بات واضحاً الآن أنه لم يعد كافياً أن يعادي العرب والمسلمون إسرائيل ليكونوا على جبهة واحدة. إسرائيل إذا، المعركة معها، هي استحقاق مفرد في مسار لم يعد يصح اختصاره بها. ما يحدث الآن يقول شيئاً واحداً: حان الوقت لشجاعة الاعتراف، حان الوقت لنحتفل بانتصاراتنا وبإخفاقاتنا على السواء ولنعلن هذه الإخفاقات معالم لا بديل منها في دينامية النضج الحضاري. لتساعدنا أرواح الشهداء وسماحتهم في القول إنه لا حصرية واضحة للعيان لليد الإسرائيلية في سائر محطات المقتلة البشعة في الشام والعراق واليمن. فجأة، صار للكتب المدرسية الشريرة مخالب وهاهي تغرسهم الآن في أقرب عنق طازج لرافضي أو لنصراني أو لمطلق مسلم غاب عن باله أن يكون مطابقاً لمقاسات كئيبة أُخرجت على عجل ورُميت بين ظهرانينا.
بأقل قدر من البهلوانية، يمكن القول بأن إيران الدولة حققت وتحقق العديد من الإنجازات في غير مكان ولكن مشروع الجمهورية الإسلامية الأم يواجه العديد من الأسئلة التي ليس من المجدي مطالبة الإمام الخميني بالإجابة عنها بقدر ما هو ملح أن يتصدى لها ورثة الثورة ورعاة نصها المؤسس. آنذاك، لم يكن العالم جميلاً بالتأكيد لكنه كان على أقل تقدير أليفاً ومرتباً، وأبعد ما يكون عن أن تثير إصطفافاته السياسية تحدياً أخلاقياً لشخصية مبدئية كالخميني. كان الموقف من القضية الفلسطينية هو ملاك الحق والباطل، وعلى طول الخط راكمت الجمهورية الإسلامية الوليدة نفوذاً وحضوراً عربياً وخاضت غمار العداء مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي عموماً على مدى ما يزيد عن أربعة عقود. معلومٌ أن كل اختصار هو ابتسار في مكان ما، لكن مقولة أن إسرائيل هي غدة سرطانية ونسب المأزق البنيوي الذي يكابده المسلمون إلى مجرد عارض لهذه الغدة يملك أن يقول أولويات السياسة الإيرانية الخارجية بأقل قدر من الابتسار والتعسف.
شكلت أحداث «الربيع العربي» اختباراً قاسياً لهذه الفرضية، ما إن تفلتت الشعوب من قمع حكامها حتى دبت الفوضى والتفت كل مكون إلى أقرب «آخر مختلف» وأمعن فيه تكفيراً وتقتيلاً وأحياناً إبادة. لم تسجل ذاكرة هذا الربيع أن شعباً عربياً واحداً تحرر للتو من حاكمه عمد إلى ملء دلو من الماء ورميه على إسرائيل لتغمرها السيول! ذلك السيناريو الذي ربما حلم به الإمام الخميني في مقولته الشهيرة. حتى شرارة الربيع العربي نفسها، لم تطلقها غضبة عربية لدماء أطفال غزة، الرغيف كان وقود الحراك الشعبي والأرجح أنه لا يزال ضالته الأساس وبانتظاره تعمل الشعوب العربية على سفك الدماء على سبيل تجزية الوقت ربما.
ليس مطلوباً من رجالات الثورة الإسلامية في إيران قرارات من قبيل تجميد صلاحية شعارات أو حتى تجاوزها بداعي عدم ملاءمتها كمقدمة لوأدها، فتلك مهام قيمية لطالما أنيطت بالوعي الجمعي للمجتمع ومن التهور أن تتصدى لها قيادة مهما امتلكت من رصيد. في المقابل، ليس صحياً البتة أن تتصدر استراتيجية أمة فتية كإيران مقولات أقل ما تتهم به أنها تأبى أن تنصاع لمعطيات الواقع وترفض أن تقرأها بنزاهة. بمعنى آخر، من المفيد القول بأن الأمم تخلق المسافات بين الشعارات وآلياتها التنفيذية ليس من باب النفاق بقدر ما هو نتيجة لتعدد مصادر التحديات ومحدودية الإمكانيات وهذا ما يؤدي إلى نتيجة واحدة هي خلق الأولويات والاستعداد الدائم لإعادة إنتاجها وتدويرها.
هؤلاء المسلحون في الجولان السوري الذين بدأوا يتعاونون مع إسرائيل ويطببون جرحاهم لديها ينظمون بطريقة ما (على افتراض حسن النية!) أولوياتهم ويخلصون إلى أن الجيش السوري والمقاومة في لبنان أسوأ بما لا يطاق من إسرائيل. تالياً، ماذا عن المشهد المصري كمثال. مرت عقود طويلة منذ اتفاقية السلام مع إسرائيل، بالرغم من ذلك يرفض هذا الشعب التطبيع بجميع أشكاله وبإخلاص منقطع النظير. هذا الشعب نفسه الذي كره بشكل مخيف لاحقاً بسواده الأعظم الإخوان المسلمين وكان جاهزاً ليهلل لنظام حاصر غزة ومنع عنها أبسط متطلبات الحياة من حليب الأطفال إلى الإسمنت لبناء ما هدمته إسرائيل. أيضاً هذا السواد الأعظم يهلل الآن للرئيس السيسي وهو يبدي استعداده لإرسال طائرات حربية لقصف شعب شبه أعزل إلا من كرامته وأسماله البالية. الخلاصة؟ حسناً الخلاصة ليست بالغة التعقيد، إنها متلازمة الاستجابة للتحديات بالغرائز حصراً تصدر عن شعب يعرف أن يكره ويعرف أيضاً أن يحب دون تقنين في الحالتين. لا حاجة للقول إن الأمر لا يقتصر بالتأكيد على الشعب المصري.
