علي أمين جابر *
خلت نفسي وأنا أقرأ المقاطع المنقولة عن مقالة(**) الدكتور محمد عمارة في صحيفة (المصريون) المستقلة والمنشورة في جريدة السياسة الكويتية بتاريخ 11/4/2007، أني أقرأ لشيخ سلفي تكفيري لا همّ له إلا البحث عن باب وسبب مهما كان هشاً لتكفير هذا الفريق أو ذاك من المسلمين.
أما وأن الكاتب هو وجه من وجوه الفكر الإسلامي وأحد المنظّرين في الفكر الإسلامي وداعية للعقل وعضو مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر فإن الأمر محزن، ولا سيما حين يواجه المسلمون اليوم بشكل خاص مشاريع الفتن المذهبية والطائفية وهي معلومة المصدر وواضحة الأهداف.
هل وصلنا فعلاً الى لحظة سقوط الفكر والتنوير الذي كان دوماً يدعو إلى التعقل والوحدة والتواصل بعيداً من العصبيات العمياء أمام زحف الفتنة والاستعادة التاريخية الخاطئة لدى البعض؟ وهو مشهد غريب موحش للعقل والنفس ينبئ بانقطاع دفعي ونظرة عدوانية لمرحلة مشرقة عُرفت بالنهضة الحديثة من السيد جمال الدين الأفغاني وتلميذه الشيخ محمد عبده إلى الكواكبي وحسن البنا والميرزا النائيني والسيد محسن الأمين العاملي وغيرهم.. حتى لكأنه لا اتصال بهؤلاء في الفكر والثقافة والتطلعات وبالتالي في الحضارة.
هنا يفقد العالِم المفكر قدرة الإمساك بخصوصية اللحظة فتنصرم القدرة بتصرّم اللحظة نفسها وتتهاوى البصيرة وتتعاظم الاندفاعة المذهبية... أليس هذا معنى السقوط؟
هذا ما وجدته في كلمات محمد عمارة وهو يتحدث عن السنّة والشيعة لكأن الزمان دار دورته فعاد بنا الى الصدر الأول للإسلام ليقدم لنا قراءة لأحداثه منقوصة تُمذهب الأصل ولا ترد إليه فرعاً وتقفز فوق جملة حقائق يأخذ بنا بعيداً منها وعلى حين غرة، ويغرق بعد ذلك في خطاب فئوي يحتكر فيه التاريخ ولا يسمح لأحد غيره أن يكون له مكان فيه! وهو ليس مجرد لا اعتراف بالآخر بل إنكار له وتجهيل وسلبه أية فضيلة. إنه نفي الوجود المستفاد من روح الإلغاء التي غذّت هذا العقل الى اليوم وتحضُرنا من التاريخ مقولة (كونوا نحن أو لا تكونوا)، ثم يحدثنا بعد ذلك عن الحضارة.
وهو من جهة يقدم لك القداسة التي يؤمن بها، ومن الحق أن تقبلها أو لا تقبلها، فإذا لم تقبلها وكان لك فيها رأي، أسقط حرمتك ونسبك إلى الأسطورة والمجهول والمعلوم...
وإني أقدّر وبكل موضوعية وصراحة أن هذا الموقف المستهجن جاء نتيجة ما سمي ظاهرة التشيّع المبالغ فيها في بعض البلدان، ومنها مصر والمغرب العربي، التي تشهد إقبالاً من الفئة الشبابية والمثقفة المتحمسة للقضايا الدينية والقومية، قوّاها وزادها الإعجاب بالاستقلالية العالية وشجاعة الموقف للجمهورية الإسلامية في إيران والانتصارات التي أحرزتها المقاومة الإسلامية في لبنان، وكلاهما يحمل هوية الإسلام الشيعي. ومن المعيب طبعاً أن يشكل ذلك تبريراً لسقطة من هذا النوع حتى لكأن الانتقال المذهبي الذي قد يحصل عند أتباع كل مذهب من مذاهب المسلمين هو انتقال الى كفر، فيما إذا كان حصراً انتقالاً الى مذهب أهل البيت (عليهم السلام).
ومع ذلك لو غضضنا النظر عن هذه المسألة الخطيرة التي تعني ما تعني في الوعي التاريخي عند المسلمين، فإن جملة ملاحظات عاجلة لا بد من تسجيلها على ما جاء في المقالة:
أولاً: يعترض الدكتور عمارة على مقولة إن التشيّع ارتبط تاريخياً بالثورة والمقاومة لحكام الجور، وإن أهل السنّة كانوا مستسلمين، ومن حقه حينئذ أن يرد عليها بتوضيح يتناسب مع حقيقة هذه الدعوى، التي يبدو أنها تقويم وقراءة لبعض المتشيّعين، وهذا شأنهم وشأن الدكتور عمارة أن يرد.
وهي قضية أيضاً ترتبط بالفقه السياسي والعلاقة بالسلطة ومشروعيتها. لكن ما فعله الدكتور عمارة أنه ذهب ليُمذهب الفتوحات الإسلامية وكل بطولات المسلمين وبشكل يثير العجب ليضعها في الإطار السني وينفي للشيعة كل دور فيها فيقول (كانت ـــ أي الفتوحات ـــ رصيداً للتاريخ السنّي في ميادين الفتوحات والبطولات والتحرير للأرض والضمير)، ولا أدري بأي معيار حسب كل المسلمين في صدر الإسلام أنهم من أهل السنّة وهل كان التصنيف المذهبي على هذه الكيفية التي ندركها اليوم، حاضراً آنذاك ليسهل هذا الفرز الذي يتحدث عنه؟! وهل الشيعة لا يتولون الصحابة المخلصين والمجاهدين، كما يزعم، ثم يستثني منهم الزيدية لغاية يعرفها الكاتب ونعرفها نحن؟!
