توفيق المديني *
لقد احتدم التناقض الجوهري بين القومية العربية الحديثة والإسلام السياسي في مسألة الديموقراطية، وحقوق الإنسان، وحقوق الأقليات، وحقوق المرأة، وقضايا المساواة بين الرجال والنساء أمام القانون، وتطبيق الحدود، وبعض أوجه ممارسة حقوق المواطنة، ورؤية الإسلام السياسي إلى الديموقراطية وتعدد الاجتهادات داخل قياداته، التي يذهب البعض منها إلى القول بالتناقض التام بين الإسلام والديموقراطية، فيما يذهب البعض الآخر إلى المطابقة بين المبادئ الديموقراطية والشورى الإسلامية. وعندما كان العالم العربي يشهد في مرحلة الخمسينيات والستينيات تعاظم الثورات التحررية السياسية، وقيام الانتفاضات والحركات الشعبية والانقلابات التي تطيح الأنظمة التقليدية الموالية للغرب، وتغيّر نظام الملكية من تطبيق الإصلاح الزراعي إلى تأميم الشركات الكبيرة والملكيات الكبيرة، حققت الحداثة العلمانية بعض الانتصارات والتقدم، لأنها كانت جزءاً من الصراع الإيديولوجي والسياسي والاجتماعي الجاري على الصعيد العربي بين القوى الثورية التي أسهمت في نشر الأفكار القومية عامة والماركسية خاصة، والقوى التقليدية والرجعية المحافظة.
ولكن في ظل الوضع العربي القائم المتسم بالتراجع والهزائم والانكسارات، وهيمنة الإسلام السياسي، ولجم الحركة النقدية الجذرية، تشن الحركة الإسلامية هجوماً في الميادين السياسية والإيديولوجية والثقافية، وتطرح مطالبها الإيديولوجية والاجتماعية، وترد على أطروحات الحركة القومية والماركسية ببرنامج إسلامي واسع له جذوره التاريخية، وركائزه الشعبية، ومواجهة الوحدة القومية بوحدة إسلامية، والاشتراكية باقتصاد إسلامي، والديموقراطية بالشورى، وحقوق الإنسان والحريات الديموقراطية بتطبيق الشريعة. فيكون الهجوم الإيديولوجي والسياسي شاملاً، ويصبح العلمانيون كفرة وملحدين وخارجين على الإسلام. وقد أثبتت التجربة العربية الماضية والحالية انه لا يمكن أن نجد منفذاً أو حلاً جذرياً لموضوع العلمانية بهذه الطريقة من المناقشات الجدلية السياسية الحامية بين الإسلاميين والقوميين، لأن التناقض الجوهري بين القومية العربية الحديثة والثورية وبين الإسلام السياسي يتمثل في حل قضية الديموقراطية، التي لا يمكن تلمّسها وفهمها فهماً علمياً سليماً خارج سياق الصيرورة الاجتماعية العربية، وما تتطلبه من إنجاز ثورة ديموقراطية.
فالعالم العربي يعاني التأخر التاريخي، والتخلف الشديد، والتجزئة، وبقايا الإقطاع والقبلية والطائفية، ومخلّفات القرون الوسطى، والإقليمية، والاستبداد، والتمييز الطبقي الحاد، وهيمنة الاستعمار الجديد ممثلاً بالإمبريالية الأميركية، وهو تابع أو شبه تابع في مجمله، ويعيش في مرحلة ما قبل الاندماج القومي. ولذلك فإن الثورة الديموقراطية لم تنجز فيه في العهد الكولونيالي، ولا في عهد الاستقلال السياسي، وهذا ما يجعل الثورة الديموقراطية بجذرها العلماني ركناً أساسياً في المشروع القومي الديموقراطي النهضوي.
إن الثورة الديموقراطية في العالم العربي أكثر تعقيداً منها في أوروبا القرن الثامن عشر، أو التاسع عشر. ففي أوروبا كان إنجاز الثورة الديموقراطية يتطلب إطاحة سلطة الإقطاع والكنيسة المتحالفين. وكانت هذه مهمة البورجوازية الغربية الظافرة التي تحالفت مع الطبقات الأخرى من الفلاحين والعمال. وقد فرض انتصار البورجوازية الرأسمالية والصناعية على الكنيسة في الغرب فصل ذروتي السيادة العليا، أي الدين ممثلاً بالكنيسة المسيحية، والسلطة السياسية، ما يعني فصل الكنيسة عن الدولة، وتحرير الدولة من هيمنة النظام العقائدي الديني الذي أصبح معوّقاً للحداثة والتقدم وغير محتمل وغير مقبول في معارضة النظام المعرفي الجديد المنافس الذي شكّلته البورجوازية، الطبقة الصاعدة في أوروبا.
