ناصيف قزّي *
لا بد لنا، وقبل أن نتحدَّث عن الثقافة، ثقافتنا اللبنانيَّة وهمومها، وما يمكن أن نقترحه من أفكار وتصورات لإخراجها من عثار أوقعتْها فيه أقلام الزمن الهزيل، ونظريات جهابذته وعناوينها المدوزنة على إيقاع إسفافاتهم... الزمن الذي بات التصحُّر السياسيُّ فيه عنواناً، والشحُّ المعرفيّ نهجاً، والبؤس الكيانيّ فلسفة... وفوق ذلك، فالأخلاق والأعراف وحتى القوانين، تنوء فيه تحت أثقال الاستبداد المفرط والارتهان السافر والنفاق الموصوف... وقلب الحقائق والمعادلات كما الصفحات في كتاب هجرته الأحرف مع السنين.
لا بد من أن نتذكَّر وإياكم، حرباً كان لها قَبْلُ... فقد بدأت في الثالث والعشرين من نيسان عام 1969 بمعارك بين الجيش اللبناني من جهة، والفصائل الفلسطينيَّة المسلَّحة من جهة ثانية، في المدن اللبنانيَّة كافة. وصار لها بَعْدُ... فهي لم تنتهِ بدخول «قوات الردع العربيَّة» في خريف عام 1976... إذ تشظَّت حروباً، لنحملها في ذاكرتنا، وشْماً أبدياً لا يُمحى!
لم أفهم الكلام الذي باح لي به ضابط ارتباط سوري في شتاءِ عام 1976، من أنَّ «إقامتنا في لبنان ستكون طويلة... وطويلة جداً». وكنت، يومذاك، واحداً من المنذورين للدفاع عن الحياة والأحياء، في أعظم «تجربة بيضاء» ضدَّ الحربِ وآلة الحرب. كان ذلك بُعَيد سقوط الدامور والجيَّة في يد «القوات المشترَكَة»، في 21 كانون الثاني 1976.
وكم كنت ساذجاً في ظنّي أنَّ مدَّة بقاء ضباط الارتباط السوريّين، الى جانب اللبنانيّين والفلسطينيّين، قد تطول، وربما لعدَّة أشهر.
لكنَّ الأحداث الأمنيَّة تلاحقتْ، بعد ذلك، واستمرَّت خمس عشرة سنة، استُشهد خلالها من استُشهد من اللبنانيّين وغير اللبنانيّين، من عامَّة وقادة على السواء... سقط المئات من أبناء الجبل المسيحيّين الآمنين إثر اغتيال الزعيم الدرزي كمال جنبلاط على طريق الجبل، وغُيِّب الإمام موسى الصدر، رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، في ليبيا، قبل أن يضطرَّ أبو عمَّار، الزعيم الفلسطيني، إلى اللجوء الى تونس، في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ومنها الى فم التنِّين... وقد ذهبتْ الأوهام بـ«القوى المسيحيَّة» الى حدِّ الانتحار، إثر اغتيال الرئيس المنتخب الشيخ بشير الجميِّل، قائد «القوات اللبنانيَّة»، في صيف عام 1982. وكانت «حرب الجبل» عام 1983... وكان «التهجيرُ العظيم» من قرى وبلدات المتن الأعلى وعاليه والشوف... التهجير الذي انتهى بسقوط إقليم الخروب ومنطقة شرق صيدا في 28 نيسان عام 1985، بعد أقلّ من سنة ونصف سنة على «حصار أبناء الجبل المسيحيين في دير القمر» لمدة تجاوزت ثلاثة أشهر... ليكتمل بذلك مشروع الفرز السكانيّ والتقسيم الذي راود، ولا يزال، بعض أمراء الحرب يومذاك.
وكانت «مهمَّة ضباط الارتباط السوريّين التوفيقيَّة» بين أطراف النزاع، قد تحوَّلت، بموازاة تلك الأحداث، من مهمَّة عسكريَّة في إطار «قوات الردع العربيَّة»، الى انتشار للقوات السوريَّة المسلَّحة، العسكريَّة والأمنيَّة، في المناطق اللبنانيَّة كافة، لتُمسي سلطة وصاية، بلا منازع. وكانت حروب كثيرة قد نشبت بين تلك القوات، والقوات المشتركة اليساريَّة ــ الفلسطينيَّة، آنذاك، عند تخوم بلدة روم، وفي منطقة صوفر ــ بحمدون، ثم عند مدخل صيدا الشرقي وفي طرابلس، قبل أن تتحوَّل اللعبة وتتبدَّل الأدوار، لتقع «حرب المئة يوم» على الأشرفية عام 1978، و«معركة زحلة» عام 1981... ومعارك عدّة مع الجيش اللبناني... توَّجتها تلك القوات، بعد زمن من النكسات والحروب الداخليَّة، باجتياح قصر الرئاسة في بعبدا في 13 تشرين عام 1990، عندما أطاحت العماد ميشال عون، رئيس الحكومة اللبنانيَّة الشرعيَّة، آنذاك، وأطاحت معه أعظم تجربة عرفها تاريخنا المعاصر، لاسترجاع الوطن من غاصبيه، والدولة من القوى الميليشيويَّة المعطِّلة لمؤسساتها، عبر تشكُّل حالة لبنانيَّة فعليَّة بعد زمن من التشرذم والاقتتال. وما لبث أن تقاسم، بعد ذلك، أمراء الحرب، الوطن، باسم «اتفاق الطائف» الذي أوقف المدفع من دون أن ينهي الحرب... ومعها مرحلة سوداء من تاريخنا المعاصر.
