عبد الحسين شبيب *
تشكل إسرائيل أبرز الوحدات السياسية ــ الدول ــ التي تعد المجال البحثي الأول لتقصي تداعيات كلا الخيارين المطروحين لمعالجة البرنامج النووي الإيراني: الضربة العسكرية، أو الاستسلام للأمر الواقع المعبر عنه دبلوماسياً بالعقوبات، غير المجدية عملياً، والتي تساهم في تقطيع الوقت بانتظار إعلان الولايات المتحدة فشلها في وضع حد لما تسميه طموحات إيران النووية.
لماذا إسرائيل؟ لأنها المؤشر الأبرز الذي يعتمد في قياس الخطر النووي الإيراني المزعوم. فهي الحاضرة الوحيدة ــ أحياناً مع قلق وهواجس عربية غير ذي قيمة ــ في النقاش العالمي المثار أميركياً في الاتهامات الموجهة لإيران بأنها تسعى للوصول إلى مرحلة تمكّنها من إنتاج السلاح النووي، لتصبح بذلك تهديداً وجودياً مضاعفاً للدولة العبرية. فالجمهورية الإسلامية الإيرانية، في وضعيتها الراهنة، وبأسلحتها التقليدية التي تعلن يومياً تطويرات نوعية فيها، تشكل “خطراً وجودياً داهماً” رافضاً لـ“دولة إسرائيل”، ويتولى الرئيس “المتشدد” (حسب التوصيف الغربي) أحمدي نجاد التعبير عنه لفظياً باستمرار، وعملياً أيضاً عبر المداومة على تقديم دعم لامحدود في مختلف المجالات لقوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية، فكيف إذا أصبح هذا البلد قوة نووية، ولو مدنية في المرحلة الأولى؟
إذاً منشأ الهواجس المثارة إسرائيلي بالدرجة الأولى، والتحريض على الإسراع في وضع حد لتطور هذا البرنامج بأي وسيلة، حربية أو غير حربية، تقف وراءه إسرائيل أيضاً. من هنا فإن أي ضربة عسكرية لإيران سيكون من الضروري رصد نتائجها على إسرائيل أولاً. في هذا السياق ثمة كلام ينطوي على قدر من السذاجة مفاده أن الإسرائيليين لن يتدخلوا في الحرب ــ إن حصلت ــ لتجنب ردود فعل العالم الإسلامي والعربي، ولتسهيل مهمة الأميركيين. وسواء شاركوا مباشرة (البعض يتحدث عن تحرك عسكري إسرائيلي أحادي) أو لم يشاركوا فإن أولى الساحات التي ستصب عليها إيران جام غضبها هي إسرائيل. والترجمة التطبيقية للتهديدات الإيرانية تقتضي توقع مشهد تنهمر فيه الصواريخ الإيرانية البعيدة المدى على كل المجال الجغرافي الفلسطيني الذي يحتله الإسرائيليون. الأهم من ذلك أنها لن تكون صواريخ صوتية أو استعطافية، بل ستكون جزءاً من رد مدروس ومنظم ومحددة نتائجه مسبقاً، بحيث يلحق خسائر جوهرية ستترك آثاراً قاسية على البنية الإسرائيلية بكل مكوناتها. ويبدو أن الإسرائيليين هنا أمام معضلتين جوهريتين: فحرب تموز الأخيرة أظهرت أن لدى عدوهم حزب الله “بنك أهداف” سمين جداً وجّه إليه صواريخه بمختلف عياراتها طوال ثلاثة وثلاثين يوماً. وإذا كان الإسرائيليون لا يكلّون عن الحديث عن العلاقة الاستثنائية بين الحزب وإيران، فيجدر بهم أن يتوقعوا أن الصواريخ الإيرانية ستعمل وفق “بنك الأهداف” هذا، إذا لم يكن لدى الإيرانيين إضافات مهمة عليه، بحيث يفترض ألا يتوقع صناع القرار الإسرائيليون صواريخ تتساقط عليهم عشوائياً بل بطريقة ممنهجة وذات أهداف واضحة.
المعضلة الثانية أن نظام الدفاع الصاروخي الإسرائيلي بمختلف طرازاته: حيتس وباتريوت وغيرها، سواء المنشورة في إسرائيل أو التي نشرها جورج بوش في أماكن من الشرق الأوسط ضمن استراتيجيته الجديدة للعراق للدفاع عن حلفائه في المنطقة، لن يشكل مظلة حماية تعطل فعالية الصواريخ الإيرانية. صحيح أنها ستنجح في إسقاط عدد منها، لكن الأصح انه لا يوجد درع صاروخي قادر على التعاطي مع غزارة نارية يقدر الإيرانيون على استخدامها دفعة واحدة. هذا فضلاً عن وسائل رد أخرى ستلجأ إليها الجمهورية الإسلامية في إطار استراتيجية مفاجآت أعدتها لاحتمال كهذا.
طبعاً في سياق احتمالات كهذه لن تكترث إيران لردود فعل تستنكر مهاجمة إسرائيل من دون سبب ــ كما سيقال ــ لأن من يتعرض لحرب من دون مسوّغ قانوني أو واقعي لن يبحث عن مسوغات قانونية أو واقعية في إطار رده على من حرّض عليها، وخصوصاً في لحظة عالمية سيبدو فيها الحديث عن القانون والشرعية الدوليين كنكتة سمجة.
