سركيس أبو زيد *
فجأة أعلن بعض اللبنانيين حبهم للحياة والعيش «على المزاج» والتمتع بالمرح والفرح والطرب. هكذا، أزاحوا غبار الماضي عن ملامحهم ونهضوا من توابيتهم ليشنوا حملة إعلانية تبث «السرور والانشراح» رافعين شعار «أنا أحب الحياة» ومروّجين له. كذلك واكبت هذه الموجة كتاباتٌ وكليباتٌ تمجّد ثقافة الحياة وتتهم اللبناني الآخر باحتراف «الحزن» وثقافة الموت. وهكذا، انقسم اللبنانيون كما هم منقسمون على كل شيء وأي شيء، بين فريق يحب الحياة بأي ثمن وكيفما كانت، وفريق آخر يحب الحياة بكرامة وبلا ديون معبّراً عنها بحملة إعلانية مضادة.
لا شك في أن شعار «حب الحياة» هو شعار معبّر ومغرٍ، وهو مبادرة ذكية وخبيثة ضد الاستشهاد والمقاومة والثورة ورفض الذل والاستسلام، ومحاكاة موفقة لغريزة العيش والاستمتاع والروح الأبيقورية، إلا أنه كذلك يثير أسئلة بديهية وعفوية: من هم هؤلاء الذين يدعوننا الى «حب الحياة» وما تاريخهم؟ من جعل الحياة في بلادنا لا تطاق؟ من منعنا وحرمنا حب الحياة؟ ما الذي دفعنا الى المقاومة والاستشهاد والعمليات الاستشهادية؟ لماذا نثور ونموت مناضلين أو «مقنَّصين»؟ هل اخترنا نحن بإرادتنا هذه الطريق الشائكة والمزروعة بالدم والرصاص والآلام؟ أم أميركا وإسرائيل والاستبداد الغربي والعربي والعبودية وغرق بلادنا في الحقد والفتن والجثث؟ أليس ظلم الإقطاع وفتن الطائفيين وجشع الرأسمالية المتوحشة ودبابات الاغتصاب هي التي قنصت الفرح في ملاعب الطفولة وحقول المزارعين ومصانع العمال وشوارع الحارات وهجّرت الشباب وهدّمت المنازل وصبّت الدموع في أعين الأمهات والآباء؟ لماذا نلوم الثائر والمقاوم في سبيل الكرامة والحياة والحرية، ولا نتهم الغاصب والمستعمر والمستكبر والطائفي والمستبد؟
والأنكى من ذلك أن الذي يعظنا اليوم بحب الحياة هو نفسه إقطاعي الماضي، ومستبده، هو نفسه الذي هجّر وقتل على الحواجز وباع الوطن بكرسي ورزمة دولارات. هو نفسه الميليشيوي وقاطع الطرق والقناص والخاطف والجزار. هذا الذي يدعو اليوم الى الحياة، هو نفسه الجلاد يلبس ثوب الضحية.
لهؤلاء نقول، نعم نحن نحب الحياة، لكننا نحب الحياة بلا طائفية وإقطاعية ورأسمالية متوحشة، بلا ذل واستسلام وخضوع، بلا دم ودموع.
هذه الطبقة السياسية المجرمة تثأر من التاريخ والمنطق والحق، تقتل الذاكرة وتدفن الأخلاق وتقنص كرامة الإنسان، وكأنها تحاكم أهل صور لأنهم أغلقوا بوابات المدينة وأحرقوها ولم يُدخلوا الإسكندر الغاصب، لأنهم صمدوا وكسروا الغزاة. وكأن هذه الطبقة تريد محاكمة المسيح لأنه اختار أن يصلب ويعذّب على أن يخنع للقيصر. هم يحاكمون سقراط لأنه فضّل طعم السم على طعم خيانة الحق.
إنهم اليوم يريدون محاسبة المناضلين والثوار والأحرار في العالم وعبر التاريخ، لأنهم فضّلوا الموت بكرامة على الحياة بذلّ.
الدعوة الى حب الحياة هي دعوة مباركة عندما توجّه ضد الاستبداد والاحتلال والظلم، لا عندما يبشرون بها بغية السير بالحياة الى مقصلة الفتنة. والدعوة الى حب الحياة تكون في محلها عندما توجه ضد أنظمة الاستبداد والاحتلال التي تحرمنا الحياة حتى قبل أن نحبها.
اليوم، هؤلاء الذين يذمون ثقافة الشهادة، يدركون أن دمها هو الذي يعبّد طريق الحياة والحرية والعزة، لكنهم مع ذلك، يصمون آذانهم ويغلقون أعينهم، وكما خانوه سابقاً، يخونون جراحات المسيح ويتنكرون لها، إنهم يقتلون المسيح مرتين.
* كاتب لبناني