه!
استناداً إلى التاريخ والتجارب لا يمكن التعويل كثيراً على حدوث انعطافة جذرية في السياسات والاستنتاجات الخليجية والرسمية العربية عموماً، بل إن الخشية كبيرة من أن تقود الصراعات الضارية القائمة اليوم إلى ما يستفيد منه العدو الصهيوني دون سواه. ثمة خسائر كبيرة، بل كوارثية، تدق أبواب الجميع.
فقط تحولات استثنائية تصيب سياسات كل المعنيين، ولو بدرجات متفاوتة، من شأنها وقف الخسائر المخيفة الراهنة والمتوقعة.
* كاتب وسياسي لبناني