نسيب حطيط *
في الذكرى السادسة لأحداث 11 أيلول 2001، وبعد ست سنوات من الغزو الأميركي لأفغانستان للقضاء على نظام طالبان الذي يحتضن «القاعدة»، ورمزها أسامة بن لادن المسؤول نظرياً عن أحداث 11 أيلول، لا بدّ من التذكير بأنّ الهدف الأميركي كان معاقبة المنفّذين والمحرّضين والحاضنين للتنظيم المذكور. وصحيح أن حركة «طالبان» تمثّل الحاضنة الرئيسية والأم بالتلقيح الصناعي لـ«القاعدة» على المستوى العقائدي والسياسي والجغرافي، إلا أن المقرّر والراعي لولادة «طالبان» و«القاعدة» كان الإدارة الأميركية بالتعاون مع السلطات الباكستانية من جهة التدريب والتسليح وتسهيل التنقل وتوفير أمكنة الاختباء (للأفغان العرب)، بينما تعهّدت المملكة العربية السعودية بالتمويل والغطاء العقائدي، الذي يحمل الفكر الوهابي، المؤسّس للمدرسة السلفية والتكفيرية، وعدم الاعتراف بالآخر. وكانت المدارس الدينية في باكستان وأفغانستان أرضاً صالحة لهذا الفكر، وخصوصاً مع ما تعيشه من فقر وعوز، فكان المال الخيري الذي توزّعه الجمعيات المدعومة من الرياض، العامل الذي فتح الطرق المغلقة أمام الفكر المتطرف.
وكان الهدف من تسهيل ولادة حركة الأفغان العرب، هو دعم «المجاهدين» وإسنادهم في قتال الاحتلال السوفياتي «الملحد» و«الكافر». لذلك أُسِّست «طالبان» التي انقضّت على إنجازات «المجاهدين» الأفغان الذين قاتلوا وانتصروا وأجبروا السوفيات على الانسحاب، لانتزاع السلطة والمنجزات بدعم خارجي.
لكن سرعان ما شعر القيّمون على مشروعها سواء الرعاة السياسيون المتمثلون بأميركا، والعقائديون السعوديون والعسكريون المتمثلون بباكستان، بأن الأمور تفلت من بين أيديهم، بعدما فقدوا السيطرة على الوحش الذي صنعوه، وأخذ يعمل لتحقيق مشاريعه الخاصة على المستويات كافة. هذا بينما كان المطلوب من هذه الحركات أن تكون «كلاب صيد» أميركية لجلب الطرائد فحسب، أو استفزاز الأعداء لإطلاق النار عليهم سواء في جمهوريات آسيا الوسطى أو إيران أو العراق أو غيرها من البلاد، وحتى في أوروبا عندما تدعو الحاجة إلى ذلك.
وفي ذروة الحملة على الإرهاب العالمي المتمثل بـ«القاعدة» التي أصبحت شبحاً مخيفاً يكاد يكون قوة عظمى على كل المستويات المالية والتقنية والعسكرية من خلال الدعاية الإعلامية والمبالغة الأميركية، تعلن مفاجأة الرئيس الأفغاني حميد قرضاي (الحر والمستقل) المتمثلة بالتفاوض مع حركة «طالبان»، والتي ترفضها بدورها، وتشترط انسحاب قوات الاحتلال من أفغانستان شرطاً مسبَقاً. والغريب المدهش أن أميركا وبعد ست سنوات على بدء حربها على «الإرهاب» لم تستطع السيطرة على أكثر من العاصمة كابول، وتطرح التفاوض مع عدوّها اللدود (أي طالبان) لتوفير الاستقرار والنظام، ولضمان حصة في مستقبل أفغانستان السياسي، لعجزها عن حماية نظام قرضاي الذي يحكم قصر الرئاسة وحديقته الخارجية فحسب. ولأن واشنطن تحاول تخفيف أعبائها وأحمالها الزائدة وتتهيّأ للحرب على إيران ومحور الممانعة في لبنان وسوريا وفلسطين، فلا بد من إقفال بعض الجبهات الخلفية، وإذا أمكن استخدامها أيضاً لاستنزاف إيران وغيرها من الدول المقاومة والممانعة للمشروع الأميركي.