سيؤدي هذا المشهد إلى تخلخل كبير في أسس المجتمع الإسرائيلي ناجم من استهداف ثان قاس لجبهته الداخلية، بعد استهدافها من حزب الله في حرب تموز 2006، وهو أمر جديد على حروب إسرائيل، ويشكل أحد أبرز المجالات الحيوية التي تضبط إيقاع الدولة العبرية، باعتبار أنها ليست مهيأة بنيوياً ــ وليس لوجستياً كالملاجئ وغيرها ــ لحالات كهذه، وإذا كانت مهيأة فلمدة قصيرة لا تتجاوز أربعة أسابيع. في الحالة اللبنانية قبع جزء من مستوطني الشمال في الملاجئ وهرب جزء آخر في اتجاه الوسط والجنوب باعتبار أنه آمن، لأن المعادلات المطروحة آنذاك حددت نطاقات جغرافية أعلنها حزب الله مراراً والتزمتها إسرائيل.
أما في الحالة الإيرانية فإن الشمال الإسرائيلي مثل الوسط والجنوب يقع كله على خط نشاط صاروخي إيراني ذي مدى واحد، ويقتضي الأمر فقط تعديل درجات الرمي لقواعد الإطلاق.
في هذه الحالة ستكون النتائج معاكسة: لن يؤدي عدم التدخل الاسرائيلي المباشر في الحرب على إيران إلى التعاطف مع الولايات المتحدة، فيما الرد الإيراني المركّز ــ والمنتج ــ على الأهداف الإسرائيلية سيثير حماسة مفرطة في العالمين العربي والإسلامي.
وإذا كان مؤشر “المناعة القومية” لدى الجمهور الإسرائيلي بحسب دراسة أعدها “مركز أبحاث الأمن القومي” في جامعة حيفا لسبر مدى تأثير نتائج حرب تموز في هذه “المناعة” (نُشرت نتائجه كاملة في مؤتمر “هرتسيليا” للأمن القومي في نهاية كانون الثاني المنصرم)، قد أظهر “انخفاضاً حاداً في ثقة الجمهور الإسرائيلي بقدرة جيشه على حسم الحرب”، و“لم يعد يصدق أن هذا الجيش هو الأقوى في العالم”، و“أن هذه الحرب ضربت ثقة هذا الجمهور بقدرة إسرائيل على التأقلم مع التهديدات الخارجية”، فكيف ستكون معطيات هذا المؤشر عندما تقف القوة العسكرية الأقوى في الشرق الأوسط عاجزة عن وضع حد لمشهد الرعب المتوقع.
إذاً يفترض توقع نتائج كارثية على عناصر الاجتماع السياسي الإسرائيلي، وأبرزها عنصرا الثقة بالمؤسستين العسكرية والأمنية، والجذب إلى الرفاه الاقتصادي والمعيشي، إذا نفذت إيران تهديداتها بالرد على أي عدوان تتعرض له.
الأرجح أن مثل هذه التقديرات تساهم إلى حد كبير في لجم الخيارات العسكرية إلا إذا جاء البعض ليقارن بين خسارتين واقعتين لا محالة: خسائر الحرب وخسائر عدم الحرب.
فمعالم المشهد الإسرائيلي واضحة في الخيار الأول، وكذلك في الثاني. فترك إيران تمضي قدماً في برنامجها النووي سيضيفها لاحقاً إلى نادي الدول النووية. وحتى من دون أن تجري اختبارات نووية لأغراض عسكرية سيتم التعاطي معها على أنها أنتجت أو أصبحت قادرة على إنتاج السلاح النووي. وبالتالي ستدخل إيران في دائرة “الغموض النووي البنّاء” الذي يمكن أن تغادره “إسرائيل” (لم توص اللجنة التي شكلت منذ سنتين تقريباً لمراجعة “نظرية الأمن القومي الإسرائيلي” بما فيها “استراتيجية الغموض النووي البناء” بالتخلّي عن هذه الاستراتيجية)، على رغم خرقها من رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت وقبله وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس، لأن هناك من قد يجد في الوضع الإيراني الجديد حجة للإفصاح عن الترسانة النووية الإسرائيلية من أجل إيجاد توازن الردع الاستراتيجي الذي يشكله هذا السلاح.
لكن مشكلة إسرائيل تكمن في مكان آخر. فإيران النووية، المدنية أولاً، ستشكل مظلة لحلفائها السياسيين تجعلهم يستفيدون من ميزات الردع التي توفرها القوة النووية، وتمنحهم قدراً من الحصانة تدرأ عنهم أخطاراً معينة، وتفعّل من وجودهم ونشاطهم. في المقابل فإن مؤشرات الاهتزاز في المجتمع الإسرائيلي ستتعاظم لأن “قدر التعايش مع إيران نووية” ليس سهلاً إقناع الإسرائيليين به، وخصوصاً الذين يئسوا من جيشهم ومن قيادتهم السياسية، وبالتالي فإن أولئك الإسرائيليين الذين لديهم خيارات أخرى في الحياة خارج “أرض الميعاد” لن يترددوا في العودة إلى أوطانهم الأصلية التي لا يزالون يحملون جنسيتها، تاركين السمن والعسل وراءهم لمن يقدر على التعايش مع “خطر وجودي” ذي تاريخ “إمبراطوري”.
* صحافي لبناني