المراجعة وتنقية الذاكرة وإجراء جردة بالنجاحات والإخفاقات والمواقف الصائبة أو غير الصائبة، هي أمور جيدة وضرورية من حيث المبدأ. وهي تصبح جدية وفعلية، إذا ما جرى تجاوز الجزئيات إلى الأساسيات، وبما يؤدي إلى كشف الأخطاء وأسبابها وتحديد سبل التخلص منها. حتما، في حال وجود أو وقوع الأزمات تصبح المحصّلة مخيِّبة إذا أفضت المراجعة والتدقيق والجردة... إلى إبقاء القديم على قدمه لجهة المقاربات والشعارات والممارسات. لا يغير في ذلك تعديل في بعض أشكال العمل (إنشاء «مجلس وطني» مثلا!) التي يبقى نجاحها، واقعيا، محفوفاً بالكثير من المصاعب والتباينات والتنافس والفئويات.
يدور الكلام حول تحالف 14 آذار بالطبع، وهو تحالف كبير ومؤثر في المشهد السياسي اللبناني. انه يتقاسم السلطة (والمعارضة!) مع فريق الثامن من آذار على تفاهم وتجاذب وتناوب وتباين. التحالفان المذكوران يتحاصصان النفوذ والادارة والميزانية في نطاق النظام السياسي، الذي يتوسل الطائفية والمذهبية أداة لاستقطاب مقرون دائماً بالانقسام ومشرّع على الخارج للاستقواء به حفاظاً على توازن ما أو طلباً لتعديله.
يُسجَّل على فريق 14 آذار أنه ارتضى نقل الوصاية من «عنجر الى عوكر»

لا مشكلة في لبنان بسبب طبيعة نظامه. هذا ما تجمع عليه مكونات تحالف 14 آذار أحزاباً ومستقلين (ولاحقاً منظمات مجتمع مدني وفق صيغة المجلس الوطني العتيد؟!).
إن كل ما يعيشه البلد من انقسامات وأزمات وتعطيل مؤسسات، ومن تمديد وفراغ رئاسي ودستوري، وما تعانيه الإدارة من ترهل وعجز وفساد، وما كابده اللبنانيون من حروب أهلية وتشرذم ووصاية واحتلال ... هذه وسواها من المسائل الخطيرة، أمور معزولة عن نظامنا السياسي، وعن طبيعة وآليات عمله. إنها، مرة أُولى، مسؤولية «اليسار الدولي»، وثانية بسبب التدخل «الشقيق»، وثالثة بسبب «حروب الآخرين على أرضنا»...
لا تُخضع أطراف تحالف 14 آذار، بمن في ذلك يساريون سابقون التحقوا بها، النظام السياسي لأي مراجعة أو مساءلة. هي، فقط، تركّز على الجوانب السياسية الراهنة: الدور السوري. الصراع في سوريا. سلاح «حزب الله». الخطر الإيراني. المشاركة في السلطة. توازنات المحاصصة وتعميم مفاعيلها...
استناداً إلى هذا السياق في التركيز على السلطة والحصص، تجتهد وثائق 14 آذار لتأكيد أنها تمثل أكثرية اللبنانيين، من ضمن تشكلهم الطائفي والمذهبي الراهن. وبما أن النواة المحركة «فكرياً» للتحالف المذكور ذات «سوابق» يسارية، تتكرر دائماً، ومن أجل إضفاء طابع وطني على التحالف المذكور، عبارة، أنه تحالف «عابر للطوائف». ببساطة، ثمة من يريد إيهام الناس بأن تجمع ممثلي (أو ممثلين عن) طائفتين او ثلاث طوائف يتحول الى حالة وطنية ! لو كان الأمر كذلك لكان النظام التحاصصي الطائفي اللبناني هو النظام الأمثل في
العالم!
قيل في عدد قليل من الأحزاب اللبنانية إنه «عابر للطوائف»، ليس فقط بسبب تنوع عضويته، بل، بالدرجة الأولى أيضاً، بسبب برنامجه غير الطائفي والموجه، في جزء اساسي منه، لإلغاء المحاصصة الطائفية والمذهبية من النظام السياسي اللبناني. لا ينطبق هذا الأمر على تحالف 14 آذار، وهو لا يريده أصلاً! (كذلك على معظم تحالف 8 آذار).
يلامس بيان 14 آذار الأخير، أيضا، مسألة العلاقة مع الخارج، وهي مسألة خطيرة ايضاً، على نحو فئوي كالعادة: «نريد صناعة المستقبل بأيدينا، لا ان يصبح هذا المستقبل رهينة امبراطورية من هنا او ديكتاتورية من هناك أو ورقة تفاوض بين الآخرين». المقصود «امبراطورية الفرس وديكتاتورية بشار»، والتفاوض حول الملف النووي الايراني. أما العلاقة مع المملكة السعودية، وطبيعة النظام الملكي المطلق القائم فيها، فلا تعنيان المؤتمرين بشيء! المشكلة ليست إذاً في التبعية لخارج ما، أو في الاستقواء به ضد «الشريك» في الوطن، بل في ذلك الخارج نفسه، وفي سياساته وتحالفاته... وعبثاً يحاول هنا «منظرو» الأمانة العامة ادعاء موقف مستقل إذا جرى استمرار التعامي عن الخلل في العلاقات الداخلية والخارجية، أو تحميل مسؤولية ذلك لطرف واحد دون سواه. هنا ايضاً، يفتقر نهج «الأمانة العامة» إلى الأمانة في كشف الأخطاء، وبالتالي إلى القدرة على معالجتها لمصلحة الوحدة الوطنية والسيادة والاستقلال.
