عمر الديب *
كثيرون هم قرّاء المقالات الأسبوعية للأستاذ أنسي الحاج كل يوم سبت في صحيفة «الأخبار». كثيرون قرأوا مقاله «هذه هي الديموقراطية» نهار السبت 20 تشرين الأول 2007. كثيرون أيضاً كانت لهم تعليقات وتأويلات لما قرأوا.
لكن كون كاتب المقال شاعراً من طراز رفيع، يجعل فعل مناقشته أو التعقيب عليه من بالغ الصعوبات. يطغى عند كاتب المقال الشكل على المضمون. فاللغة الأدبية شديدة التماسك، والجمالية اللفظية والأدبية صعبة المقارعة، وهذا ما جعل عدد الردود والنقاشات المنشورة قليلة، على رغم أنّ في المضمون بعض الخلل الذي يستحق التعقيب.
يبدأ النقاش في المقالة من مكان خاطئ أساساً. ومن الطبيعي أنك عندما تحاول الإجابة عن سؤال خاطئ ألّا تصل الى إجابات صائبة. فالإجابة الصحيحة تمرّ في المسار التحليلي المبتدئ أصلاً من سؤال صحيح.
السؤال الخاطئ المطروح هو محاولة فهم التحالف بين «الشيوعيّين والأصوليّين». أمّا السؤال المنطقي الذي قد يفضي إلى نتائج مجدية، فهو محاولة بحث ما إذا كانت بعض المشاريع المختلفة تتقاطع خلال مسارات نضالاتها المختلفة عند بعض المفاصل؟
فمجرد افتراض المنطق التحليلي القائم على «شيوعيّين وأصوليّين» يلغي مسبقاً احتمال إثبات إمكانية التحالف أو التقاطع أحياناً. إعادة طرح السؤال بالطريقة المنطقية المفضية إلى نتائج تسهّل عملية البحث وتوصلنا إلى مبتغياتنا البحثيّة.
أعتقد أنّ أحد دوافع المقالة كان مقالة أخرى لكاتب نقرأ له في صحيفة أخرى، وبالتالي فإنّ نقاشنا لمقالة «هذه هي الديموقراطية» هو نقاش في الوقت عينه للمقالة أو المقالات التي شكّلت دافعاً أو دوافع للمقالة المذكورة.
نعود لنقول إنّ الكاتب يتحدّث عن تحالف بين الحزب الشيوعي وحزب الله تحديداً. إنّ الحزب الشيوعي اللبناني، بحسب معرفتنا به، لا يأخذ عادة قراراته المصيرية (مثل قرار التحالف مع حزب الله) إلا عندما يرى ويشعر أن جمهوره وقاعدته التنظيمية قد اتخذت بمعظمها الخيار نفسه في ميولها السياسية وتحليلها للواقع، أي أنّ وجهة الحزب وقراراته المصيريّة تلي وجهة قاعدته ولا تسبقها عادةً. وهنا بيت القصيد.
الأصحّ إذاً أن نسأل ونبحث عن أسباب ميل جمهور الحزب الشيوعي اللبناني إلى التقارب مع حزب الله أو التعاطف معه على الأقلّ، فميل الحزب نفسه يصبح نتيجة ميل جمهوره وليس سبباً له كما في باقي الأحزاب ـــــ وهذا أمر إيجابي، فهذه هي الديموقراطية.
إذاً، ما هو سبب التقارب بين جمهور الحزب الشيوعي وحزب الله؟
لقد نما الجمهور الشيوعي على تعبئة فكرية تاريخية، تجذّرت مع تأسيس «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية»، مرتكزة على فكرتين مركزيّتين أساسيّتين هما المقاومة والتغيير الديموقراطي. ولطالما رأى الحزب في أدبيّاته تلازم العمليّتين، لكن ما تحقّق فعليّاً كان مغايراً لما سعى إليه الحزب بسبب مغايرة الواقع أحياناً للأدبيات الحزبية.
لم يتحقّق من نضالات الحزب في مجال التغيير الديموقراطي أي نجاح يُذكَر منذ سنوات طويلة، ولا أعتقد أنّ نسبة كبيرة من الشيوعيّين تحتضن في ذاكرتها إنجازات وتطوّرات عميقة تتعلق بهذا الهدف المركزي الذي التزمه الحزب، بل على العكس من ذلك، شهد وضع لبنان الطائفي تكريساً لواقعه في اتفاق الطائف وما بعده، ما جعل جيل الحرب وما بعدها شاهداً على هزائم وتراجعات مستمرّة في عملية التغيير الديموقراطي، فأنتج يأساً من جدوى النضال المضني من أجل تغيير لم يأتِ قط (وليس هذا ذنب الحزب نفسه).
