نجيب نصر الله *
تصعب قراءة التحولات السياسية الجذرية التي ضربت البنية اللبنانية وفرضت انتقال القرار اللبناني من يد دمشق إلى خصومها، مع ما صاحب هذا الانتقال من انزياحات غير بسيطة في الأمزجة السياسية للطوائف، من دون النظر إلى المناخ السياسي الدولي الذي سيطر عقب وصول جورج بوش الابن إلى موقعه الحالي في رئاسة أميركا، وتداعيات تفجيرات 11 أيلول 2001.
فوصول بوش أطلق عنان «الأحلام الإمبراطورية» الكامنة. وجعلها تبدو سهلة المنال، وخصوصاً مع التسليم الدولي النسبي بالقطبية الأميركية.
تسنى للرئيس الأميركي جورج بوش أن يملك من القوة العسكرية ما لم يتيسر لغيره من الأسلاف، في مختلف العصور. وفوق هذه القوة الهائلة، وبذريعة «رد الاعتبار» على هجوم 11 أيلول، تسنى له، أيضاً، أن يملك «تفويضاً» سياسياً دولياً مماثلاً، ضاعف عبره من عناصر وأسباب القوة الأصلية. حاصل القوتين جعله يتوسم في نفسه القدرة على إعادة «اختراع» العالم، من خلال إعادة صياغة، أو تشكيل الخريطة السياسية، وتالياً الاقتصادية لمجمل العالم، والسيطرة على الثروات ومصادر الطاقة،
واختار العراق بوابة أساسية يدخل منها لتحقيق مجمل ما في «مخيلته» من تصورات وأهداف، كان حدها الأدنى إطباق سيطرته المطلقة مرة وإلى الأبد وتكريس التفوق الأميركي في السيادة على العالم. فالعراق هو البلد الذي يملك الاحتياطي النفطي الأكبر في المنطقة، وربما العالم، وعبر السيطرة عليه، وعلى موارده النفطية، يتسنى الإمساك بأحد أهم مصادر الطاقة، وعبر هذا الإمساك أو التحكم، يتاح له فرض كلمته على أوروبا وآسيا، وتالياً التأثير في خياراتها ووتائر نموها.
صحيح أن السياق الهجومي الذي ميز سياسات جورج بوش والفريق المساعد بني في جزء منه على ذريعة 11 أيلول، إلا أن معالمه كانت قد برزت في وقت سابق عليها، وخصوصاً أن الأطروحات النظرية كانت قد أمست جاهزة وتنتظر من يتبناها ويعمل على تنفيذها. وهكذا، منذ اللحظة الأولى لوصوله إلى مركز الرئاسة بدأت معالم التوجه الجديد بالبروز، ساعدها في ذلك تقهقر «الحزب الديموقراطي»، وميوعة خطابه السياسي الداخلي، ومحاولات المزايدة اللفظية، وحتى العملية.
«الفوضى الخلاقة»، وصاحبها زلماي خليل زاد، وهي في الأصل مبدأ فيزيائي، كانت إحدى هذه الأطروحات السياسية التي وضعت العالم في قلب الفوضى الحقيقية، فاشتعلت الصراعات والحروب، وتفاقمت الأسئلة الوجودية التي انعكست بانغلاقات ثقافية وسياسية ودينية أشد، اخترقت المجتمعات، وخصوصاً تلك التي تعاني انسدادات تنموية.
السياسات الأميركية القهرية أسست حالاً من الخوف لفَّ العالم من أقصاه إلى أقصاه، وخيل للبعض أنه لا سبيل للتخفيف من وطأة الهجمة إلا بركوبها، فكان أن أُعيد فرز القوى على أساس آخر. ومن بعد «الممانعة» الأوروبية (الفرنسية تحديداً) في تغطية غزو العراق، انقلب الأمر إلى التحاق شبه كامل، فتبخرت الاستقلالية الأوروبية، التي عُول عليها، وكان يمكنها أن تحد من الجموح البوشي، وتحول دون انفلاش العنف، وخصوصاً أن قوة التصميم التي أبداها بوش أظهرت أن المشروع في سبيله إلى الانتصار وأنه لا عودة عن تطبيقه، فالتحق الكثيرون طمعاً بحفظ الذات وصوناً للمصالح.
