جرت العادة أن تتم المقارنة بين مصر والشقيقة سوريا إن سارت الأمور في مصر إلى الأسوأ؛ ولكني رأيت في ما يرى النائم (وكأنه «كابوس» أو «شبح مفزع») أن هناك أوجه تشابه ثلاثة بارزة بين ما يحدث في العراق الشقيق بالفعل وبين ما يحتمل أن يحدث في مصر بالإمكان، إذا سارت الأمور على عواهنها الراهنة. وهذه الأوجه الثلاثة كما يلي:أولاً: أن يخرج جزء من أراضي البلاد من حيز السيادة الوطنية للدولة إلى جهة أو جهات أخرى ذات منشأ محلي، تتلقى نوعاً أو أنواعاً من الدعم (الخارجي) بلا شك، مستندة إلى تأويل معين لآيات الجهاد في القرآن ولبعض من السنّة النبوية الشريفة وقسم من التراث الفقهي. ووجه الشبه هنا أن ما يسمى بتنظيم «الدولة» يسيطر جزئياً – أو كلياً – على نحو أربع محافظات في الشمال الغربي من الإقليم العراقي، ويبلغ ما يسيطر عليه ما يقرب من 40% من المساحة الإجمالية للدولة، أو أكثر أو أقل قليلاً.

ونحن في مصر مهددون بفقدان السيادة على جزء من بلادنا هو شبه جزيرة سيناء، وشمالها بصورة أكثر تحديداً، جراء التهديد العسكري والأمني الذي تشكله جماعات مرتبطة بصورة أو أخرى بتنظيم «الدولة»، وتستند إلى تأويل معين للدين.
أما وجه الشبه الثاني المحتمل بين العراق ومصر، فهو أن تعيش العاصمة والمدن الكبرى، وبعض من البلدات الصغرى أيضاً، تحت وطأة تهديد دائم، مولد للشعور المضني بالرعب، جراء أعمال العنف المنظمة المتفرقة، وبخاصة منها التفجيرات متنوعة القدرة التدميرية. ويخرج المواطن من بيته الآمن صباحاً، فلا يدري إن كان سيعود سالماً إلى أهله، أم يصيبه مكروه أكيد.
نحن في مصر
مهدَّدون بفقدان السيادة على جزء من بلادنا هو
شبه جزيرة سيناء

وجه الشبه الثالث المتخيّل أن تضطر الأحداث المتعاقبة، تعاقب الأيام والليالي، النظام الحاكم، للمزيد ثم المزيد من الاعتماد على القوة الأمنية المحض، من أجل العمل على استكمال بسط السيادة على إقليم الدولة، حتى قد يصبح النظام معزولاً عن مجتمعه أو شبه معزول. وتلك حال العراق قبل اجتياح «داعش» وحلفائها مدن الشمال الغربي في العراق من دون مقاومة تذكر تقريباً من قبل القوات النظامية. وهو احتمال بعيد التحقق في الحالة المصرية بالنظر إلى إنجاز دستور معدل وانتخاب رئيس جديد والتهيّؤ لتشكيل برلمان منتخب؛ ولكن ما الحال لو سارت الأمور على وتيرتها الأسوأ عبر الوقت، وبخاصة مع تفاعل وتفاقم التهديد الآتي من الحدود الغربية مع ليبيا، ومع انتقال «التوجه نحو العنف» لدى بعض الفرقاء السياسيين في مصر إلى طور جديد في معرض التجسيد التجريبي المتصاعد؟ وهل نأمن عوادي الأيام أن يصيبنا منها المكروه الشديد؟

