ألبير الخوري *
سيغولين رويال، المرشحة الاشتراكية للرئاسة الفرنسية قررت منذ اللحظة الأولى لدخولها معركة السباق إلى الإليزيه، إشراك مواطنيها في حملتها الانتخابية، حيناً من خلال اللقاءات المباشرة في المهرجانات والمؤتمرات، وأغلب الأحيان من خلال الإنترنت، فكانت السَبّاقة بين السياسيين، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، في اعتماد أحدث وسائل الاتصال، والتي سرعان ما تحولت إلى مجال دراسة وتحليل من العديد من الأحزاب السياسية حول العالم. وبهذا التوجه وعلى هذه القناعة، أعلنت سيغولين رفضها الإفصاح عن تفاصيل برنامجها الانتخابي ما لم تستشر العدد الأكبر من الناخبين، وفي يقينها أنها قادرة في هذه الفترة الفاصلة عن الاستحقاق الرئاسي، التعرف من الفرنسيين أنفسهم بمختلف الأزمات والمشكلات الداخلية، وخصوصاً الاقتصادية منها والاجتماعية، وتبيان الحلول المقترحة منهم... وكذلك الحال بالنسبة إلى السياسة الخارجية الفرنسية، «المنكمشة» في رأيها و«المتراجعة» أمام توسّع النفوذ الأميركي على كل المستويات وفي جميع أنحاء العالم. ويبدو أن الفرنسيين استجابوا للعبة، وحيث حوالى 52% من المقترعين أيّدوا مبادرة المرشحة الاشتراكية، فيما رأى 55% أنها تخطىء في تأجيل الإعلان عن برنامجها الرئاسي طويلاً في حال انتخابها.
والوقع أن السيدة رويال السَباقة في ابتداع هذه الوسيلة، لم تعد وحدها التي تقدم على استشارة مواطنيها قبل أن تعلن برنامجها الانتخابي. هيلاري كلينتون التجأت هي الأخرى إلى هذا الأسلوب. فعندما أقدمت لأسابيع قليلة مضت على تأليف «لجنة الرئاسة التمهيدية»، بادرت إلى ذلك من خلال شريط فيديو يجري بثّه عبر الإنترنت، وعبر هذه «الشبكة المتطورة»، كشفت عن موقعها الإلكتروني أمام مواطنيها لتعلن بدء معركتها الرئاسية. أضافت: «إنني في معرض إقامة حوار معكم، مع الولايات المتحدة لأننا إذا أردنا حل الأزمات التي نعانيها، فلا بد من أن نتشارك جميعاً في هذه المعركة». وختمت بالقول: «لنتحاور، لنتناقش، لنتبادل الآراء بين ما أحمله من أفكار وبين أفكاركم. ألا توافقوني الرأي في أن واشنطن تفردت في الفترة الأخيرة في اتخاذ القرار، وها نحن جميعاً نواجه النتائج. قد لا أتمكن من إجراء لقاء مع كل منكم في هذه القاعة، ولكن بفضل التقدم التكنولوجي سوف أبادر منذ هذه اللحظة إلى بثّ أشرطة فيديو أحاوركم من خلالها وأتلقى أجوبتكم. إذاً، لنبدأ الحوار. شيء ما ينبئني بأن أحاديثنا المشتركة سوف تكون مشوّقة وبنّاءة».
وفي بريطانيا لم تغب لغة الحوار السياسي عن الإنترنت وإن كانت في صورة خجولة إلى حد ما، أو في كثير من الفطنة والحذر. تؤكد ذلك الوسيلة الخطابية «الخاصة جداً» و«الغامضة» إلى حد ما التي انتهجها حزب العمال في توجيه رسائله ودعواته الإلكترونية إلى أعضائه، بحيث بدا «العمال الجدد» كما لو كان منظمة سرية(!) فعلى موقعه الإلكتروني أعلن الحزب أنه في طور التحضير لبرنامجه السياسي للعام الحالي من خلال ما سماه «المشاركة مع الحكومة» وفيه يدعو «كل كوادره» (الأعضاء المنتسبين، المجالس المحلية، النقابات، الجمعيات الموالية والنخبة العمالية) وأيضاً بقية المجتمع البريطاني، لكأن هذه البقية لا تدخل قي النسيج الاجتماعي الإنكليزي، أو ربما هذا المجتمع «عمالي» بالكامل. ومقارنة مع خطاب السيدة كلينتون، نكتشف مدى عجز «العمال الجدد» عن استغلال الخطاب الإلكتروني بالوسائل والطرق التي تتلاءم مع تطورات العصر ومتطلبات الأجيال الجديدة.