ربما مزارع تبغ في عيتا الشعب وتاجر أقمشة في حيفا لن يستطيعا إنجاز صفقة تجارية بسيطة دون إراقة دماء. نحن الشيعة والسنة، العرب والفرس، الأهلي والزمالك... ربما أيضاً لسنا جاهزين لنكون وحدنا تماماً. لا يترتب على ذلك بالتأكيد أن لا يبقى علم فلسطين شامخاً فوق السفارة الفلسطينية في طهران، ولكن يحسن ربما أن نتخيل أن السيناريو الكارثي الذي يحصل الآن سوف يستمر في الحصول على الأرجح حتى لو زالت إسرائيل. كيف سنمنع مثلاً نائباً سخيفاً من القول بأن المارد السني استيقظ، كيف سنمنع قناة تلفزيونية من بث وجبة كراهية طائفية كلما قرر الممولون أن يحردوا، وكيف سنمنع الناس من الاستماع لخطابات كهذه؟ لا تجوز المواربة، لقد خسر الرهان على الوعي الإسلامي العابر للاصطفافات القبلية (يجوز القول، خسر للأسف). إيران التي كانت مخلصة عندما بنت منفردة طوق النار حول إسرائيل ولم تعر الانتماءات الطائفية اهتماماً عندما واجهت العالم بأسره وتعرضت لعقوبات اقتصادية ودبلوماسية قاسية في سياق دعمها للمقاومة في لبنان وفلسطين، تجد نفسها الآن منخرطة في محور مذهبي موضوعياً بحكم أن مناوئيها هم من لون مذهبي معين. أيضاً، في سياق قضية اليمن نموذجاً، لا يحتاج المرء إلى أكثر من المهارات المنطقية المتوقعة من تلميذ في المرحلة الابتدائية ليسأل كيف يعقل أن تسيّر الجيوش لنجدة رئيس منتخب في اليمن وتُضخ الوحوش البشرية لإسقاط رئيس منتخب في سوريا، وكيف يعقل أن تستيقظ النخوة العربية إثر سوء تفاهم مع قبيلة وتغض النظر عن عدو اغتصب أرضاً وشعباً ووعياً لستين عاماً؟ أين هم المثقفون، الفنانون، الكتاب... لا شيء على الإطلاق، فقط صمت رهيب. لن يعني ذلك أن تستكين إيران إلى شيعيتها حصراً ولكن أن تعي أن أعداءها يستطيعون بخبث وبسهولة أن يغلقوا على أصابعها أبواب المنطقة بتهمة شيعيتها. بمعنى آخر، المنظور المنفرد للسياسة الخارجية الإيرانية المتمثل في العداء لإسرائيل عليه أن يتسع لمعطى آخر هو الاحتقان المذهبي. أحياناً لا يكفي أن تكون محقاً بل يجب أن تبدو كذلك أيضاً. لا مناص من أن يتم ترفيع هذا الاحتقان المذهبي من رتبة محظور يجب تفاديه إلى منظور يملك شرعية أن يتوازى مع العداء لإسرائيل في الأهمية ولتتوزع مقدرات الجمهورية الإسلامية بينهما. أيضاً، ليُعطى هذا المنظور الوافد سلطة إعادة ترتيب الأولويات الاستراتيجية للثورة وقدرة مزاحمة وازنة في المشاركة بترسيم غير تقليدي لمفهوم التهديدات والتحديات.
رغم أنف الإعلام الأسود، ما زال هناك الكثيرون في العالم يؤمنون بأن سياسة إيران مبدئية ومخلصة في العداء لإسرائيل وللسياسات الاميركية في الشرق الأوسط ولكننا في هذا الشرق الأوسط لسنا جاهزين لاستحقاق التجرد والنزاهة لا لعيب في المبادئ بل لواقع أقل جمالاً مما اعتقدنا ذات ثورة في طهران.
من نافل القول إن فهم السياق الذي تتموضع فيه المفاوضات بين إيران ودول 5+1 يساعد في الفهم، هل هو محطة مرونة ورشاقة إيرانية أخرى، قراءة متواضعة ورصينة للواقع الإسلامي، أم ردة موصوفة (وهو الاحتمال الأقل ترجيحاً بطبيعة الحال)، يحسن أن ننتظر. وفي حال كنا بصدد إيران جديدة، ما هو شكلها المتوقع؟ نسخة منقحة من الشاه أم جرعة بازار مضافة في شرايين الثورة التي تسافر هذه الأيام بين العراق وسوريا وربما اليمن. المهم أن المكان لا يجب أن يتسع لإيران ترفض أن تقرأ الواقع المرير. أحياناً على صانع القرار أن يمارس القيادة على الشعب والشعارات على السواء. وقيمته تتجلى في مدى قدرته على رد السياسات، حتى أكثرها تجذراً، إلى قواعدها الأم التي هي لا شيء آخر سوى المصلحة العامة لنطاق حاكمية هذه الثورة التي تتعدى بالتأكيد الجغرافيا الإيرانية. يفيد أيضاً أن نقول إنه حين قررت الهند أنها يجب أن تتحصل على القنبلة الذرية، وقف أحد قادتها يومها وقال: فلتغفر لنا روح غاندي، ولكن الهند يجب أن تمتلك القنبلة الذرية. ليس المقصود هنا بالتأكيد ان تسعى إيران الثورة لامتلاك القنبلة، بل أن تمتلك الجرأة على تحديد خياراتها وأولوياتها ولا بأس بأن تطلب السماح من روح الله الخميني.
* كاتب لبناني