ليلى نقولا الرحباني *
لا يكاد يمر يوم إلا تطالعنا فيه التصريحات الأميركية بدعم للحكومة التي يطلقون عليها إسم حكومة «السنيورة»، وليس «الحكومة اللبنانية»، ولا يكاد يمر يوم إلا يؤكد فيه الأميركيون المحافظة على الديموقراطية «الفتية» التي أرسوها في لبنان.
ونحن، كلبنانيين، نصدّق أن الأميركيين يدعمون السنيورة، وما بقي من حكومته، وإلا لما استطاعوا الاستمرار في الحكم بالرغم من نزول أكثر من نصف الشعب اللبناني، مطالباً إياهم بالرحيل. لكن، كمراقبين، يحق لنا إقامة مراجعة بسيطة وشاملة للدعم الأميركي للبنانيين، وخاصة المسيحيين منهم خلال نصف قرن من الزمن، أي منذ دخول الولايات المتحدة الأميركية الى المنطقة وارثة الاستعمار القديم، ومعرفة مدى التزام الأميركيين بهذا الدعم ومدى استفادة لبنان والمدعومين منه.
نبدأ مع مشروع الرئيس الأميركي أيزنهاور عام 1957 لسد الفراغ الناتج عن نهاية النفوذ الأنغلو ـــ فرنسي في الشرق الأوسط، حينها أيّد «فتى العروبة الأغرّ» الرئيس كميل شمعون مشروع أيزنهاور وحلف بغداد الذي انتمت إليه دول، مثل: باكستان، إيران، تركيا والعراق، بالإضافة الى بريطانيا، ما أدى الى ثورة في لبنان عام 1958 دعمها النظام الناصري في مصر وسوريا، فهبّ الأميركيون لمساعدة النظام اللبناني، كما أشيع، وتم إنزال المارينز على شواطئ لبنان على أثر الانقلاب العسكري في العراق الذي أطاح المملكة الهاشمية، لكن المناورات الاستعراضية هذه انتهت باتفاق أميركي مع رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وهو العدو السياسي اللدود للرئيس شمعون، اللواء فؤاد شهاب، قائد الجيش الذي امتنع عن زج الجيش في الصراع الداخلي وعقّد مهمة كميل شمعون. وهكذا خُذل شمعون.
وفي الحرب الأهلية اللبنانية، كان للأميركيين الباع الطويل في دعم رؤساء الجمهورية المتتالين. ففي عام 1979، على أثر الاجتياح الإسرائيلي الأول للبنان، نصحت واشنطن الرئيس اللبناني الياس سركيس بأن ينشر الجيش اللبناني في الجنوب، موحية له أن بإمكانها إرغام إسرائيل على الانسحاب من الجنوب، لكن القصف الإسرائيلي أوقف الجيش اللبناني في بلدة كوكبا، بعيداً عن المنطقة المحتلة. وهكذا خُذل سركيس في بداية عهده.
وفي عام 1982، بعد الاجتياح الإسرائيلي الثاني، وعلى أثر ترحيل المقاتلين الفلسطينيين عن لبنان، قام الأميركيون بإنزال المارينز على شواطئ بيروت، متذرعين بأن السياسة الأميركية تهدف الى استعادة لبنان سيادته واستقلاله كما صرح الرئيس الأميركي رونالد ريغن. واستمر الوجود الأميركي السياسي والعسكري خلال عهد الرئيس أمين الجميل، لكن ذلك لم يعطه قدرة على الحكم. وبالرغم من انسحاب جنود المارينز كقوة مقاتلة على أثر الهجوم الذي استهدفهم وأدى الى مقتل حوالى 280 منهم، بقي الرئيس ريغن على موقفه وصرّح في مؤتمر صحافي في 24 تشرين الأول 1983 بما يأتي:
“إن تعزيز السلام في لبنان يشجع قوى السلام في منطقة الشرق الأوسط، وهذا ليس هدف الحزب الجمهوري أو الحزب الديموقراطي وإنما هو هدف أميركي. إن السلام في لبنان هو مفتاح للاستقرار في المنطقة اليوم وفي المستقبل”.
