نجيب نصر الله *
لا يمكن الركون الى المظاهر. المظاهر خادعة، وخصوصاً في السياسة، حيث المعنى في المضمر، أو المستور. ربما هي الصدفة التي تجعل من مستهدَفي الأب «الراحل»، هم أنفسهم مستهدَفي الابن. غـــــــــير أن الواضح أن آليات الاستهداف العنيفة السابقة قد تراجعت بعض الشيء، لمصلحة آليات استهداف ربما أكثر دقة، ولكنها حتماً أقل ذكاء. وهذا إنجاز استثنائي يسجل للرئيس الشـــــــــــاب الذي بقي عند وعوده في التغيير، أقله تغيير الأسالــــــــــيب. فالشـــــــــكل الجماهيري، أو العشوائي، في الاستهداف لم يعد قائماً إلا بحدود يقال إنها ضيقة. كذلك فإن «أريحية» السماح بإقامة المحـــــــــــاكمات وإصدار الأحكام، يعكس حقيقة وعود «الإصلاح» المقطوعة، وهي وعود صادقة أُريدَ من إطلاقها حصراً تجديد شباب النظام البعثي الذي يثقل على كاهل سوريا.
لا يستقيم التعليق على الحكم الصادر على الناشط ميشال كـــــــيلو من غير الأخذ بهذه الملاحظة، ملاحظة الشوط الكبير الذي قطعه الرئيس الشاب بشار الأسد في مسعاه لقوننة، أو تقييد الاستباحة التي كانت قائمة أيام الوالد الراحل. الفوارق بين العهد(ين) بارزة ولا تحتاج الى دليل. يكفي النظر إلى علنية الجلسة التي أصدرت الحكم ليتم تبيان الفارق، وهو فارق نوعي، وإلا لما تمت الجلسة أصلاً، ولما أُذيع الحكم على عكس التقاليد الفذّة التي كان أرساها الأب، فقد سجلت الصحافة حضوراً لأصدقاء كيلو وعائلته، ولحضور ديبلوماسي غربي وعربي. وفي ذلك ما يبعد عن الابن ومعه الفريق الأمني والسياسي المختار تهم الاستبداد أو الديكتاتورية، التهم التي لم يُعنَ الأب يوماً بدفعها عن نفسه، فقد كانت واحدة من أسلحته في تثبيت دعائم حكمه المستمر.
الظروف والملابسات «العلنية» التي أحاطت بتجريم كيلو، وفي مقدمها السماح بإقامة المحكمة، تمنح الأسد الابن فرصة القول المؤكد بالقطع مع الأساليب التي ميّزت عهد الأسد الأب، ويمكنها منحه سمعة مختلفة، لا بد من أن تثمر بإعادة وصل ما انفصم من علاقات غربية وعربية.
ثمة قطع واضح في الممارسة. أيام الأب هي غير أيام الابن. التقاطعات بين الاثنين لا تتعدى الشكليات، والعبرة في المضمون. فالمحاكمات العلنية المفتوحة منذ تسلم الابن مقاليد الحكم دليل حاسم وبيّن على حقيقة الاختلاف الذي يرقى الى مرتبة التجديد، وهو ربما «التجديد» الوحيد الذي كانت تحتاج إليه سوريا التي عانت ما عانته من جمود، قارب التكلّس، في الرؤى والأساليب وحتى الأدوات.
إنها الضرورة الوطنية عينها، تلك القابضة على الحياة السورية التي فرضت اعتقال ميشال كيلو وفرضت محاكمته. وبسبب من الضرورة أيضاً، كان أن زُيّن الحكم السياسي الصادر عن المحكمة البعثية بالحشد اللغوي المعروف نفسه، من مفردات الخواء النوعي. والقاموس السياسي البعثي نفسه، الذي منه استُلّت كلمات الإدانة في حق كيلو، يكشف عن حقيقة أنه بات، فضلاً عن عدم صلاحيته للإجابة عن أسئلة الواقع السوري الكثيرة، عقبةً كبيرةً تهدد المستقبل السوري، وتمنع عنه فرصة استعادة أو استئناف السياق السياسي والديموقراطي الذي قطعه انقلاب عام 1963.