ما يظهر اليوم على أنه «مغامرة» لم يكن وقتها كذلك. فالغزو الأميركي للعراق، وما سبقه وتلاه من كلام سياسي على مستقبل المنطقة العربية، أوحى أن المنطقة، ومن ضمنها لبنان، بصدد انقلاب حقيقي يطال كل البنى السياسية القائمة.
فالزخم الاستثنائي الذي تولد عن عملية 11 أيلول، وثبوت انتماء «المنفذين» إلى بعض بلدان المنطقة، منح الفريق الأميركي المحافظ المبررات الكافية ليعمل مبضعه في جسد المنطقة.
لبنانياً، لم يكن أمام وليد جنبلاط، وهو الشخصية البراغماتية الصافية، إلا أن يعيد النظر في حساباته التي كانت قد وضعته في وقت سابق في المعسكر السوري. وبالنظر إلى طبيعة المناخات السائدة، والاحتمالات المنذرة بها، لم يكن أمامه إلا أن يعيد بناء حسابات جديدة تلحظ العاصفة القادمة، وتبني على احتمالاتها، وهي الحسابات التي جعلته يقطع مع ماضيه في العلاقة «الممتازة» مع «البعث» السوري، ويسابق للفوز بحصة في التغيير الموعود.
إن من يستعيد المناخ الذي ساد في تلك اللحظة، يجد نفسه مجبراً على تفهم الانعطافة الحاسمة التي قام بها الزعيم الدرزي، الذي كان في مجمل تاريخه، وبدءاً من توليه قيادة «الحركة الوطنية» قد أعفى نفسه عملياً من أي تطلب وطني أو ديموقراطي أو قومي. أمانته لنفسه جعلته يحسم في خياراته، وخصوصاً أن البديل الذي لاح له في حال تحقق التغيير كان الخسارة.
بين قوة الأوهام وأوهام القوة سقط جورج بوش في مستنقعه العراقي. كان للمشروع الأميركي لو لم يُقاوَم في العراق أن يمتد إلى كامل جغرافيا المنطقة ولكان قد غير وجهها إلى الأبد، ولكان وليد جنبلاط اليوم «رابحاً» حقيقياً. لم تكن حسابات جنبلاط البراغماتية من دون معنى. كانت حسابات بالغة الدقة، ولأنها كانت كذلك، أخذت هذه الوجهة الحاسمة، سواء في القطع النهائي مع النظام البعثي، أو مع غيره من قوى وجدت نفسها موضوعياً، ومن غير ارادة، في الخندق نفسه الذي هرول اليه «البعث» بعدما استغني عن خدماته.
الأرجح أن الهجوم على لبنان كان مخططاً ومدبراً في وقت أسبق مما ذهب إليه الصحافي الأميركي سايمور هيرش. التعثر العراقي، إلى التعثر الفلسطيني، إلى عجز الاعتدال العربي، و(اللبناني) عن تنفيذ المهام التي أسندت إليه، فرض تقديم المواعيد الداخلية، كما فرض التدخل المباشر، فكانت حرب تموز التي أفضت إلى مفاقمة العجز، بدلاً من أن تفتح الأبواب.
قد تكون اللغة الجنبلاطية الجديدة التي تلت جريمة القتل الأخيرة، محاولة استدراك متأخر لهذا الواقع الجديد. واقع التدهور الذي يعانيه جورج بوش، بفعل ارتفاع الانتقادات الداخلية لسياساته، معطوفاً على الفشل العسكري الذريع في الميدان العراقي. وقد لا يتأخر الوقت قبل أن يتحول الفشل الراهن إلى هزيمة مدوية.
قرارات الحرب، كما السلم، أخطر من أن تترك لرجل واحد.
* كاتب لبناني