ليس النقاش في تحسين شروط الصراع، من موقع الدفاع عن المصالح الوطنية والقومية ذات الطابع التحرري، أمراً ينبغي رفضه تلقائياً بذريعة أولوية المعركة وبتكرار بائس ومبتز لشعار أن لا صوت يعلو فوق صوتها. ان ثمة حاجة، لا يجوز تجاهلها أبداً، وهي ضرورة البحث الدائم، استناداً الى الوقائع والمعطيات الملموسة، وكذلك الى المتغيرات والمستجدات، في كل ما يتيح، معركةً بعد معركة ومرحلةً بعد مرحلة، تحديد السلبيات والسعي الى التخلص منها، وكذلك تحديد الايجابيات والعمل على تطويرها... بالوسائل الممكنة القائمة أو تلك التي ينبغي استحداثها لهذا الغرض.هذا الامر، اي تحسين شروط المواجهة في مجرى المعارك الوطنية والقومية التحررية الكبرى، لا علاقة له أبداً، بانحرافات وانزياحات من قبل أفراد أو جماعات، هنا او هناك (لارتزاق أو مكاسب خاصة)، لمصلحة القوى المعادية، وهي، عموماً القوى الدولية الاستعمارية الطامعة والقوى المحلية الحليفة لها في تحقيق أهدافها.

سيكون من قبيل السذاجة أحياناً، أو التضليل غالباً، تصوير مشهد الصراع وكأن الانقسامات والأحداث والمواقف والعلاقات والسلوك... تجرى جميعاً على وتيرة واحدة ووفق معادلة: كل الخير هنا وكل الشر هناك، أو بالعكس. لا شك أن ثمة ما هو عام في الصراعات الكبرى لجهة التناقض الاساسي والمصالح المتعارضة. لكن ثمة أيضاً تناقضات ثانوية مؤثرة. كذلك ثمة أساليب عادية وأُخرى مرفوضة. هاتان ليستا حكراً على فريق دون سواه (بمعزل طبعاً عن عدالة القضية او سوء القصد والهدف والنتائج). قد يلجأ فريق معتدٍ الى وسائل «ناعمة» ومناورة وخبيثة لتمرير أهدافه. وقد يتورط فريق مُعتدى عليه في ممارسة ردود فعل من شأنها أن ترتد عليه او تُستخدم ضده. هنا وهنالك تحضر أو تغيب التجربة والكفاءة، وكذلك القدرة على الاستفادة مما هو متاح من أدوات الصراع أو عدم القدرة على ذلك. ولكل حالة أو أسلوب أو مبادرة، في هذا الاتجاه أو ذاك، ثمن ونتيجة ومردود.
من الواجب ان يُطالب الذين يشغلون المواقع المقررة بأن يحسنوا صياغة الشعارات


