شكلت الأزمة السورية، التي دخلت ( بـ«قوة» كالعادة!) منذ حوالى أُسبوعين عامها الدامي الخامس، وتداعت قبل يومين إلى نزاع عسكري بالغ الخطورة ومفتوح على الأسوأ في اليمن، محطة بالغة التميّز في مجرى الاحتجاجات التي انطلقت في اواخر عام 2010 تحت عنوان «الشعب يريد اسقاط النظام» ويريد شيئاً من الحرية والعدالة الاجتماعية. هي، في تميُزها، كثًفت واختزلت الصراعات التي سبقتها في دول ما سُمِّي بـ«الربيع العربي». وهي أيضاً، رغم انطلاق بعض المشاركين فيها من مطالب مشروعة بإقامة نظام سياسي يقوم على المشاركة والكف عن احتكار السلطة بالقمع وبالتوريث وبالقوة، فإنها كثَّفت، ايضاً، عناوين تناقضات وطموحات إضافية تتصل بجوهر النزاع الدائر في المنطقة: الصراع العربي _ الصهيوني، الصراع على الأدوار الاقليمية الكبرى، الصراع على السلطة وبروز التيارات الدينية منافساً جدياً للسلطات والديكتاتوريات والملكيات القائمة...
ولأن هذه الصراعات جميعاً كانت محط اهتمام شديد من القوى الدولية الكبرى، فقد استدرجت الأزمة السورية، بشكل مبكِّر، تدخلاً دولياً كبيراً، مباشراً وغير مباشر، وخصوصاً من قبل الولايات المتحدة الأميركية والغرب والاتحاد الروسي والصين.
في أساس صمود النظام السوري كانت قدرته على زج واستخدام جيشه وأجهزته الأمنية في قمع ومواجهة المحتجين والمعارضين من دون أن يتعرضا للانقسام أو التحييد. في أساس صموده أيضاً ضعف «المعارضة الوطنية الديمقراطية» التي لم تستطع ان تجند وتقود شارعاً نشيطاً وفعالاً وقادراً على الاستمرار والتعاظم. أيضاً ساهمت تجارب سابقة للتجربة السورية (الليبية خصوصاً) في تحذير قطاعات وازنة من المجتمع السوري من مغبة الفوضى ومخاطر الافتقار إلى البديل الأفضل.
كذلك فقد حظي النظام السوري بدعم غير مسبوق بالمقارنة مع تجارب أُخرى: بدعم دبلوماسي (في مجلس الأمن: روسيا والصين)، ودعم عسكري (روسيا وإيران)، ودعم عسكري ومالي وقتالي (إيران وحلفاؤها)...
تداعت الأزمة السورية
إلى تأجيج الصراع المذهبي كما لم يحصل من قبل

أما ما ساهم في إطالة الصراع في سوريا أنه تحوَّل أيضاً، ومبكراً، إلى صراع عليها، أي تحَّول، كما أشرنا آنفاً، إلى صراع إقليمي ودولي من أوسع وأشمل الابواب واكثرها تفجراً: اي إلى صراع لم تعد التوازنات المحلية، مهما بدت راجحة بل وحاسمة أحياناً لمصلحة هذا الطرف أوذاك، صاحبة الكلمة الفاصلة فيه.
على الصعيد المحلي، حسِب النظام السوري أنه مختلف. وحين فاجأته بعض الاحتجاجات استشعر من القوة ما يتيح له رفض أي تنازل ومن المراس ما يبيح له استعمال العنف والقمع ضد المحتجين. في المقابل، جنح الفريق الأقوى والأكثر ارتباطاً بالأجندات الخارجية من المعارضين، إلى استخدام العنف والسلاح، مستدرجاً، بشكل ملح ومتواصل، تدخلاً خارجياً لم يكن حصوله ممكناً او حتى مرغوباً فيه من قبل القوة الأكثر تأثيراً، وهي الولايات المتحدة. ذلك أن إدارة الرئيس باراك أوباما اختارت استراتيجية عدم التدخل العسكري المباشر، من جهة، وتبنت سياسة توريط واستنزاف خصومها (روسيا وإيران والنظام السوري)، من جهة ثانية.
في خلاصة وعجالة يمكن القول إن الازمة السورية تحولت أم الازمات وأباها ايضاً! هي استدرجت توتراً كبيراً في لبنان ما زال قائماً حتى الآن، وما زال مرشحاً للمزيد من التوسع والمخاطر. وهي أطاحت الترتيبات والتوازنات الأميركية ـــ الإيرانية في العراق عبر التوترات السياسية والمذهبية والعرقية التي تداعت لاحقاً إلى توفير تربة حاضنة لنشوء «دولة الخلافة الإسلامية» على مساحة في العراق وسوريا تضاهي، جغرافياً وديموغرافياً، الدولتين الأصليتين اللتين حققتا من «التوحد» ما لم يتحقق لهما في ظل سلطة حزب البعث الذي حكم البلدين حوالى أربعة عقود من دون ان يوفر لعلاقتهما إلا التوتر والتنافر والصراع!
