لعلّ المال ــــ بمعنى النقد والعملة ــــ هو من أهمّ «الاختراعات» التي استنبطها المجتمع البشري، خاصة اذا فهمنا الطبيعة «الوهمية» للمال في الاقتصاد الحديث.في تفسيره لماركس، يقول دايفيد هارفي إنّ المال يلعب دور «الحجاب» أو الحاجز الذي يخفي ظروف الانتاج في العلاقة الرأسمالية بين الشاري والبائع. النقد، ببساطة، هو مقابل رقمي لقوة العمل، أي أن الدولار الذي تملكه يساوي كمية محددة من العمل والخدمات يمكنك أن تحصل عليها بهذا الدولار.

بدلاً من أن تكون عملية الانتاج والتبادل اجتماعية وسياسية، بمعنى أن شراء حذاءٍ من اسكافي، مثلاً، يتضمن معرفة الاسكافي، وظروف عمله، ويتطلب منك أن تقدّم شيئاً مقابلاً يحتاجه الاسكافي؛ يسمح لك المال بأن تعزل نفسك عن عملية الانتاج هذه وكلّ ما يحيط بها، عبر استعمال النقد كواسطة كونية.
هكذا، يصير بامكانك أن تشتري أحذية ينتجها أطفال في باكستان، أو عمال يعيشون في حالة عبودية في بورما، من دون أن تضطر للدخول في تماس مع عملية الانتاج أو حتى معرفة أي شيء عن ظروفها. المال، يكتب هارفي، هو وسيلة لتحويل قدرة العمل الى مقياس كمي، مجرّد، موحّد، وقابل للتحويل والاستبدال؛ أي، بمعنى آخر، تحويل العمل البشري الى «سلعة».
الخاصية الثانية للمال، في عالم اليوم، هي أنّه عبارة عن رهانٍ على عملٍ وانتاج مستقبلي. قيمة العملة (بعد أن انتهى مبدأ التغطية الذهبية) يستمدّ من العمل والانتاج الاقتصادي في البلد الذي يصدرها. وهذه القيمة لا تعبّر عن عملٍ وانتاجٍ حصل في الماضي، بل عن عملٍ وانتاج يتوقّع حصوله في المستقبل. اذا توقّف العمل والنشاط بالكامل في اميركا اليوم، مثلاً، لا تعود لكل الدولارات الموجودة في السوق أية قيمة، بغض النظر عن كل الانتاج السابق.
كأي سلعةٍ أخرى، اذاً، قيمة العملة يحددها العرض والطلب عليها؛ اذا كان الاقتصاد الأميركي مزدهراً وينتج الكثير من العمل والخدمات، سينعكس ذلك طلباً على العملة الأميركية ويزيد قوّتها، والعكس بالعكس. تحويل العمل الى عملة وتحويل العملة الى سلعة هو أساس الاقتصاد الحديث، واذا تعمّقنا بالطريقة التي يعمل بها النظام المالي العالمي، ودور الدولار فيه، نفهم أنّ «الاستغلال» ــــ أو التبادل غير العادل ــــ على مستوى العالم يتمّ بشكلٍ أساسي عبر تركيبة النظام المالي، لا عبر الاستغلال الاقتصادي المباشر فحسب.
هذا هو «مركز التحكّم» الذي يترجم القوة الأميركية الى مالٍ يتمّ خلقه «من الهواء» (حرفياً)، وبسببه تمكّن بنك الاحتياط الفدرالي من توليد أكثر من أربعة تريليونات دولار في السنوات الماضية من اللاشيء، ومن دون أية نتائج سلبية على الاقتصاد وقيمة العملة (وهو موضوع المقال القادم). هذا هو الامتياز الذي ستدافع عنه الولايات المتحدة بشراسة، والذي، ان زال، قد يُسقط الامبراطورية الأميركية بقدها وقديدها.