هل ما انتهى إليه واقع «السلطة الوطنية» هو عبء على نضال الشعب الفلسطيني؟

الأخطر، أنه، في مجرى الحروب والمعارك العامة تنشأ أيضاً حروب ومعارك خاصة، صغيرة أحياناً، وكبيرة وأساسية، بالنسبة لاصحابها، أحياناً أخرى. اي أن أهدافاً خاصة تنمو وتتقدم إلى جانب الأهداف العامة، وصولاً إلى أن تتقدم على حسابها، ضمناً أو علناً، في حالات كثيرة. هذا ما ينطبق أيضاً على الأساليب كما أسلفنا. قد نستخدم أداة نراها طبيعية، لخدمة هدف نعتقده أساسياً ونبيلاً، لكننا، من حيث لا ندري، نحن نتيح أو نبرر لعدونا استخدام نفس الأداة بما ينقلب علينا لجهة الخلاصات العامة. هذا، مثلاً، كأن يلجأ طرف ضعيف ومظلوم ومقموع، في احتجاجه وانتفاضته المحقين، في مرحلة ما، إلى أسلوب الاغتيالات. انه بذلك يتيح لعدوه، القوي والمرتبك، أن يستخدم هذا الاسلوب على أوسع نطاق، وبما لا ينسجم مع مصلحة الطرف الذي بادر الى استخدامه، ولا، حتماً، مع توقعاته وحساباته. ينطبق هذا الأمر على استخدام التعبئة المذهبية وسيلة لحشد متضررين والزج بهم في ساحة المعركة بأقصى الامكانية والاندفاع. سوف ينقلب هذا العامل الى نقيضه، لجهة النتائج، اذا فعل الخصم ذلك وكانت الاعداد التي يستطيع الدفع بها أكبر، وكانت وسائله، لتحقيق ذلك، أوسع وأفعل. فكيف إذا كان العدو يعِّول، في الأصل، على سلاح الفتنة المذهبية وسواها، لتحقيق معظم أهدافه أو بعضها.
في ما يتصل بالأهداف الفرعية، فإنه عندما يستشري الاهتمام بها وتدفع الى المراتب الأُولى، فإن تبدلاً مخلاً في الاهداف والوسائل يحصل على حساب صحة المعادلة التي تحكم السياق العام. من الطبيعي، مثلاً، ان تحاول جهة ما تقاتل عدواً خارجياً (خصوصاً) ان تستخدم كل إمكانياتها وإمكانيات البلاد في المعركة ضد هذا العدو: السياسية والعسكرية والاقتصادية والديبلوماسية... بديهي ان الإمساك بالسلطة، في مثل هذه الحالة، سيوفر فرصاً ومميزات لا يُستغنى عنها: لتقليص الخسائر وتحقيق وتقريب الانتصار. لكن عندما يصبح الإمساك بالسلطة هدفاً قائماً بذاته، فقد يتحول الامر الى نقيضه. يدور نقاش مشروع الآن (وقبل الآن) بشأن هل أن ما انتهى إليه واقع «السلطة الوطنية الفلسطينية» هو عبء على نضال الشعب الفلسطيني لتحرير ارضه وبناء دولته المستقلة... أم هي في خدمة هذا النضال. إن المصالح (الصغيرة) الموضوعية التي تنشأ في سياق الحدث والهدف الكبير تحتاج الى رقابة مثابرة ومتواصلة. وهي تصبح اذا ما تجاوزت الحدود، عبئاً لا ينبغي التردد في التخلص منه خدمة للقضية الأم التي يجوز الانصراف عنها الى أولوية اخرى. لقد حفل التاريخ العربي المعاصر (وغير العربي) بنماذج وتجارب جرى من خلالها استخدام الاهداف العامة من لخدمة أهداف خاصة. استخدام القضية الفلسطينية كان هو العنوان الأبرز في هذا السياق، بالإضافة الى شعارات الوحدة والاشتراكية والتحرير والسيادة والتنمية والديموقراطية...
ليس هذا فقط، بل إنه من الواجب، في مجرى الكفاح الوطني التحرري، ان يُطالب الذين يشغلون المواقع المقررة بأن يحسنوا صياغة الشعارات وتحديد المراحل واختيار أكثر الممارسات ملاءمة وخدمة لهدف المضي في المعركة حتى الانتصار النهائي. فإذا لم يفعلوا، فليس من الجائز تحت اي ذريعة، التهاون مع اخطائهم وفئوياتهم وسوء أدائهم.
تصبح هذه المسائل البديهية اليوم شديدة الحساسية والاهمية بسبب ما يكتنف الصراع من تعقيد وتفاعلات محلية وخارجية، ومن تداخلات ومصالح وفئويات سياسية وامنية واقتصادية خاصة وعامة، ومن أسلحة وأساليب قديمة وحديثة، دينية ومذهبية... انها حرب، بل حروب، خطيرة تلك تدور الآن في منطقة الشرق الأوسط بهدف استتباعها، وإحكام السيطرة وتعميمها، من قبل المستعمرين وأتباعهم المحليين، على مصائرها ومقدراتها وثرواتها. وهي حرب طويلة قد تمتد لعقود وعقود إذا ما سارت الأمور على الوتيرة الكوارثية الراهنة.
لا شك في أن التصحيح والتجويد هما عاملان أساسيان من مقومات الصمود اليوم والانتصار غداً. لن يحصل ذلك من دون بلورة وإرساء ثقافة نقد مسؤول ومكافح ومنهجي. هذا النوع من النقد هو جزء متمم من المعركة ومن مستلزمات انتصارها. وهو نقد لا تحتاج ممارسته الى استئذان أحد أو توقع ثناء وتشجيع ذوي القرار (فضلاً عن توقع استيائهم وقمعهم)! لقد تهاوت «الإمبراطورية» السوفياتية، مثلاً، خلال أيام. كان أحد أبرز أسباب انهيارها منع وقمع النقد في المجتمع والحزب على حد سواء!
لقد درجت العادة على إشهار سيف التشكيك والتخوين بالنقد والناقدين من قبل «مثقفي» السلطة و»مطوعيها» ممن يستسهلون الهتاف والتشبيح والاستهبال. هذا ثمن معروف: رضا السلطان لم يكن أبداً، مرادفاً لرضا الضمير!
لذلك تم وصف نقد الأخطاء الذاتية بـ «الجهاد الأكبر» بالمقارنة مع «الجهاد الأصغر» ضد أخطاء الآخرين. وكان قائد الثورة «البلشفية» لينين قد توقع من رفاقه ممارسة «النقد والنقد الذاتي» أداة لتصحيح الأخطاء. غير أن خلفه ستالين قد بكر في وأد هذا المبدأ التنظيمي والقيادي المهم (ومعه وأد مئات الآلاف من اعضاء الحزب) الذي لم يتح للينين أن يضع له الآليات والضوابط التطبيقية الضرورية (ولا حاول أو نجح أحد سواه من بعده!).
أمام هذا الكم الهائل من الأخطاء والتحديات ستكون المعاناة مضاعفة والخسائر مخيفة ما لم يكن التصحيح بالنقد أحد أبرز أدوات المواجهة وأحد أفعل أسلحتها.
* كاتب وسياسي لبناني