ولم يحل كل الذي قيل ومورس من استمرار التنسيق بين الجميل والأميركيين، وكلنا يذكر التصعيد الكلامي الذي أطلقه الجميل من واشنطن، معتبراً أن كل طلقة سورية تستهدف بيروت، سيرد عليها باستهداف دمشق، ولا ينسى أهل بيروت ذلك اليوم المأسوي الذي تساقطت فيه القنابل من كل حدب وصوب على مدينتهم وأحيائهم، ولم يحرّك الأميركيون ساكناً. لكن ذلك كله لم يحم الجميل عند انتهاء ولايته، إذ رغم علاقته الجيدة مع الأميركيين، التي ما زالت مستمرة حتى الآن، فقد رأت الإدارة الأميركية أن إرغام “القوات اللبنانية” الرئيس الجميل على القبول بالنفي القسري فور انتهاء عهده أمر داخلي مسيحي، ولا شأن لهم به. وكان الخذلان الثاني للجميل.
ولا يمكن أن ينسى اللبنانيون ما قام به الأميركيون والسعوديون من مبادرات تجاه البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير، عندما انتهى عهد الجميل وتشكلت حكومة انتقالية يرأسها العماد ميشال عون، حيث قام السفير الأميركي إدوارد ووكر والرئيس رفيق الحريري (ممثلاً السعودية) بموافاة البطريرك الى روما، حيث حل غبطته ضيفاً على الفاتيكان في شهر تشرين الأول من عام 1988. لقد وعد السفير ووكر والرئيس الحريري البطريرك بأن سوريا ستختار رئيساً للجمهورية من خمسة مرشحين موارنة «يختارهم غبطته». وانتهى الأمر بوعود لم ينفذ منها الأميركيون شيئاً، بل أقاموا وصاية سورية على لبنان أعادته سنين الى الوراء. ومن الصدف أن السفير ووكر كان مساعداً لوزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط عندما زار البطريرك صفير العاصمة الأميركية شتاء 2001، ولقد أشيع يومذاك أن السفير ووكر هو من أوصى البيت الأبيض بألّا يجتمع الرئيس الأميركي جورج بوش الابن بالبطريرك الماروني، معتبراً أن هذا سيشكل رسالة غير مرغوبة للجو الإقليمي والداخل اللبناني لأنه سيكون أول زعيم لبناني وعربي يجتمع بالرئيس الأميركي الذي بدأ عهده في 20 كانون الثاني 2001.ومَن من اللبنانيين يستطيع أن ينسى دعوة السفير الأميركي جون ماكارثي من إهدن الى قائد “القوات اللبنانية” سمير جعجع، للوفاء بوعده والتحرك ضد الجنرال ميشال عون، الذي كان رأس السلطة التنفيذية آنذاك؟ وبسرعة، أطاع جعجع الأوامر وأدّت «القوات اللبنانية» بقيادة سمير جعجع المهمة المطلوبة منها بالضبط، فدخل السوريون المناطق «الشرقية» بدعم أميركي واضح. وبالرغم من ذلك، رأت الإدارة الأميركية أن سجن قائد “القوات اللبنانية” ومحاكمته وإدانته في عهد الرئيس الياس الهراوي، أمر لبناني داخلي لا تستطيع التدخل فيه.
بالرغم من كل الشواهد التاريخية لم يقتنع الساسة اللبنانيون عامة والمسيحيون خاصة بأن تجاربهم مع الدعم الأميركي لم تصل إلا الى خذلان وتخلّ عنهم في نهاية المطاف، ولم تثمر لهم وللبنان سوى الدمار والويلات والحروب، ومع ذلك ما زلنا نشهد استدراجاً لعروض خارجية يسوقها الأطراف اللبنانيون ضد إخوتهم في المواطنية، فاسحين في المجال لتدخلات لا طائل لها ولا قدرة على التملص منها، ولنا في الحاضر القريب مشاهد وتجارب حيث يصرّح جميع الأطراف المخلصين في المعارضة والموالاة أنهم يريدون الحل ويؤمنون أن لبنان محكوم بالتوافق بين أبنائه. وبالرغم من ذلك، تتصاعد التهديدات الخارجية ويضع الأميركيون شروطاً تعطل الحلول وتجهض المبادرات، وها هي رايس تقرر: «لبنان خط تماس أول في معارك أميركا في الشرق». فمتى يتعلم المسؤولون اللبنانيون؟ ومتى يتّعظ بعض القادة المسيحيين من تجاربهم الطويلة مع الأميركيين التي لم تكن يوماً لمصلحتهم أو لمصلحة المسيحيين؟
* باحثة لبنانية