أحداث كثيرة وخطيرة ما زالت تطرح تساؤلات قد تلقي الضوء، فيما لو تعمَّقنا في شرح دلالاتها، على ما نحن فيه اليوم من اختلاف حول المعنى الذي للبنان، وحول الأسس والمرتكزات التي تقوم عليها الدولة اللبنانيَّة. وقد جاءَ اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي سرَّع مسيرة الاستقلال، على ما قاله الجنرال عون، بتوقيته وأبعاده ومراميه، وسلسلة الجرائم البشعة التي أعقبتْه، فطاولت رموزاً سياسيَّة وإعلاميَّة، ليعيدَ الى الأذهان مسلسل الاغتيالات السياسيَّة التي طاولت الطوائف اللبنانيَّة كافة، بدءاً من اغتيال معروف سعد، «عميد الشهداء»، وصولاً الى الشيخ بيار الجميِّل، مروراً بكمال جنبلاط وطوني فرنجيَّة والرئيس بشير الجميل والرئيس رشيد كرامي والرئيس رينيه معوض وداني شمعون وإيلي حبيقة وجورج حاوي... وكوكبة من المفكرين والصحافيّين، من سمير قصير الى جبران تويني، وقبل ذلك، سليم اللوزي وكمال الحاج ورياض طه وحسين مروة وآخرين... ناهيك عن تلك التي طاولت الرموز الدينيَّة، من تغييب الإمام موسى الصدر الى اغتيال المفتي حسن خالد، مروراً بالمونسنيور خريش والشيخ صبحي الصالح وغيرهم... واغتيال القادة الفلسطينيين... ناهيك عن الاعتقالات والنفي... وما لحق بالقوى المناهضة للسياسات القائمة في لبنان من ظلم. ولن ننسى بالطبع، ما كان لآلة الحرب الإسرائيليَّة من دور في قتلِ اللبنانيّين وتدميرِ القرى والبنى التحتيّة، منذ ما قبل اجتياح عام 1978 وصولاً الى «حرب تموز» الأخيرة، مروراً باجتياح عام 1982 وتردُّداته.
إذا كنا نعيد سرد تلك الأحداث المؤلمة، في الذكرى الثانية والثلاثين لاندلاع «حرب السنتين»، فلا نفعل ذلك لنكء الجراح ــ وجُرحنا، نحن أبناء الجبل، ما زال مفتوحاً ــ بل لاستخلاص ما يمكننا استخلاصه من عبر.
ألم يكن الجهل والتضليل والتفرّد والتسلّط والتعامل مع الغرباء على حساب الوطن وأبنائه، وما الى ذلك من آفات، سبباً لحالة الانحلال السياسيّ، والتهافت الثقافيّ، التي ما زلنا نقبع فيها، على الرغم من زوال الاحتلال وانتهاء زمن الوصاية؟
فماذا فعلت حكومات الطائف، التي لم تبنِ الدولة ولا الإنسان، سوى أنَّها راكمت الدين العام بحجة بناء الحجر... وهي مستمرة حتى الآن، في سياسات التفرُّد والاستئثار والإلغاء؟ ثم، هل يمكن أن يصنع السلام الحقيقيّ من شارك في صناعة الحرب، تخطيطاً وتعبئةً وتحريضاً وتمويلاً؟
من هنا، يجب أن نعي أهميَّة الدور الاستثنائيّ الذي يضطلع به الجنرال ميشال عون تحديداً، ومعه التيّار الوطني الحرّ، من خلال مساره السياسيّ العام، ومن خلال التفاهمات التي أقامها، وتلك التي يسعى لإقامتها... الدور الذي يهدفُ، في ما يهدف، إلى إعادة العلاقات الى طبيعتها بين اللبنانيّين.
وهل بغيرِ هذا التلاقي الطبيعي يمكنُ إلغاء مفاعيل الحرب وذيولها؟ وهل من ثقافة أهمّ من تلك التي تسعى لإعادة اللُحمة الى مجتمع موحَّد في ذاتيَّته، متناغم في تنوُّعه، ومنسجم مع تاريخه؟
وإذا بدا من تحديدنا للثقافة أنَّها محشورة في باب الخصوصيَّة، فهي ليست بالضرورة مقولبة، أو هي «ثقافة جماهير» Culture de masse، تلك التي تدخل في باب الأيديولوجيا. على عكس ذلك، فالخصوصيَّة الثقافيّة، ومهما ضاقت دائرتها، إنما تدخل في باب التنوع الثقافي الذي هو مصدر غنى للمجتمع البشري. إنَّ أيَّ ثقافة، إذا ما توِّجت بالانفتاح، تستحيل حالة بنّاءة، بحيث تكسب من الشموليَّة ما يكفيها لتأخذ بعداً إنسانياً.