ثانياً: في سياق حديثه عن أهمية الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في الفكر السنّي ودوره في تأسيس الدولة الإسلامية يقول (والذي لولاه ـــ بتوفيق من الله ــ لكان الشيعة يعبدون حتى الآن النار التي كان يعبدها أجدادهم المجوس)، وهذا إسفاف وتجاوز عجيب للروح العلمية والموضوعية وتحريف مفضوح لحقيقة من حقائق التاريخ. إنه يريد القول إن الشيعة ليسوا عرباً والتشيّع حصرٌ على الإيرانيين وهذه فرية أخرى وسقطة ثانية تُحسب عليه، فالتسنّن عربي والتشيّع فارسي ولا أدري أين سيضع السنّة غير العرب حينئذ!.
إن التشيّع نشأ أولاً في البيئة العربية (اليمن ـــ البحرين ـــ لبنان ـــ العراق)، لينتقل بعدها وعلى فترات زمنية متباعدة إلى إيران.
وبقطع النظر عن النقد التاريخي الذي قد يوجّه الى الفتوحات وما جرى على الأقل في بعضها من تجاوزات تُحسب على أصحابها ويبرأ منها الدين، فإن الفضل في نشر الدين يعود أولاً الى قوة القيم الإسلامية وملاءمتها للفطرة الإنسانية ولجهاد المجاهدين ووعد الله تعالى بالنصر وتحفزهم لنشر الدين، ولا ينسب كل ذلك لحاكم مهما بلغ. وكما أخرج النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) العرب المشركين من الظلمات إلى النور، أخرج الفرس المجوس وغيرهم (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). فهل يصح أن يُقال إن أصل الشيعة المجوسية وأصل السنّة الشرك وعبادة الأوثان؟! ثم إن هذا خلط بين المذهب والقومية، فهل المطلوب بدعة جديدة هي مذهبة القومية أو قومنة المذهب؟!.
ثالثاً: ليس خفياً على أحد اختلاف النظرة بين السنّة والشيعة الى بعض الصحابة، وهذا يعني أن قسماً كبيراً من الصحابة يجمع المسلمون على تبجيلهم واحترامهم والوثاقة بهم. هذه هي الحقيقة لكن الدكتور عمارة يكتب ويقول (إن الذين يكفرون بجمهور الصحابة ويلعنونهم فإنهم الفقراء في التاريخ والفقراء في الأمجاد والفقراء في كل ما يعتز به الإسلام والمسلمون). إن الاختلاف في النظرة لا يعني عند الشيعة التكفير واللعن كما يزعم، وقد صدرت مواقف واضحة، كان آخرها من الإمام الخامنئي، صريحة في رفض هذا الأمر وحرمته وتأكيد وحدة المسلمين مع حق كل مسلم في أن يحتفظ بتقويمه ورأيه في هذه المسألة أو تلك...
رابعاً: إن الحديث عن تكفير الشيعة للخليفة عمر بن الخطاب ووصفه بما ذكر ليس إلا دعوة الى التقاتل والفتنة، فمن يتحمّل ذلك؟ وإذا كان أبو لؤلؤة مجوسياً وقاتلاً للخليفة فلماذا يقدّسه الشيعة ويبنوا له مزاراً؟! إنها أسطورة تُضاف إلى أسطورة أخرى كأسطورة السبئية، وفي الإمكان حينئذ وضع أي سلوك في حجمه الطبيعي ولا تُحسب فعلة فرد أو جماعة على فريق بأكمله من المسلمين، والشواهد حاضرة لدى الفريق الآخر: أليس بعض السنّة امتدح قاتل الإمام علي(ع) عبد الرحمن بن ملجم وجعله من خير البرية ونظم في ذلك شعراً؟ ألم يكتب بعضهم عن «أمير المؤمنين يزيد بن معاوية» وهو قاتل سبط النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الإمام الحسين (عليه السلام) والذي فعل ما فعل من موبقات في حق الكعبة المشرّفة والمسجد النبوي الشريف، وطُبع الكتاب ووُزّع في إحدى الدول العربية المسلمة؟
ألم يكتب عبد الحليم عويس في (بنو أمية بين السقوط والانتحار) يقول عن يزيد (وأياً ما كان الأمر فلم يكن يزيد كما وصفوه بل هو من الطبقة الأولى من التابعين وعنه قال عبد الله بن عابس: (إذا ذهب بنو حرب ذهب علماء الناس)؟! ولا ندري حال سند هذه الرواية وأين محل يزيد بين علماء الإسلام!.
كان الأجدر بالدكتور ألا ينساق الى عصبية مقيتة في مرحلة صعبة أحوج ما تكون فيه الأمة إلى التآلف لمواجهة مشروع الشرق الأوسط الأميركي ومخاطر الكيان الصهيوني، ودعم قوى الممانعة والمقاومة في الأمة.
إن الأخطر من السقوط السياسي في العالم الإسلامي اليوم هو سقوط الفكر والعقل.
* أستاذ في الحوزة الدينية
** نُشرت مقالة الدكتور محمد عمارة في صحيفة «المصريون» بتاريخ 9/4/2007، وعلى موقع «آفاق» الإلكتروني.