وتداعت الأزمة السورية إلى تأجيج الصراع المذهبي (السني الشيعي خصوصاً) كما لم يحصل من قبل. باتت إيران، بالنسبة إلى دول الخليج، هي الخطر وهي العدو الذي لا بأس من التنسيق من أجل مواجهته مع المغتصب الصهيوني. في المقلب الآخر مضت القيادة الإيرانية في التعويل غير المستدرك على التعبئة المذهبية وعلى تغذية حالة شبه «اسبارطية» بالاستناد اليها، ما وفر فرصة ثمينة لتعبئة مذهبية مضادة في مسار قد يتحول حرباً إقليمية أو حتى دولية بعد استيلاء الحوثيين على السلطة في اليمن والتدخل العسكري من قبل السعودية وحلفائها (السنة!) بذريعة الدفاع عن الشرعية اليمنية وبناءً على طلبها.
وبين ما تداعى عن استعصاء الأزمة السورية على الحلول والتسويات اندلاع عنيف للصراع على أوكرانيا وفيها: لإضعاف القيادة الروسية ولمعاقبتها على محاولة لعب دور خارجي معيق ومؤثر، بكل ما يتفرع عن ذلك الآن من نزاعات تبدأ من اسعار النفط ولا تنتهي باستعراضات القوة أو التهديد بها في ما يتخطى أوكرانيا إلى كل المدى الاستراتيجي الأوروبي وحتى الدولي: الأمني والاقتصادي والسياسي والعسكري.
لكن الحدث الأخطر الذي بلغ مداه الأقصى في ظل تمادي الأزمة السورية، إنّما كان وسيبقى حتى إشعار آخر (قد لا يكون مستبعداً أو حتى بعيداً بعد حرب اليمن!) إنما هو انفلات الإرهاب من عقاله وتمكنه من اقتطاع مساحات واسعة من كل من سوريا والعراق، ومن ثم تمكنه من أن يتحول أكثر من أي وقت سابق، وباء عالمياً يستطيع أن يضرب بقوة في العديد من العواصم والبلدان والمجتمعات، وبأكثر الطرق همجية ودموية وتخلفاً. تداعت عن الصراع في سوريا وعليها وعلى المنطقة ايضاً، أزمة المهجرين التي باتت تهدد بكوارث انسانية واجتماعية مخيفة. وتداعت أيضاً أزمة حضارية تتصل بالاعتداء على التراث الإنساني التاريخي القائم في أكثر من دولة (سوريا والعراق خصوصاً) على يد المجموعات المتطرفة الإرهابية التكفيرية. تداعت كذلك مشكلة الأقليات في شقيها: الاعتداء البربري على جماعات عرقية ودينية مغايرة، من جهة، وتنامي نزعة الاستقلال والانفصال بعد تراخي قبضة السلطات وضعفها أو تشتت جهودها، من جهة ثانية.
وفي امتداد الأزمة السورية وتماديها تبلورت، كما أشرنا، «الدولة الإسلامية» الداعشية والحرب «العالمية» على إرهابها. لكنها حرب استمرت تحتضن في باطنها نفس الحروب والصراعات والتناقضات بين «المتحالفين» الجدد، وبالتالي نفس المشاريع والمحاور السابقة، ودائماً بدور مبادر للإدارة الأميركية التي تستكشف دائماً أساليب سريعة لتجاوز الإخفاقات وفرصاً جديدة للهيمنة وتحقيق الأهداف القديمة (مفاوضات الملف النووي الإيراني).
حاولت الصهيونية استغلال هذا الوضع إلى الحد الأقصى. تعاظم الجشع والتطرف في الكيان المغتصب. غابت المفاوضات والتسويات. ازداد بناء المستوطنات والسعي الى التوسع. بلغت العدوانية ذروتها في الاعتداء الأخير على غزة الذي كان حرب تدمير وابادة صافية من دون ان يهتز جفن دولي أو عربي!
أدت كل هذه الاوضاع إلى تراجع مخيف في دور المؤسسات الدولية والاقليمية، كما أدت الى تعاظم ظاهرة القتل والعدوان والهمجية والارهاب.
أحداث اليمن محطة جديدة في هذا المسار الفوضوي الدموي الذي انطلق أساساً، من تعاظم نزعة الاستغلال والنهب والعدوان بدءاً من اطلاق يد الصهاينة في عدوانهم على الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة.
تضيع في مجرى ذلك، بسبب التآمر الاستعماري الصهيوني المستمر، وجزئياً بسبب سوء الأساليب، قضايا وتضحيات وبطولات. ذلك مدعاة اليوم، أكثر من السابق، لتفكر وتأمل وإعادة نظر.لا بد من منظومة مواجهة مغايرة تتسع لكل القوى والفئات المتضررة تعمل على تعبئة وتوحيد جهودها في معركة وصراع مصيريين ومديدين وشاملين كاللذين نعيشهما حالياً: معركة وصراع هما، بالنسبة لشعوبنا، كفاح ضار من أجل الإنسان والأوطان والسيادة والعدالة والحرية والحقوق والثروات...
*كاتب وسياسي لبناني