أمّا في المقاومة، فقد شهد الشيوعيّون مع أصدقائهم ومحيطهم نجاحات كبرى في مواجهة الاحتلال مند عام 1982 حتى 1990. وقد رأوا كيف استكمل تنظيم آخر ما بدأوه هم وحقّق فيه نجاحات باهرة تجلّت في التحرير عام 2000 وبانتصار لم يشهدوا مثيلاً له طوال حياتهم وحياة الكيان المغتَصِب عام 2006.
وبالتالي، عرف الشيوعيون نجاحاً لنمودج نضالي كانوا من مطلقيه، ونما ليشكّل الحيّز الأكبر من وعي كلّ شيوعي وكل صديق لهم. نحن إذاً أمام حزب تبنّى قضيّتين مركزيّتين تجذّرتا في جمهوره، فعاش فشلاً ذريعاً في القضية الأولى ونجاحاً باهراً في القضية الثانية، وصار الجمهور الشيوعي محتضناً ومنسجماً ومندمجاً مع صوابية الخيار المقاوم كردّ فعل تلقائي يتمسّك بالنجاح ويتأبّطه، ويتفكّر ملياً ورويداً في الفشل.
إنّ المقاومة نصرهم الكبير، فكيف لا يندفعون في اتجاهها؟
لكنّ الحقيقة تُقال هنا أيضاً: إنّ الشيوعيّين وإن تبنّوا المقاومة برنامجاً وعملاً فهم لا يتبنّون حزب الله كاملاً. والفرق هنا بين المفهومين شاسع، وإن كان حزب الله اليوم هو المقاومة.
لقد سار الشيوعيّون على درب طويل من النضال ضدّ كيان اغتصب أرضهم، ووجدوا أنّ آخرين أتوا من دروب مختلفة فكرياً وسياسياً، وجمعهم معاً في آخر المسير «تقاطع طرق» جسّد التقاء مقاومتهم مع المقاومين الآخرين. فلماذا لا يلتقون؟
هل من الطبيعي أن تلتقي تيّارات متناقضة فكريّاً لتتقاطع على محطّات معيّنة في مسيراتها النضالية؟
إنّ هذا ممكن طبعاً، حتّى لا نقول ضروري.
وللشيوعيين أمثلتهم الكثيرة في هذا السياق. لعلّ أكثرها تشابهاً هو تشابك المقاومة الفرنسية بجناحيها الشيوعي والديغولي واندماجهما معاً في الكثير من النضالات في وجه النازية التي كانت في فترة ماضية خطراً مرعباً للعالم أجمع. لم يكن الخيار السياسي عند الشيوعيّين والديغوليين الفرنسيين أقلّ تناقضاً ممّا هو اليوم بين الخيارات السياسية والفكرية عند الشيوعيّين اللبنانيين وحزب الله.
فالخيار السياسي للشيوعيّين الفرنسيّين كان الاشتراكية بنمودجها السوفياتي حينها، بينما كان خيار الديغوليّين رأسمالياً صرفاً بحلّة فرنسية اجتماعية. من البديهي القول إنّ الاشتراكية والرأسمالية نقيضان تماماً على المستوى السياسي والفكري والاقتصادي، فكيف التحالف إذاً؟
يبرّر الكاتب التحالف، ويظهر من شكل التبرير أنّه مقنع، فيأخذ بالحديث عن الشيعة والكربلائية، ويصف الحزب الشيوعي بحزب الشيعة أوّلاً... ترى هل كان الحزب الشيوعي الفرنسي حزب الشيعة في فرنسا والحزب الكربلائي في المجتمع الفرنسي؟ وهل رأى الشيوعيّون الفرنسيون أي كربلائية في حليفهم الديغولي فتبعوهم إرضاءً لميولهم الفرويدية اللاواعية؟ وهل استشهد «غي موكيه» و«الجنرال فابيان» فداء للحسين؟
من المحتمل أن تكون «الواو» قد سقطت سهواً بسبب غلطة مطبعية عندما وصف الكاتب الحزب الشيوعي بحزب الشيعة!