لا شك في أن الواقع السوري القائم اليوم يشكل في أحد جوانبه صورةً مكثفةً عن مجمل الواقع العربي العام، الذي يتأرجح منذ سنين طويلة بين خطاب قوموي لا تعوزه التفاهة، وممارسات تطفح بالتهافت النوعي شكلاً ومضموناً، إلا أن ذلك لا يلغي الحاجة الى ضرورة معاودة تأكيد استحالة الاستمرار، وخصوصاً أن التخبّط والفوضى وفقدان الوزن وفشل التنمية هي النتائج الوحيدة الناجمة من هذا الواقع، واقع الإقصاء السياسي والاقتصادي والثقافي.
ربما أُريد من الحكم البعثي على كيلو، أن يكون حكماً انتصارياً، يعيد للنظام «المحاصر» اعتباراً داخلياً مفقوداً، وخصوصاً أن ذيول الحراك السياسي الذي انطلق عقب رحيل الأسد الأب، لا تزال حاضرة، وتهدد بالانبعاث مجدداً. أما التوقيت فأُريد منه، على جاري التقليد، أو أن هذا ما يوحي به، إقامة صلة (سرية) بالإنجاز الذي أبدعه أخيراً وليد المعلم بلقائه وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس.
كان واجباً على كيلو أن يوسّع من أفق نشاطه، وأن يلحظ خطورة المرحلة التي تستوجب الوقوف خلف القائد الشاب، الذي أجبرته الظروف، ظروف الأمة، وظروف سوريا، على قطع برامجه المهنية الخاصة، والعودة لمتابعة «الرسالة الخالدة» التي كلفت الأب الراحل ما كلفته من تضحيات. لكن كيلو، شأنه في ذلك شأن رياض الترك وعارف دليلة وفاتح جاموس ورياض سيف وياسين الحاج صالح وفرج بيرقدار وغيرهم، عمل هو الآخر على استغلال اللحظة السياسية وانشغال النظام بمقارعة الأعداء من أجل الترويج لما يعتبره النظام ترفاً اسمه الديموقراطية.
الأرجح أن هذا النظام «الحريص» على الشعور القومي من الضعف، وعلى نفسية الأمة من الوهن، أراد من حكمه على كيلو ما لم يعد ممكناً، وخصوصاً أن ما كان يصحّ في زمن الأسد الأب لم يعد يصحّ في زمن الأسد الابن. فالإمكانات التي كانت للأب، والتي مكّنته من أسباب سلطة أتاحت له التعقيم السياسي الكامل، غير متوافرة للابن. لعل الابن يحاول القول، سراً، إن في إمكانه البناء على الخط نفسه الذي شقّه الأب. سلسلة الأحكام التي طالت كيلو ورفاقه تندرج في هذا الإطار المحدد.
التجريم الجديد الذي طال كيلو يؤكد الحاجة الى الأخذ بالمبادىء التي اقترحها إعلان بيروت ــ دمشق. الإعلان هذا يشكل المخرج الوحيد الممكن لتجاوز الانسداد الخطير الذي تعانيه سوريا ومعها لبنان. التعامي عن هذه الحقيقة سوف يقود حتماً الى مفاقمة الأخطار، وهي في الأصل أخطار داخلية.
الوقت «السوري» ينفد، والهجمة الاستعمارية التي تريد النيل من المنطقة، والمترافقة مع تعاظم الانسداد السياسي والتنموي الذي يشكل اعتقال كيلو ورفاقه الآخرين نموذجاً معبّراً عنه، تُلزم بالتغيير.
إنها لمفـــارقة محزنة ومؤلمة أن يأتي تجريم ميشال كيلو متزامناً مع تكريم دريد لحّام.
* صحافي لبناني