انعطافة للإخوان المسلمين

لمناسبة ما أشرنا إليه عن تحولات العنف، يلاحظ أن تيار «الإسلام السياسي» عموماً، وجماعة «الإخوان المسلمين» خصوصاً، يمرّان هذه الأيام بانعطافة حادة في تاريخهما، إذْ هما، أو هي بالتحديد، على وشك التحول من «تنظيم سياسي» إلى تنظيم لممارسة العنف، أي من تنظيم يعتمد «العمل السياسي» سبيلاً للوصول إلى السلطة – شأن أي «حزب سياسي» - إلى تنظيم مسلّح أو شبه مسلح ينزع نزوعاً غالباً إلى التركيز على الممارسة الفعلية الموسعة للعنف المجسد كأسلوب رئيسي للعمل من أجل الوصول إلى مبتغاه. وتتم هذه الانعطافة الموشكة على أيدي الجيل الجديد من «القيادات الشابة» في «الجماعة»، والتي ورثت جيل «الآباء» القابع في السجون، مع تحول باتجاه الهيكل التنظيمي اللامركزي كنمط رئيسي لاتخاذ القرارات داخل التنظيم، بدلاً من الهيكل المركزي التقليدي الجامد الذي لم يعد ملائماً في ظل الظروف المستجدة من الغياب القسري «للآباء المعلمين». فهل هذه الانعطافة الموشكة باتجاه العنف، وهيمنة القيادات الشابة، وكيل شطر رئيسي من القرارات (المصيرية) إلى الهياكل المحلية والمناطقية في ربوع مصر المختلفة – تمثل الاستجابة الصحيحية لأزمات الجماعة والوطن؟ لا نظن ذلك بالقطع في ظل وضع ينذر بقرب الوصول الشديد إلى «نقطة اللاعودة» النهائية بين «الجماعة» و«النظام» في مصر، بما في ذلك من انعكاسات غير محمودة العواقب على كل حال. فماذا عسانا أن نفعل على صعيد الحركة السياسية في مصر لتفادي المأزق المحتمل؟

مخارج التطور الديمقراطي: مهمات عاجلة

تناولنا غير مرة ما يتوجب على «القوى السياسية» القيام به في الظرف السياسي - والعسكري - الراهن في مصر، وبخاصة من حيث ضوء ضرورة استئناف النظر في تكوين «جبهة وطنية متحدة» من القوى السياسية الفاعلة لتشكل ظهيراً للوضع السياسي القائم بعد الثلاثين من يونيو 2013، وأنه لا مندوحة عن ذلك، كفرض عين لا مهرب منه ولا منأى عنه، كما يقولون، وأن ذلك ينبغي أن ينهض حجة دامغة أمام كثيرين ارتأوا أن يكونوا من «المعارضة» لنظام أو «وضْع» هم من سعوا إليه وأقاموه، بشكل وبآخر، وكيف لنا أن نكون «معارضة» منذ اليوم الأول لمن جئنا به، ولمّا نمنحه، بعد، فرصة وفسحة زمنية كافية لإثبات نواياه، وتأسيس إنجاز مؤكِّد للشرعية عبر الوقت.
وفي ما يلي نقدم عدداً من الحجج المكملة، كواجبات ملقاة بالدرجة الكبرى على كاهل الدولة، ولو على سبيل «سدّ الذرائع» كما يقال في قواعد الاجتهاد الشرعي، وكذلك (درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح).
أولاً: ضرورة إعادة النظر في القوانين والقرارات وآليات العمل في المنظومة القضائية، وخاصة ما يتعلق منها بما يأتي:
1ــ طريقة التعيين في السلك القضائي، وخاصة من حيث «الحد الأدنى» لتقديرات النجاح للحاصلين على المؤهل الجامعي من كليات القانون، المتقدمين للالتحاق بوظائف معاوني ووكلاء النيابة العامة.
2ــ إعادة النظر في جواز تعيين العاملين بسلك الشرطة في وظائف القضاء، وذلك ما جرى عليه العمل خلال السنوات الأخيرة من عمر «النظام المباركي» المخلوع.
3ــ النظر في مدى حجيّة الأخذ بتحريات الشرطة في الدعاوى القضائية التي تكون هي طرفاً فيها.
4ــ قيام «المجلس الأعلى للقضاء» بعقد حلقات نقاش داخلية، بطريقة «العصْف الفكري»، حول القضايا ذات البعد السياسي المنظورة أمام القضاء، أو التي نظرت بالفعل أو تم إصدار الأحكام بشأنها، خلال الفترة المنقضية منذ 25 يناير 2011 حتى الآن، وكانت محل خلاف في الرأي على صعيد النخبة والجماهير، أي ما يمكن أن تسمى «قضايا الرأي العام» لا سيما: محاكمة مبارك وابنيْه ورفاقه؛ ومحاكمة أحمد دومه - من «شباب الثورة» البارزين - في قضيتيْه الأولى والثانية؛ والدعاوى الخاصة بخرق «قانون التظاهر»؛ وقضية مقتل الناشطة شيماء الصبّاغ بمناسبة التجمع في ذكرى ثورة يناير مؤخراً.
5ــ مدى ملاءمة التوسع في إحالة البلاغات المقدمة للنيابة العامة بمقتضى ما يسمى «الحسبة» على «محاكم الأمور المستعجلة» للفصل في دعاوى تعتبر «قضايا موضوع» من الطراز الأول، واتخاذ بعض الأحكام الصادرة سنداً لإصدار تشريعات متفرقة من جهاز الدولة مثل الحكم باعتبار «جماعة الإخوان المسلمين» ثم حركة «حماس» منظمة إرهابية.
ثانياً: إعادة النظر في طرق عمل جهاز الشرطة، من داخل الجهاز نفسه، خلال فترة ما بعد الثلاثين من يونيو 2013، وخاصة حول ما يظهر من أن بعض رجال الشرطة تتحكم فيه نزعة «الانتقام والثأر»، نظراً إلى ما حلّ بالجهاز بعد ثورة يناير.
ثالثاً: ضرورة إجراء حوار مجتمعي، وحوار ثقافي وأكاديمي في أوساط النخبة وفي أروقة «مجلس النواب» القادم، حول بعض النصوص الدستورية المهمة، وخاصة ما يتعلق منها بصلاحيات المجلس الأعلى للقوات المسلحة بشأن الموافقة على تعيين وزير الدفاع، وإدراج موازنة القوات المسلحة ضمن الموازنة العامة للدولة كرقم عام فقط من دون تفاصيل، وإحالة بعض الدعاوى على «القضاء العسكري». ويتصل بذلك: التشريعات الصادرة مؤخراً والتي تسمح بإحالة المتهمين في قضايا تتعلق بحماية المنشآت العامة على «القضاء العسكري».
رابعاً: ضرورة إعادة النظر، بطريقة تتسم بالفاعلية والإنجازيّة، مع مراعاة عنصر الزمن، في حالة المحبوسين على ذمة القضايا الخاصة بممارسة العنف والتظاهر من دون ترخيص، وهم بالآلاف المؤلّفة، وظروف احتجازهم ومعاملتهم داخل مراكز الاحتجاز أو الحبس: وذلك بالإفراج عنهم في حالة عدم وجود أدلة كافية للإدانة، أو الإفراج المشروط في حالة وجود الأدّلة، أو الإحالة على القضاء فوْر انتهاء التحقيقات.

