نسيب حطيط *
عندما تعصف الشدائد بالأمة وحضارتها وتبدأ ركائزها بالتهاوي واحدة تلو الأخرى، يبقى حصن أخير هو «المقدس» في وجدان الأمة بالمعنى المطلق، والمقدس يمكن أن يتغير وفق العقيدة، ويصبح المقدس هو الرمز المعنوي والمادي الذي إن سقط، سقطت الهوية العامة للجماعة، وهوية الفرد. وأقدس الأقداس في تاريخ الشعوب هو كل ما يرمز إلى العقيدة ــ الرسالة المرتبطة بالخالق وهو «الإله» وفق كل معتقد ديني.
ويمكن أن تكون القداسة متعلقة ببشر اسمه «الرسول» أو «النبي» أو «الإمام»، ويمكن المقدس أن يكون بناء للتعبد، مسجداً أو كنيسة أو أي اسم يطلق على عمارة يدخلها المخلوق طاعة لمن يعبد، وتواصلاً مع منقذه أو وسيلة النجاة، ويمكن المقدس أن يكون كتاباً (قرآناً أو إنجيلاً أو توراةً..)، ويمكن المقدس أن يكون ولياً أو مصلحاً، لتتمدد القداسة لتصل إلى زعيم أو قائد أو شهيد، مع اختلاف في مرتبة القداسة وعقاب التطاول عليها أو هتكها، وحجم القاعدة من الجمهور العام الذي يثور أو يهب للدفاع عنها، وكذلك درجة الشدة في الاستنكار أو طلب الاعتذار.
وقد انفردت الصهيونية بالتمادي في التطاول على المقدسات والمحرمات وارتكبت المجازر الإنسانية والحضارية، وتجاوزت كل الحدود ضد المسيحية والإسلام وعلى كل المستويات وخاصة في عصرنا الحديث، من خلال أحداث كثيرة لا بد من الإضاءة على بعضها:
ــ على مستوى المقدسات الرمزية: فقد عبث الصهاينة منذ احتلال فلسطين بالقدس الشريف بمكوناته المسيحية والإسلامية من كنيسة القيامة إلى المسجد الأقصى، حيث أُحرق المسجد الأقصى في الستينيات، وبدأوا بالحفريات من حوله ومن تحته لإزالة كل رمز يتصل برسوليْ الله سبحانه (السيد المسيح والنبي محمد) صلوات الله عليهما، وبدأوا يوجهون الرأي العام والإعلام إلى هيكل سليمان وفق ما يزعمون أن المسجد الأقصى وكنيسة القيامة قاما على أنقاض الهيكل، ولا بد من استعادة الهيكل وبنائه، لتكتمل مسيرة اليهودية التي يؤمنون بها، ابتداء بدولة يهودية، فبناء هيكل سليمان، ثم خروج مسيحهم، وفق معتقداتهم، وصولاً إلى حصار أو محاولة افتعال الاعتداءات والحرائق في بيت لحم وكنيسة المهد، لاستئصال أي أثر يرتبط بالمسيحية، ثأراً لأسلافهم الذين قاتلهم السيد المسيح (ع) لانحرافهم ولصوصيتهم فارتدوا معتدين عليه وعلى أتباعه.
ــ أما على مستوى الأنبياء والرموز المقدسة: فقد حاولوا من خلال ما يسيطرون عليه من منابر الدعاية والإعلام والسينما والاقتصاد، أن يشوّهوا صورة رسوليْ الله عيسى ومحمد (ص). فالسيد المسيح شُوِّهت صورته بالأفلام الإباحية والغنائية (مادونا)، ورسول الله محمد (ص) عبر الكتب الدعائية التي تصوره رجلاً يبحث عن النساء أو قاتلاً يسفك الدماء، سواء من خلال الرسوم الكاريكاتورية وكان آخرها في الدنمارك، أو من خلال الماركات التجارية على الألبسة الرياضية أو الأحذية التي تتناول مفردات ورموز إسلامية، أو عبر تسويق بعض الألعاب العسكرية التي تستهدف المساجد كما حدث في أميركا. وما زال الجميع أيضاً يذكر تطاولهم على السيدة العذراء مريم (ع) واتهامهم إياها بالفحش والانحراف من خلال فيلم سينمائي، أو محاولاتهم تحريف القرآن والتطاول عليه.
وفي خضم الأحداث السياسية والعسكرية التي يعيشها العالم العربي والإسلامي، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، ينتهز الصهاينة التشتت الإسلامي والعربي، وتأييد المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية لهم، ليُخرّبوا المسجد الأقصى، والبدء بهدمه، وكسر الحاجز النفسي عند المسلمين لتقبل هدم المسجد الأقصى. ومن يسكت عن الأقصى وكنيسة القيامة يصبح تنازله عن فلسطين أو أي أرض أو رمز آخر طبيعياً وسهلاً.
لكن المحزن والمستغرب أن هذا العالم العربي والإسلامي والعالم المسيحي لم يحرّك ساكناً لحماية مقدساته، ولو ببيان أو تظاهرة أو اعتصام أو احتجاج أو سحب سفير، أو قطع علاقات دبلوماسية، أو اتصال هاتفي بين بعض الحكام العرب وحكام الكيان الصهيوني، وترك هذا العبء على الشعب الفلسطيني الذي ينوء تحت كل أشكال الحصار والقتل والتعذيب والسجن، وكأن المسجد الأقصى وكنيسة القيامة هما رمزان فلسطينيان، وليس للمسلمين والمسيحيين علاقة أو مسؤولية في الحفاظ عليهما أو ارتباط عقائدي ورمزي بهما، وهنا لا بد من التساؤل عما لو أن حاكماً أو ملكاً عربياً أو إسلامياً، تطاول عليه مواطن من شعبه، أو صحيفة أو محطة تلفزيونية، فماذا كان سيحصل لرد كرامة الحاكم أو الملك؟
أليس من حق وواجب كل مسلم أو مسيحي أن يقوم بما يفكّ أسر المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، أو يمنع عنهما الاعتداء؟ أين المنظمات والهيئات (منظمة المؤتمر الإسلامي، لجنة القدس، جامعة الدول العربية، البرلمانات العربية، الشعوب، الأحزاب الإسلامية، الفاتيكان، المؤمنون، الاستشهاديون)، أين كل هؤلاء، وأولى القبلتين وثالث الحرمين، ومهد السيد المسيح (ع) على شفير الدمار، فإذا سقطت المقدسات، فما الذي يبقى لتدافع عنه الأمة؟ أهو النفط... أم الحدود... أم النظام...؟؟
* سياسي لبناني