على قاعدة هذين الاختلالين تكر سبحة البيان الختامي بوصفه تعبيراً سياسياً عن وجهة نظر طرف من اطراف الصراع السياسي، المحلي والاقليمي، الذي تقف على رأس أحد محوريه قيادة المملكة السعودية بكل ارتباطاتها القديمة والجديدة (بالولايات المتحدة وحلفائها، أي بالقوى التي استعمرت بلادنا فترات طويلة، ثم واصلت محاولة الهيمنة عليها بأساليب سياسية واقتصادية وعسكرية، منذ ما يزيد على قرن حتى اليوم).
فقط انعدام الموضوعية هو الذي يجعل البيان الختامي يرى أن «أصل الارهاب هو النظام السوري» لا الصهيونية أو المذاهب التكفيرية أو سياسات الاغتيالات والغزو الصهيونية والاستعمارية...واستخدام ذلك من قبل واشنطن خصوصاً، في صراعات تعود الى أواسط القرن الماضي (حروب كوريا وفيتنام ودعم اغتصاب فلسطين وتجنيد المتطرفين التكفيرين مرتزقة في حرب افغانستان...) وصولاً إلى تدمير غزة في الصيف الماضي...
ذلك لا يعني أبداً اعفاء الآخرين من أخطائهم وارتكاباتهم، لكن، على الاقل، لا يجوز جعل الحقائق والمعطيات الموضوعية رهينة فئويات مغرضة أو حسابات لا تقيم وزناً لعقول الناس ولقدرتهم على تقييم الأمور.
يُسجَّل لفريق 14 آذار دور شبه حصري في عملية احتجاج شعبي كبير بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري قبل 10 سنوات، لكن يُسجَّل عليه أنه ارتضى نقل الوصاية من «عنجر الى عوكر»، في تناغم مع أهداف الغزو الاميركي للعراق عام 2003، وفي اطار «مشروع الشرق الوسط الكبير». ويُسجَّل على هذا الفريق أنه لم يتردد، في المواقف والعلاقات والإعلام، في تكرار مطالب العدو الاسرائيلي (وخصوصاً عام 2006) لجهة القضاء على المقاومة ونزع سلاحها وعزلها... إن إلحاق لبنان بالسياسات والمشاريع الأميركية والرجعية العربية لا ينسجم أبداً مع شعارات السيادة والاستقلال. لا ينسجم معها أيضاً إعفاء العدو الصهيوني من كل استهدافاته للبنان واعتداءاته عليه، واعتبارها مجرد حروب «مفتعلة» من قبل «حزب الله» لغايات محلية أو
خارجية.
ليست مقاربة بيان 14 آذار للصراع السني – الشيعي ولدورها هي فيه محلياً، اكثر صوابية أو أقل فئوية! جميع الموبقات والارتكابات، هنا أيضا، تلقى على الخصم حصريا!
في مثل هذه الأجواء، لم يكن مستغرباً ألا تُطرح اسئلة من نوع: لماذا غادر صفوف 14 آذار لاعبون كبار (وممثلو طوائف) كالعماد ميشال عون ورئيس اللقاء الديمقراطي وليد جنبلاط؟ لماذا تتراجع، باستمرار، وحدة هذا التحالف ويتراجع معها نفوذه ودوره؟
ليس غريباً، بعد كل ذلك، أن يتعامل فريق «الامانة العامة» مع ردود الفعل الطبيعية على البيان، وما ورد فيه من احكام واتهامات ومواقف، على طريقة «ضربني وبكى..». في جانب، يريد هذا الفريق تعزيز فرص استعادة موقع ودور... وفي جانب آخر يريد تكبير حجم وأهمية مشروع إنشاء «المجلس الوطني»، الذي يُراد منه معالجة تجاهل وتهميش المستقلين والأحزاب الصغيرة.
ليس غريبا أن يكون الرئيس فؤاد السنيورة هو من قرأ البيان. إنها محاولة واضحة للاعتراض على حوارات تجري في هذه المرحلة، ولم يذكرها بيان السنيورة إلا ضمنا: من باب إطلاق النار عليها تحديداً!
حبذا لو كانت تلك الحوارات عنوانا لمراجعة تتوسع لتشمل كل المشاركين فيها وكل المواضيع، وبما يتيح، لاحقاً، الانتقال إلى حوار واسع من أجل إنقاذ لبنان!
* كاتب وسياسي لبناني