إن لمن الظلم وصف حزب استشهد عشرات من قادته «المسيحيّين» في المقاومة وفي مسيرة النضال الديموقراطي بحزب الشيعة، ليس لأنّ الشيعة وصف أقلّ شأناً من وصف «المسيحي» أو «السني» أو غيره، بل لأنّ تسمية أي حزب بطائفة معينة هي «علامة مسجّلة» تحتاج الى عدّة شروط منها: حقّ إشعال الفتن والحروب الأهلية، الاستنجاد بالخارج للاستقواء على الداخل، تغيير الموقع السياسي بحسب اتجاهات الرياح السياسية الموسمية... وهو ما لا يقع ضمن أجندة الحزب الشيوعي اللبناني، وهو ما يبقيه حياً عند شريحة واسعة من اللبنانيين على رغم اندثار حركات يسارية أخرى وتحوّل منظّريها إلى «الحريرية» أو ما شابهها من ظواهر نفعية، كما يشير الدكتور أسعد أبو خليل في عدّة مقالات له.
إن تبنّي الحزب الشيوعي اللبناني لأجندة وطنيّة داعية إلى العلمنة كإحدى وسائل التغيير الديموقراطي في لبنان، التي يعتبرها الأستاد عزمي بشارة واحدة من النقاط الثماني التي تميّز الحزب الشيوعي اللبناني وتعطيه تحية خاصة، لا تجعله منتمياً إلى أي طائفة. ففعل انتماء الدرزي أو الشيعي أو المسيحي أو غيرهم إلى الحزب الشيوعي يسلخه مباشرة عن طائفته ـــــ ولا أقول عن دينه ـــــ وبالتالي فإن حقيقة انتشار الحزب الشيوعي بين الشيعة تفضي إلى نتيجة مناقضة لما يستنتجه الأستاد أنسي الحاج. إنّ انتشاراً كهذا «يُخسّر» الطائفة الكثير من أعضائها ويجعل من هذا الحزب عاملاً «خسّيراً» للطائفة لا حزب الطائفة! ويجوز هذا القول إن قبلنا أن ننساق في هذا السياق التحليلي.
اندمج الشيوعيّون في العديد من دول العالم، كفرنسا، مع حركات المقاومة الشعبية بمختلف تيّاراتها بما فيها أكثرها تناقضاً طبقيّاً مع طروحاتهم (التجربة الفرنسيّة نموذجاً). واقترن هذا التحالف المرحلي بتناقض سياسي بعد انتهاء مرحلة التحرّر والاستقلال، ليعود كلّ حزب إلى موقعه في الصراع الاجتماعي، فصار الحزب الشيوعي الفرنسي خصماً لشركاء الأمس في المقاومة ونقيضهم الطبقي أحياناً (في تلك الفترة على الأقل).
يتشابه موقف الشيوعيّين في لبنان اليوم مع مثيله الفرنسي، وليس في هذا الموقف المركَّب من تناقض حقيقي، فتناقضه الظاهري يخفي حقيقة كونه الموقف الأكثر سلامة في وطن يرزح تحت وطأة العدوان الدائم.
لا يساورني شكّ في أنّ الموقف سيكون مختلفاً في لبنان حرّ مستقلّ يبحث عن الصيغ الاجتماعية والاقتصادية الفضلى لرفاهية شعبه وسعادته. وقد يكون الحزب الشيوعي على تناقض كبير مع معظم حلفاء اليوم كما صار الشيوعيّون الفرنسيون أخصام حليفهم الديغولي السابق.
ينبغي التنويه بأنّ نقد الحزب الشيوعي اللبناني من النقّاد والصحافيّين المستقلّين أو الحزبيّين من مشارب فكرية أخرى (وأعتقد أنّ الأستاذ أنسي الحاج منهم)، عادة ما يكون أكثر موضوعية وعقلانية (مثلما كان نقد الأستاذ الحاج) من نقد الكتّاب الآخرين المتحوّلين من خلفيات «ماركسية». ربما شعر البعض أنّ انتماءهم الفكري الماركسي الأوّل هو «خطيئة أولى»، فيمضون باقي حياتهم محاولين التكفير عن ذنوبهم بمحاولات محو آثار «الخطيئة الأولى» كيفما اتُّفق.
لكن، وكما في كلّ تجارب الحياة، هل هناك أجمل من «الخطيئة الأولى» التي لا تعبّر إلا عن الميل الشبابي الأوّلي النقي الخالي من كلّ حسابات اجتماعية ونفعيّة ووظيفيّة؟
* نائب رئيس اتحاد الشباب الديموقراطي العالمي