وفي جميع الأحوال، فإن قرار الأحزاب الديموقراطية في المجتمعات الغربية بإشراك مواطنيهم في حملاتهم الانتخابية لم تأتِ من عبث، بل نتيجة دراسات وإحصاءات كشفت عمق الهوة بين القيادات والمجتمعات، ما يؤكد انعدام الثقة بين الطرفين، وبالتالي تصاعد الأزمات والصراعات الداخلية.
ففي استطلاع أخير تناول إصلاح الانتخابات في ولاية كاليفورنيا، أجراه «معهد نيو أميركا» (New America Institute)، تبين أن «أكثرية المقترعين يديرون آذانهم عن كلام المسؤولين ووعودهم، إذ ما إن يتولى هؤلاء مناصبهم العالية حتى تصبح مطالب الشعب آخر اهتماماتهم. والقول نفسه ينطبق على ما يسمونه خبراء اختصاصيين، يدّعون الاستقلالية في آرائهم ومواقفهم». وفي بريطانيا كشفت دراسة أخيرة عن حوالى 70% من الناس يولون ثقتهم قياداتهم الشعبية، متخلّين عن سابق إصرار وتصميم عما تسوّقه قياداتهم السياسية وكبار المسؤولين. وبحسب الدراسة، فإن الخلافات داخل مجلس اللوردات، على سبيل المثال، غالباً ما تستعر لأسباب «تقنية» لا شأن لها بمطالب الشعب، وخصوصاً الفقراء وأصحاب الدخل المحدود.
بقي أن نعرف مدى جدية السياسيين في استغلال وسائل تقنيات الاتصال الحديثة للتعبير عن برامجهم وتوجّهاتهم، وبالتالي لإقامة حوارات مستمرة مع حلفائهم ومعارضيهم على السواء؟
سيغولين رويال كسبت الرهان حتى الآن. فهي تستقبل على موقعها الإلكتروني عشرين ألف رسالة في الشهر، متنوعة المواضيع والطروحات والحلول، ويمكن المراسلين اختيار أفضل ما تقترحه المرشحة الاشتراكية، بالتوالي، من نجمة واحدة إلى خمس نجوم، ثم يصار إلى تحليل هذه الرسائل من خلال فريق يضم 45 متخصصاً في الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والدبلوماسية، ومن بعد تبويبها لاعتماد أفضلها في برنامجها الرئاسي. «إنها عملية دقيقة وشفافة» تقول سيغولين، وتضيف: «لكنها تبقى الأفضل والأكثر صدقاً وتقارباً مع الناس».
ولكن، ماذا لو تضاربت آراء الناس مع تطلعات الحزب الاشتراكي وبرنامجه للسنوات الرئاسية المقبلة؟ وهل يمكن السيدة رويال أن تعارض حزبها، وبالتالي الدفاع عن أفكار هي في الحقيقة أفكار منتخبيها وما يتوقعون منها في حال دخولها الإليزيه؟
أسئلة مشروعة ومحقة قد يطرحها جميع الأفرقاء، من موالين ومعارضين، غير أن أشدها حرجاً تلك التي تطرحها الأحزاب المنافسة الأخرى: ألا يجدر برئيسة فرنسا المقبلة أن تبدع أفكارها الخاصة؟ أليس مجرد اعتمادها على أفكار غيرها والأخذ بها، وإن كانوا مناصريها، يشكل فجوة كبيرة في قدراتها الفكرية والإرادية والإدارية؟؟
يبقى شيء أكيد ومثير، إذ في حال فوز سيغولين رويال بالرئاسة الفرنسية، فإنها تكون أرّخت في معركتها لوسيلة انتخابية جديدة أوصلتها إلى القمة.
* كاتب لبناني