وفي هذا الإطارِ يندرج فعل الانثقاف Inculturation، أي التداخل الثقافي، الذي هو في أصدق مراميه، وبعيداً من كلِّ أشكال الاستعمار والانتداب والوصاية والتسلُّط وأحديَّة القرار الدولي، حالة تناغم وتكامل بين الشعوب. وهذا ما يجعلنا نرى في العولمة Mondialisation التي هي نزوع نحو الانتظام العالمي، والتي نميِّزها عن التعولم باتجاه أحادي Mondialisme (أو الأمركة إذا شئت)، نرى في هذه العولمة حالة راقية للتلاقي والتفاعل والتكامل بين شعوب الأرض، وتعميم ما من شأنه أن يفيد البشريَّة جمعاء. إن نظرة كهذه، فيما لو اعتمدتْها دول القرار، لانتظم الناس وتدبَّروا أمرهم بالعدل والقسطاس... وكم كان أغنانا عن أن ينقسم العالم من جديد بين منتديين: واحد اقتصاديّ Forum économique وآخر اجتماعي Forum social.
إن خصوصيَّة الثقافة لا تسقطها حكماً في الأحاديَّة والعنصرية والأصوليَّة. فالثقافة، وإن هي ثقافة جماعة أو شعب أو أمَّة أو حضارة، هي، لجهة انفتاحها وبعدها الإنساني، حالة جامعة.
هكذا، فإذا كان ثمة ثقافات مغلقة، فالثقافة لنا هي نزوع معرفيّ ذات بعد إنساني.
وإذ نؤثر مفهوم التنوُّع على التعدُّد، نرى أن ثقافتنا، نحن اللبنانيّين، هي خلاصة ما عرفه هذا المشرق من ديانات وحضارات. هكذا، وعلى الرغم من كوننا جماعات دينية متنوعة، لكل منها «خصوصيَّتها»، فإنَّ لنا ثقافتنا اللبنانيَّة الجامعة، والتي تفصِح عن وجدانِنا التاريخيّ، قل ذاتيَّتنا.
أما عن بلورة تلك الثقافة، فلا تتمّ إلا بإعادة استنطاق التاريخ، وتجميع المعارف والعلوم، منذ الفينيقيّين الى يومنا.
وأما الغايةُ من ذلك فهي، الى إبراز الذاتيَّة التاريخيَّة للبنانيّين، التأسيس لإعادة بناء الإنسان في لبنان، بهدف الارتقاء به الى حالة المواطنة التي لا تتعدَّد فيها الولاءات. وبالتالي، الى بناء مجتمع متناغم تتجسَّد فيه الحقيقة الإنسانيَّة المطلقة على أكمل وجه، لتقوم دولة القانون التي يتساوى فيها الناس في الحقوق والواجبات. عندئذ، وعندئذ فقط، يصبح في إمكاننا أن نسقط ذهنية التفرقة ومشاريع التقسيم والكنتنة وما إليها من أوهام...!؟
هكذا، وتأسيساً على ما تقدم، وكي نسترد دورنا الطليعي في هذا المشرق، وكي لا تبقى أجيالنا في حالة إرباك وضياع وانهزام، وكي لا تبقى ثقافتنا على المحكّ، نقترح إقامة سلسلة محاضرات متخصِّصة (المحاضرة ــ المشروع)، على غرار ما فعلته «الندوة اللبنانية» في مرحلة قيام الدولة اللبنانية بعد الحرب العالميَّة الثانية، لتظهير تلك الثقافة، بأبعادها كافة، وترسيخها في نفوس أجيالنا الجديدة، وذلك بإعادة رسم ملامح شخصيَّتنا اللبنانيَّة في عمقها الحضاري، بعد زمن الانمحاء الممنهج الذي تعرَّض له مجتمعنا طوال سنوات المحنة، من جهات الكون الأربع. تلك مهمة ملقاة على عاتق النخب اللبنانية... النخب التي لا يمكن أن تعيد تأسيس لبنان على ما بنى عليه العقل الميليشيوي، في العقود الثلاثة الأخيرة، من أوهام وأضاليل... وبعضها ما زال يحاكي أذهان من في السلطة اليوم.
يبقى أن طموحنا الثقافيّ يكمن في العمل على إخراج مجتمعنا من الذهنيَّة التي كرَّستها الحرب وأمراؤها... ذهنية المصالح الطائفيَّة والفئويَّة وتقاسم النفوذ... بغية الوصول الى قيام مجتمع مدنيّ على أساس مفهوم المواطنة، سعياً الى بلوغ الدولة العلمانيَّة.
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيَّة