نشر ناشطون على صفحاتهم صوراً لمدينة تكريت وهي تتعرض لقصف الطيران الأميركي دون أن يخفوا سعادتهم بأنّها «منوّرة». بينما لم يتورّع ناشطون آخرون عن نشر صور أجساد أطفال صعدة ضحايا الغارات السعودية كجثث لروافض تجب إبادتها. لكن ما يجب التوقف عنده هو خطب صلاة الجمعة لفقهاء مصريين، في بلد معروف بالتسامح الديني والطيبة، تدعو الله أن يبيد الفرس والروافض على خلفية ما يحدث في اليمن. وهذا مؤشر خطير على أنّ التطرّف المذهبي لم يعد مقتصراً على جماعات مؤطّرة ومؤدلجة، بل إنّه يجتاح الشارع العربي البسيط ويدخل كل بيت.
فالشعوب العربية، وهي تعاني عقدة الدونية والهزيمة التاريخية، ربما وجدت في خطاب «التحالف العربي» المتنمّر ضالتها، وهي تشهد، للمرة الأولى في تاريخها، ممالكها وحكوماتها تجتمع على عدو واحد هو في لاوعيّها سبب كلّ الذل والفقر والمهانة القوميّة التي تلحق بها يومياً.
عانى العرب الكبت الجمعي, وهم يعانون من عجز أنظمتهم وذلّها وانكسارها أمام العدوّ الحقيقي لأمتهم. وشهدوا على أبشع مظاهر الوحشيّة تُمارس على أجسادهم ومدنهم ومستقبلهم، من دون أن تستطيع الأنظمة العربية المواجهة ولو بالحدّ الأدنى، واليوم يستفيقون على قرارات سريعة وطائرات حربية متطوّرة وتكنولوجيا شديدة الحداثة في مختبر حربيّ حقيقي، وفي مواجهة عدو بديل هو الزنديق المجوسيّ الرافضيّ سبب كلّ الشرور في إسقاط جمعيّ لغضب لم يجد له متنفساً عبر عقود. فلا البوصلة ولا الهدف هو ما يهتّم الجمهور لأجله، بل إرواء تعطشّه الغريزي للثأر من عقدة الدونية. فمن السهولة بمكان الزجّ بالروافض العرب في خانة العدو، لأن الرافضيّ في اللاوعيّ القوميّ والمذهبيّ العربيّ هو شعوبيّ خبيث يُنكر على العرب فضلهم وتفوّقهم، إلى ما هنالك من هلوسات لا تشذّ عنها كلّ الشعوب التي لا تشكّ بتواصلها مع السماء، وليس العرب خصيصاً. لقد جرّمت النازية في مرحلة من مراحل نشوئها اليهود باعتبارهم عدواً ضعيفاً من السهل التصويب عليه، وحمّلتهم مسؤوليّة إخفاقات الأمة الألمانية لتُنهي بحملات الإضطهاد المعروفة. فهل يؤسّس النظام العربي فعلا لإستخدام الشيعة كوقود لمحرقة؟ وهل يقود التوجّه الرسمي العربي إلى إنعزال الجيوب الشيعية في مجتمعات مُعسكرة مرتبطة كليّاً بإيران؟ وهل يحتاج العرب فعلاً إلى جيوب معادية لكياناتهم في داخل أحشائهم؟
قد يبدو التساؤل قاسياً. لكن، وفي ظلّ خطاب مذهبي عام هو منطق العلاقات الاقليمية في هذه المرحلة، وهو أيضا بطبيعة الحال ناتج مفاعيل الصحوات الإسلامية المستمرة منذ عقود، فإنّ دوراً إعلامياً هادئاً يقوم على خطاب مدنيّ وتهدئة هيجان الهلوسات الراديكالية على صعيد شعبي ومجتمعي يبقى خياراً ممكناً. فالعداء للعنصرية الصهيونية قد يؤدي دوراً هاماً في استثارة الوعيّ القوميّ، من دون أن يثير أي حساسيات، ما دامت الإهانة الإسرائيلية للعنصر العربي ماثلة ومتواصلة، وهي تشير إلى ذاتها كلّ يوم على أنّها العدو، كحالة غير قابلة للإلتباس. إننا نشهد شيوع الخرافة والأسطورة على أنّها حقائق قادمة، وأنّ المذبحة الكبرى لا بدّ آتية في تكرار مملّ للخطاب الكاثوليكي ــــ البروتستانتي عشيّة المذبحة الكبرى التي حصلت بالفعل، ليكتشف بعدها العالم أنّ الهلوسات هي من صنعت المذبحة. ولئن كان هذا دليلاً على أنّ مجتمعاتنا لا زالت في طور طفوليّ من عمر الصراع، فإنّ استغلال الجهل والتخلّف يبقى وسيلة ارتزاق للجشع الرأسمالي للولايات المتحدة الأميركية بمشاركة الأنظمة البائسة التي لا تتخذ من ماليزيا أو سنغافورة مثالاً، بل توهمنا بحروب الآلهة والشياطين. وهم يعلمون أنّه في سياسات العالم الواقعي لا آلهة ولا شياطين، بل تبادل مصالح وإرساء توازنات. فمن سيتّعظ؟