وقد مُهّد لهذه الخطوة إذ أُظهرت حركة «طالبان» على المستوى الإنساني ـــــ السياسي بعد خطف المبشّرين الكوريين الجنوبيين، ومن ثم التفاوض لإطلاق سراحهم وإنقاذهم (مع التذكير بالعلاقة السياسية والأمنية الوطيدة التي تربط أميركا مع كوريا الجنوبية).
إن إعادة الاعتبار والتفاوض مع حركة «طالبان» يؤكدان عدة أمور هي:
أوّلاً: عودة أميركا إلى منهجية خوض الحروب بالواسطة، بعد فشلها في الحروب المباشرة في أفغانستان والعراق وتعرضها للخسائر الفادحة.
ثانياً: إن المصطلحات والمعايير والتعريفات الأميركية لمفردات «الإرهاب» و«محور الشر» و«الاعتدال»... تمليها المصالح والأهداف الأميركية، ولا ترتبط بمنظومة الأخلاق الدينية أو الإنسانية، ولذا هي معرضة للتغيير وفق نظام بورصة المصالح.
ثالثاً: إعادة الاعتبار للحركات الإسلامية من المذهب السنّي لتعبئتها واستخدامها عسكرياً ضد إخوتهم الشيعة، لأنّها أفضل وأقصر الطرق لإنهاك قوة العالم الإسلامي. والبداية ستكون بضرب القوة الإيرانية، وقواها الحليفة في لبنان وفلسطين والعراق وسوريا.
وبما أن الإدارة الأميركية أخذت القرار بالتفاوض مع «طالبان»، فالسؤال المطروح يبقى عن الموعد الذي ستبدأ فيه عملية التفاوض مع «القاعدة» لإعادتها إلى صفوف التحالف الواضح والمكشوف بدل تسخيرها سراً للأهداف الأميركية المعلنة. إن مبدأ القتال بالواسطة، عبر الأدوات المحلية في كل بلد، مع توفير الغطاء الدولي والسياسي لحلفاء أميركا كل في وطنه، يؤكد فشل استراتيجية المحافظين الجدد في اجتياح العالم بالقوة والنار بناءً على «إرادة إلهية»، والعودة إلى النظام الاستخباري القديم عبر قلب أنظمة الحكم بدعم أطراف محلية.
وبالتالي، فإننا أمام مشهد سياسي ـــــ أمني خطير على مستوى العالم، وخصوصاً في الشرق الأوسط، يبدأ بإشعال الاضطرابات الأمنية وتعميم الانقسامات السياسية، وسيكون لـ«القاعدة» (الشبح الوهمي)، اليد الطولى في هذه الأعمال التخريبية، كغطاء إسلامي لأجهزة الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية وغيرها من الأجهزة الحليفة لها، لتتفرّغ أميركا لإنقاذ نفسها من مآزقها الأمنية والسياسية، ولتتفرغ إدارتها للإعداد للانتخابات المقبلة.
التفاوض بين أميركا و«طالبان» ولاحقاً «القاعدة»، هو إعادة التحالف بين «الشرّ الأميركي»، وجماعات التكفيريين الجدد. فأميركا تقتل بأسلحتها الفتاكة، والتكفيريون يذبحون بسيوفهم، ويبقى الضحايا شعوب المنطقة وثرواتها والقيم الحضارية والإنسانية.
فهل تتوحّد القوى المقاومة والممانعة، بعيداً من المذهبية والطائفية والانقسام السياسي والمصالح المادية في السلطة، لتتمكن من حماية أوطانها ووجودها، أم ستتناحر في ما بينها لتفسح الطريق أمام الاستعمار المتوحش الجديد؟
* كاتب لبناني