مبادئ حاكمة

عدا عن المهام العاجلة، نعيد التذكير بجملة حقائق تشكل المبادئ الحاكمة للتطور الديمقراطي في الفترة المقبلة من التاريخ المصري، لوضع الأمر في نصابه الصحيح، كرؤوس أقلام فحسب:
1ــ جدلية الاستقرار والديموقراطية، من حيث إمكانات المبادلة النسبية المشروطة والموقوتة بين «الاستقرار المجتمعي» و«التطور الديمقراطي»، في ضوء أدبيات علم «التنمية السياسية» منذ الستينيات من القرن المنصرم، باعتبار «الاستقرار» شرطاً أولياً، ومتطلباً ضرورياً لإمكان بناء نموذج فعال للممارسة السياسية. 2ــ ضرورة العمل على توفير الشروط الاقتصادية للديموقراطية مجسدة في «التنمية الشاملة»، انطلاقاً - ولو في حدود معينة - من الارتباط بين درجة «الحرمان الاقتصادي» ومعدلات المشاركة السياسية بما فيها السلوك التصويتي وحق الاقتراع.
3ــ العمل على توفير الشروط الاجتماعية للديموقراطية، ممثلة خاصة في العدل الاجتماعي، أو «الخبز والكرامة» كما ذكر يوسف صايغ، انطلاقاً من الترابط العضوي بين «رغيف الخبز» و«تذكرة الانتخاب»، كما أشار «الميثاق الوطني» في ذروة المد الناصري عام 1962.
4ــ تأكيد النظر إلى التطور الديموقراطي كتطور كفاحي تاريخي من أجل رفع الأوزان النسبية للطبقات الشعبية في مجال الحركية المجتمعية عبر الزمن.
* أستاذ في معهد التخطيط القومي في القاهرة