وترافق مع خروج الغرب من النظام الرمزي الديني بوساطة الثورة العنيفة، صعود البورجوازية، وصعود السلطة الروحية الجديدة: أي العلمانية (بحسب تعبير بول بينيشو). وهي (أي العلمانية) أولاً وقبل كل شيء أحد مكتسبات وفتوحات الروح البشرية. وهي ثانياً موقف للروح البشرية أمام المعرفة التي تناضل من أجل امتلاك الحقيقة أو التوصل إلى الحقيقة، إنه موقف يحاول أن يكون منفتحاً وحراً إلى أقصى حد ممكن تسمح به الشروط السياسية والاجتماعية، وأيضاً التقدم المنهجي والمعرفي والتقني السائد في عصر محدد، ومجتمع محدد، بحسب تعريف محمد أركون. لا شك في أن العلمانية بما تعنيه من فصل الكنيسة عن الدولة، قد شكلت قطيعة معرفية ومنهجية ونفسية كبرى مع التصور الديني القروسطي للحياة والعالم في تاريخ أوروبا، وتعتبر أهم منجزات الثورة الديموقراطية في الغرب، لأنها عبّرت بالدرجة الأولى:
أولاً، عن الصراع والمجابهة بين العقل المسيحي الذي يدافع عن النظام الثقافي والمعرفي القديم، وبين العقل العلمي الذي يؤسس لنظام ثقافي ومعرفي جديد، والذي توّج بانتصار هذا الأخير، وتحقيق القطيعة داخل آلية عمل العقل الغربي نفسه.
ثانياً، عن الصراع بين الفضاء الديني والفضاء الفكري والعقلي.
ثالثاً، بين مفهومين فلسفيين للمعرفة القائمة على الإيمان الديني، والمعرفة القائمة على الحداثة الفكرية والعقلية، والعمل التاريخي السياسي المرتبط بهما.
رابعاً، بين رؤيتين متناقضتين لمصدر حقوق الإنسان والمواطن، أي بين الرؤية التي تقدمها التعاليم الدينية التي تطرح أولاً حقوق الله، وما على الإنسان إلا تقديم الطاعة والامتثال للسيادة العليا، باعتباره مديناً لها في سياق تواصل العلاقة الروحية القائمة بين الإنسان والله، حيث إن مفهوم الإنسان كشخص بشري في هذه الحال وحدة لا تتجزأ بين بعده الروحي والوجداني، وبعده الدنيوي الوضعي السياسي المدني، ويتفوق على مفهوم المواطن، وبين الرؤية العقلية التي تعترف بحقوق الإنسان والمواطن أولاً كما جاء ذلك في الإعلان الشهير الصادر عن الثورة الفرنسية عام 1789، والتي تقر بالمساواة السياسية والحقوقية بين جميع المواطنين في حقل المواطنة، ودولة القانون وأمام مؤسساتها، التي تضمن وتكفل حقوق المواطن في حياته المدنية والسياسية، بصرف النظر عن انتمائه الديني أو المذهبي أو العرقي أو الاجتماعي، حيث لا يجوز القبول بأي تمييز في الحقوق المدنية بسبب المعتقدات الدينية، إذ إن كل إنسان مواطن يمتلك الحرية الكاملة في الانتماء للدين الذي يريده، أو في عدم الاعتراف بأي دين.
ولهذا، فإن التحرر السياسي للدولة من الدين، أي تحررها من ذروة السيادة العليا التي كانت تخلع القدسية والمشروعية على هذه الدولة، وكذلك التحرر السياسي للإنسان من الدين، يمثّل انتقال الدين من ميدان الحق العام الى ميدان الحق الخاص، لكي يأخذ شكل قضية فردية خاصة محضة، لأن هذا التحرر السياسي هو حق يتعلق بالإنسان الواقعي، والفرد، ومواطن الدولة، وهو مقياس لحريته، لا في الأفكار والمعتقدات مهما كانت طبيعتها، بل أيضاً في الحياة الواقعية، حيث يعيش الإنسان حياة مزدوجة، سماوية وأرضية، حياة في الدولة السياسية باعتباره كائناً اجتماعياً، وحياة في المجتمع المدني، باعتباره فرداً خاصاً، ولأن عملية الانتقال هذه، هي التي ستشكل ولادة العلمانية للدولة السياسية من ناحية، وللمجتمع المدني من ناحية أخرى.
* كاتب تونسي